|
في حالة الثورة المصرية التي اعقبت الثورة التونسية مباشرة او كانت امتدادا لها لم يكن الانتقال السلمي والآمن للسلطة ان يتم لاي طرف اخر كما تم للجيش الذي اجمعت عليه اغلب القوى والتيارات الثورية والشعبية هناك واستظل بمظلة التوافق الوطني في الموقف الجمعي منه لعدم توفر البديل المقبول محليا ودوليا للقيام بمهمة استلام السلطة عوضا عن النظام الساقط كخطوة اولى على طريق التغيير والانتقال بالبلد من حالة الثورة الى حالة الدولة المستقرة بشروطها وقواعدها الجديدة.
ولا أعتقد ان المصريين كانوا سيهتدون الى مثل هذا التوافق على اي بديل اخر لو لم يكن الجيش في الموضع الذي جعلهم يتوافقون عليه على نحو ما جرى لاعتبارات ومزايا وطنية عديدة ربما لم تتوفر ولن تتوفر لغيره.. وبالتالي فما كان للثورة ان تحسم امورها مع النظام في غضون ايام معدودة وما كان لها ان تنجز مقاصدها او تجني ثمارها الوطنية او تصل لحالة الاستقرار التي وصلت اليها اليوم لو لم يفز الجيش بحظوتهم الغالبة في الإجماع عليه لتحمل هذه المسؤولية التاريخية الجسيمة التي تحملها بجدارة عنهم. فجنبوا انفسهم بذلك مخاطر الانزلاق في غياهب الفرقة والشقاق ومتاهات التفكك والانقسام التي كانت ستبعثر جمعهم وتشتت شملهم وستحتاج الى وقت طويل ومثله من الجهد والعناء قبل ان تعود بهم الطرق الى وضعهم الطبيعي وهم يجرون اذناب الخيبة والندم مقرونة بالحسرة والخسران المبين.
ولئن تجاوزت الثورة المدنية في مصر اليوم هذه المآلات بفعل حكمتهم المعهودة كشعب عريق وراقي له امتداداته التاريخية المشهودة في كل الحضارات الانسانية وحرصهم المشترك على سلامة الوطن من مساوئها الاليمة التي كانت تحدق بهم, فإن للثورة في اليمن ان تتحلل من الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي والعسكري المعقد الذي انبثقت منه اليه بكل ما فيه من تناقضات واختلالات وارهاصات ونزعات قبلية ومذهبية ومصلحية وسياسية وثقافية متطرفة او متعصبة في احسن الحالات ولا تجيد التخاطب مع بعضها البعض الا بلغة القوة ومنطق السلاح الذي يتدججون به افرادا وجماعات اما لفرض مطالبهم ونيل حقوقهم واما لحماية مصالحهم واثبات وجودهم كيفما اتفق لهم الامر, وهو المنطق الوحيد الذي ظل النظام يدعمه ويعززه لديهم ويغذيه بينهم طوال سنوات حكمه حتى صار الطابع الغالب لهم في الوعي والسلوك!!
في حالة الثورة اليمنية انقسم الشعب الى فريقين بين مؤيد للثورة ومناصر للنظام, قابله على الجانب الاخر انشقاق مماثل في قوام الجيش (العائلي) ايضا ادى ضمن ماادى اليه من تداعيات الى عرقلة الثورة عن مواصلة مسيرتها نحو التغيير وانحسار توجهها في الزاوية الضيقة (الاستمرار في الاعتصامات) بسبب التوترات العسكرية التي صاحبت ذلك مع كثيرا من المخاوف الامنية التي انسحبت آثارها على الشعب كله وشكلت عقبة كأداء في طريق الثورة.. والطريق التي نقصدها هنا ليست تلك التي تؤدي لاسقاط النظام.. فالنظام قد سقط (حكميا) ان لم يكن قد سقط (فعليا) منذ ان وقع قادته مع قادة احزاب المعارضة على مسودة المبادرة الخليجية على الاقل من الناحية المنطقية ناهيك عن القانونية, وبصرف النظر عن الشق الذي يخص او يتعلق بالرئيس فيها, فالرئيس قد رحل هو الاخر ولم يعد توقيعه عليها من عدمه مهما او مطلوبا الان كما كان من قبل.. غير ان ما يجعل النظام قائما حتى الان بصورته الراهنة انما يتمثل في ذلك البند الذي نصت عليه بخصوص رفع مظاهر التوتر الامنية بين الجانبين كشرط لتطبيق بقية البنود التي تضمنتها هذه المبادرة بصيغتها الثالثة وهو الشرط الذي جعل النظام يلتحق بساحات الثورة بشكل او باخر للهروب من التزاماته الوطنية والقانونية والاقليمية والدولية تجاه تنفيذها بقصد الالتفاف عليها والتخلص منها وتعطيل امكانية العمل بها بعدما وقع عليها شعر وبات مفروضا عليه تنفيذها, ويبدو انه قد نجح في ذلك الى حد بعيد حتى الان.
وتأسيسا على هذا فانه يمكن القول بان توافق الجميع على المبادرة بات فرضا وطنيا ملحا عليهم لتجنيب الوطن مخاطر وويلات ما قد يترتب على اسقاط النظام باي خيار اخر غيرها من صراعات وحروب دموية سيختلط نزيف الدم القبلي فيها بالاهلي والسياسي والمذهبي والعسكري والانقصالي والثوري والحوثي ولن يتوقف.
ان لحظة السقوط ومرحلة مابعد السقوط هي المرحلة الاخطر والاصعب من كل المراحل السابقة التي مرت بها الثورة حتى الان وتحتاج الى حكمة وطنية بالغة النفاذ والدقة في التعامل معها بحكم خصوصية الواقع اليمني وانفراده بطابع سياسي واجتماعي وثقافي وتقليدي وديني وعسكري شديد التناقض وشديد التوتر ولا يخلوا من التربص القديم والجديد في محيط اقليمي قدم لنا مبادرة على مضض بضغط وحياء دولي وعلينا ان نتوافق عليها باعتبارها الحامل السياسي الفاعل لانتقال السلطة اثنا وبعد السقوط بصورة آمنة.
وينبغي ان نعلم هنا بانه لا مصلحة لأحد في اليمن او خارجها اقليميا ودوليا في حل يحبــط أو يعيق الحل السياسي. ولا مصلحة للشعب في دفع تكلفة مفزعة من أجل إسقــاط نظام نستطيع ان نسقطه سياسيا ان وحدنا صفوفنا واتفقنا على كلمة سواء بيننا و(بينهم) لنبدأ بالتغيير الذي يستجيب لحاجة الشعب ويحقق تطلعاته المدنية، فإن اعتمدت سياسات القوة والتطرف من جهة والزحف من جــهة أخرى لحسم الامور بين الطرفين فلن يخرج النظام والشعب من دوامة الصراع والعنف إلا وهما مهشمان هذا طبعا اذا فعلا خرجا بعد وقت طويل، على انهما سيخرجان بسلام وامان إن هما اعتمدا نهــجا يؤسس لحالة انتقالية للسلطة بطريق امن وسليم ونجحا في جعل مطلب الحرية الشرعي أداة لمنع صراع دموي ومجنون بينهم ومع أطراف قبلية وسياسية ومذهبية ومناطقية وانفصالية اخرى متخلفة، من شأن توسعه وسيطرته على الشارع ان يسد طريق الحرية، وسيقود الى تكسير وتقويض كل شيء في بلادنا: من الدولة إلى المجتمع والسلطة والحياة الوطنية، وخراب وطننا إلى زمن يعلم الله وحـده كم سيطول، طالما تمسك كل طرف منهم بمبداء القوة لفرض نفسه على الاخر فسيأخـذنا ذلك إلى فوضى معمــمة وتفــكك شامل، وسيطلق موجات من العنف لم تشهد اليمن مثيلا لها في تاريخها الطويل، الأمر الذي يسوغ خوف جمـهرة المواطنين الواسعة جدا من تفاقم الأمور، ويفسر إلحاحها على حل سياسي/ سلمي/ أخوي مفتوح على تفاهم تدريجي يصون السلم الأهلي والمدني والسكينة العامة،يقوم على تلبية مطالب الشعـب بصورة عاجلة وعادلة. ولا يجــب أو يجوز أن تكون هناك مصلحة لأحد في فتنة تقوم أو تدوم بيننا، فالــبلد منهك، والنظام ملزم بنقل السلطة وبضغوط دولية ولا يستطيع الهروب منها, وبدورهم، يقول المتظاهرون: سلمية، سلمية ـ حرية، حرية ـ الشعب اليمني واحد. ومن واجب الجهتين الضرب بيد من حديد على رأس المجرمون، أينما وجدوا وكائنا من كانوا، لأن إجرامهم وإجرام من يساندونهم يستهدف تعطيل آّلية العمل بالمبادرة الخليجية التي لاقت قبولا محليا ودوليا لبناء عقد وطني جديد يخرجنا سلميا وسياسيا من أزمة يعمقونها ويسعرون نارها، دافعين بالبلاد والعباد إلى هاوية سحيقة تكاد تكون بلا قاع.
ليس الوضع سهلا، وهو يزداد تعقيدا وصعوبة. والمواجهة التي ترتسم اليوم ليست بين السلطة وحزب أو قلة، وهي لا تدور في ظل غطاء سعودي او اقليمي او دولي يساند نظاما يمتلك قواعد شعبية واسعة، فالأمر أبعد من ذلك وهو متشابك ومتفاقم ومتأزم.
ونقل السلطة بغير المبادرة امر محفوف بالمخاطر والمصاعب القاتلة, والفراغ الدستوري سيؤدي الى توزيعها بين مختلف القوى المتربصة بالثورة والنظام سويا.
لهذا كله، تبرز الآن ضرورة بالغة الأهمية في تشكيل مجلس لقيادة الثورة من مختلف التيارات التي شاركت فيها، في ظل حماية القوات المسلحة المنشقة عن النظام، يتولى مهمة إدارة شئون البلاد وتلبية مطالب الجماهير وفقاً للمبادرة وبحسب التصورات والترتيبات التي ترتضيها تلك الجماهير دون نقاش.
إن عناصر قوة الثورة تتمثل في كونها ثورة شعبية عفوية دون قيادة، تكاد تصبح اليوم أخطر عناصر الضعف التي قد تصيبها بالوهن وتسهل من عملية تشتيت جهودها والتفريط في مكاسبها المحدودة، وتصادر فرص مواصلة تحقيق تلك الأهداف حتى تكتمل الثورة وتحدث بحق تغييراً جذرياً في بناء الدولة اليمنية الجديدة بطرق ووسائل سلمية يعكس عظمة وعبقرية ونحضر الشعب اليمني.
في الخميس 11 أغسطس-آب 2011 05:49:12 ص