قدمٌ في إسرائيل وأخرى في إيران
بقلم/ أمين اليافعي
نشر منذ: 16 سنة و 5 أشهر و 26 يوماً
الأحد 18 مايو 2008 07:15 م

مأرب برس - خاص

احتفل زعماء العالم في الأيام الفائتة بالعيد الستيني لميلاد إسرائيل " الدولة "، واعتبر البعض هذا الميلاد ميلاداً مجيداً جمعياً!.. و بهذه المناسبة كانت للرئيس الأمريكي جورج بوش كلمته الخاصة في قاعة الكنيست.

وقد جاءت هذه الكلمة في سياق تطميني لجملة من القضايا ما زالت تؤرق العقلية الإسرائيلية وتشد عليها الوطأة بين لحظةٍ وأخرى؛ كقضية علاقتهم المتوترة بالمكان أو كما وصفها عالم الاجتماع الإسرائيلي "جدعون آرن " بالتوجس الأزلي من إمكانية الوجود داخل مكان معين، ومدى صمود هذا المكان المبني وفق الأساطير التوراتية في وجه العالم الحقيقي! خصوصاً حقيقة وجود دولتهم الحالية والتي قامت على أساس إزاحة لحقيقة كانت ولا زالت قائمة، في منطقة يفرض واقعها ـ من خلال تجليات ثقافاته وحضاراته راسخة الجذور ـ حقائق على شاكلة الاستعداد الدائم لإزالة هذا النتوء ورميه إلى البحر في أقرب فرصة سانحة.

ولم تخل كلمة الرئيس بوش ـ بجانب صك الحماية الأبدي واستمرارية متانة العلاقات وكم المدائح ـ من الوعيد بالويل والثبور لمن يقف في طريق أمن الدولة الإسرائيلية أو يهدد وجودها ولو مجرد التفكير في ذلك !.. كما تمنى لهذه الدولة طول العمر، واحتفالاً ستينياً آخراً ..

وفي الجانب الآخر، اهتمت الأوساط السياسية العربية بهذا التمثيل الدولي رفيع المستوى الذي حضر الاحتفالية، وبكلمة بوش على وجه الخصوص، وخصصت وسائل إعلامها الجزء الأكبر من مواضيعها للوقوف عند قراءة ملابسات هذا الحدث، كاظة قنواتها الفضائية بالمنظّرين والمحللين من مختلف الجهات والأطياف في محاولة منها للإمساك بخيطٍ ما في هذه القضية المؤرقة.

وقد كان من الطبيعي أن يفرد الأعلام العربي لهذا الحدث اهتمامه، وربما كان يتطلب الأمر أكثر من ذلك؛ فأي مواطن عربي لا بد وأن يعتريه القلق والانزعاج نتيجة هذا الحضور الدولي الكبير وكلمة الرئيس بوش التي أعطت الحق والشرعية لإسرائيل في المضي قدماً بارتكابها للجرائم في حق شعوب المنطقة بدعوى حماية أمنها؛ إذ عكس هذا الاحتفال بصورة أوضح طبيعة تواجد وحجم تأثير هذه الدولة " العدو " على الساحة الدولية.

لكن ما أثار انزعاجي وحزني شخصياً ـ وعلى نحوٍ بالغٍ ـ ليس حجم الحضور الدولي ولا كلمة الرئيس بوش في الكنيست رغم أهميتهما كما ذكرت، بقدر ما أزعجتني الطريقة التقليدية والمتلعثمة التي تعامل بها المحللون في وسائل أعلامنا المختلفة عند قراءتهم لهذا الحدث ومحاولة فهم خلفياته المتعددة؛ والتي انطلقت من مستنقع رؤيتنا الراكدة لطبيعة وحجم التأثير الإسرائيلي على الخريطة الدولية (سواء كان هذا التأثير عن طريق الأقليات اليهودية المنتشرة في أرجاء العالم " أمريكا تحديداً " أم كان عن طريق الدولة ذاتها) والتي أوصلتنا في مراتٍ كثيرةٍ إلى حد تأليه هذا التأثير، والانحناء عند عتباته باعتباره أمراً قدرياً لا يمكن الإحاطة به، فهو من يُدبّر ويُحدد سياسات وأمزجة وجداول أعمال هذه الدول!..

وقد حالت ـ هذه الرؤية الاستسلامية ـ بالتأكيد دون سعينا الجاد لفهم طبيعة وجود وبقاء هذا التأثير بذات الفاعلية وفي دول مختلفة، وفهم الطبيعة التي تُسيَّر بها السياسة الدولية.. وألحقت أشد الضرر بقضيتنا الكبرى في العصر الحديث (وقضايانا الأخرى أيضاً من حروبٍ وإساءات إلى مقدساتنا وغيرها!)، وبمستوى تمثيلها الدولي، وعثّرت خطانا في سبيل الوصول إلى استخدامنا لورقة المصالح الرابحة في تعاملنا مع القوى العالمية الفاعلة لخلق لوبي ونفوذ عربي فيها قادر على إيجاد توازن ما في مجابهة إنفراد اللوبي والنفوذ الإسرائيلي..

وتأتي القراءة التي قدّمها المحللون العرب لتفسير حجم هذا الحضور الدولي للاحتفال بقيام الدولة العبرية في ذات الزقاق الضيق؛ باعتبار هذا الحضور حضوراَ خالصاً للاحتفال بذات إسرائيل المقدسة (وربما إرجاع الدَّين لها نتيجة فعل المحرقة الشنيع) وعلى نحوٍ مثالي دون الوضع في اعتبارهم المصلحة والغرض الحقيقي المترتبَين على هذا الحضور.

فإسرائيل ـ كما يؤصل لذلك الدكتور عبد الوهاب المسيري في كُتيبه "من الانتفاضة إلى حرب التحرير الفلسطينية" ـ لا تكمن قداسة وجودها في كونها إسرائيل فحسب، بل تكمن في كونها استثمار استراتيجي مهم بالنسبة للولايات المتحدة وللدول الغربية عموماً باعتبارها أخر جيوبهم الاستعمارية. وقرار دعمهم لها يستند إلى حسابات مصلحية دقيقة تتمثل في الطريقة الأسهل والأقل تكلفة لحماية مصالح الدول الكبرى في هذه المنطقة الحساسة.. ويؤكد المسيري في كُتيبه هذا أن الحضور اليهودي في الدول الغربية لا يعكس بالضرورة حجم نفوذهم وتوجيههم للقرار السياسي كما نتصور، فـ " كلينتون " الذي حصل على عدد كبير من أصوات اليهود على عكس " نيكسون " الذي لم يحصل على أكثر من 20%، وكان دعم نيكسون لليهود أكبر بكثير من دعم كلينتون.. أيضا موقف هولندا وإنجلترا المتسم بالدعم الكامل لإسرائيل رغم أن الدولة الأولى لا يوجد بها يهود تقريباً والثانية بها جماعة يهودية آخذة في التناقص ومندمجة في المجتمع الإنجليزي وهزيلة لأقصى حد. بينما نجد أن فرنسا التي توجد فيها جماعة يهودية قوية نشطة وذات نفوذ تتخذ مواقف أكثر اعتدالاً..

فالمسألة إذن في الأخير هي مسألة حسابات مصلحية دقيقة تتم بين الطرفين.. ولهذا لم تأتِ زيارة الرئيس بوش وكلمته في الكنيست بهدف تأدية مناسك الطاعة والولاء الأبدي لإسرائيل المجيدة فحسب كما تصور محللوننا، بل جاءت في إطار استغلال هذا الحدث في سبيل المضي قدماً لحشد المجتمع الدولي ـ و الدول الفاعلة بالذات ـ لشن الحرب ضد إيران..

ونستطيع أن نلحظ هذا الهدف البوشي ببساطة ـ من خلال كلمته ـ التي تركزت حول إيران وخطرها، حتى بدا ـ من كلمته ـ وكأن الدولة العبرية لا يهدد وجودها سوى الخطر الإيراني (لم يشر إلى الخطر الذي يمثله الجانب العربي ـ باستثناء حركات إرهابية بسيطة على حد وصفه ـ !.. ربما تكون مرحلة الخطر العربي قد ولى أمرها!).

فمسألة إيران ـ كما هو واضح من مواقفٍ دولية عدة ـ تثقل كاهل الجناح اليميني في الولايات المتحدة خصوصاً المرتبط بشركات النفط (كوالد الرئيس بوش ونائبه ديك تشيني)، وتوجد أسباب عدة تنطوي تحت وطء هذا الإثقال أهمها المحاولة الأمريكية لإحكام السيطرة على مناطق الطاقة العالمية، وضمان تدفقها في المستقبل (لما يمثله موقع إيران من أهمية بالغة؛ فهو المطل على الخليج العربي الغني بالنفط، وعلى دول آسيا الوسطى الاحتياطي الأكبر للطاقة العالمية).. إضافة إلى الخط الذي انتهجته الثورة الإيرانية منذ قيامها في عداءها العلني للقوة العظمى في العالم ولمصالحها الاستراتيجية (كان الشعار الذي قامت عليه الثورة: ""الله أكبر، الموت لأمريكا، الموت لإسرائيل، اللعنة على اليهود، النصر للإسلام..").. وتوغل النفوذ الإيراني الكبير والحاصل في السنوات الأخيرة في منطقة تُعتبر ذات هوى أمريكي خالص..

وقد استفادت الإدارة اليمينية الحاكمة في الولايات المتحدة من احتفال إسرائيل بمولدها الستيني ( كما استفادت في المقابل إسرائيل من التوجهات الإمبريالية لأمريكا لدعم وجودها، ومن هذا الموقف بالذات) لإيصال رسالة قوية ومؤثرة للدول الغربية وللداخل الأمريكي ـ الذي يَعتبر وجود إسرائيل ثابتٍ لا يمكن التفريط به، وأيضاً لا يريد الحرب مع إيران ـ ولفت انتباهه إلى الخطر الإيراني المهدد لهذا الوجود، والداعي علناً لإزالة إسرائيل من الوجود، وكأنها تقول لهم في هذه المناسبة: إذا أردتم حماية أمن إسرائيل ـ المقدس لديكم ـ ولتنعم بعيد ميلاد ستيني آخر؛ عليكم المبادرة لإزالة الحكومة الإيرانية المتطرفة!!..

لكن كالعادة، لم يلتفت أحد من محلليننا إلى هذا الغرض من زيارة بوش التاريخية في هذا الاحتفال حتى نستطيع في حالة فهمنا كافة خلفياته توظيف الموقف لصالح قضيتنا الأم، واختزل محللونا الزيارة في غرض معين شديد الضيق بدا وكأنه يسير في وادٍ، بينما السياسة الدولية تسير في وادٍ آخر.

ولم نستفد قط من مسألة الصراع الإقليمي الجاري حولنا لخدمة قضايانا العربية كما يستفيد الآخرون من قضايانا، بل تخطفتنا هذه القوى المتصارعة شرقاً وغرباً دون أن نستطيع الالتقاء عند نقطة معينة!..وربما كان الشيء الوحيد الذي حصلنا عليه ـ مع الأسف الشديد ـ من عوائد الصراع الإقليمي ما يحدث حالياً في العراق ولبنان !!!.