ديمقراطية نساء الجوف
بقلم/ أحمد عايض
نشر منذ: 17 سنة و شهرين
الجمعة 26 أكتوبر-تشرين الأول 2007 11:48 م

مأرب برس - الجوف – خاص

على بعد أكثر من أربعين كيلومترا من عاصمة محافظة الجوف مدينة" الحزم " حططت رحالي لأقوم بجولة ميداينه في أعماق أحد قبائلها شهرة وعنفوانا إنها قبيلة بني نوف التابعة للقبلة الأم " دهم الحمراء حيث التقيت فيها بـ" عايض النوفي " رجل في الخمسينات من العمر متواضع الهيئة ثيابه ترسم معالم المعاناة التي يعيشها أبناء الجوف , وملامح وجهه تلوح فيها مرارة الأيام وقسوة السنين , لكن ابتسامته العريضة لم تغادر محياة طيلة حديثنا مع بعض عن الجوف وأهلها وعاداته وتقاليده .

استضفت الرجل عند أحد أقربائي في محافظة الجوف وفي منطقة تسمى الممراخ قرب " المصلوب "وبعد غداء دسم ومنوع ببعض الوجبات اليمنية الشهيرة كالحلبة والعصيد وغيرها, انتقلنا إلى أحد الدواوين الشعبية لنقضي الوقت في تخزينه القات , ورغم أنني لست من هواته لكن مجاملةً تصدرت المجلس وتناولت القات الذي كان من أفضل ألأنواع التي تباع في أسواق الجوف كما يقولون , لكنة في حقيقة الأمر نوع غير مقبول تناوله في معظم محافظات الجمهورية , وذالك أمر عائد لتجار القات حيث يتم تصدير أردى الأنواع إلى هناك .

وفي المجلس الذي ضم أكثر من ثمانية أشخاص تجاذبنا أطراف الحديث وخضنا في تفاصيل طويلة , وفي اليوم التالي قمنا بزيارة ميدانية لعدد من أبناء تلك المديرية فكانت هذه حصيلة الزيارة ولتكن البداية - مع أكثر الملفات شهرة وتنوعا وهو موضوع الزواج في الجوف .

تعدد الرجال في حياة المرأة

قد يثير العنوان الكثير من التساؤل كيف يتعدد الرجال في حياة المرأة, نعم فتلك حقيقة قلما نجد لها نظيرا في معظم محافظات الجمهورية .

المرأة في الجوف مرآة مًزواج وكذالك الرجل , ولا يوجد مانع في أن تقوم المرأة بالزواج بأكثر من رجل في فترات متقاربة بعد طلاقها من زوجها الأول .

 أعود إلى صديقي عايض النوفي عندما سألته " ما هو أكبر رقم عرفته في حياتك عن امرأة تزوجت أكثر من الرجال ؟ ضحك عاليا وقال أكثر امرأة قد عرفتها تزوجت بأكثر من " 25" رجلا خلال سنوات عمرها الخمسين الماضية .

أبناء محافظة الجوف لا يجدون مانعا في تعدد الزوجات , ولا توجد لديهم أي مشاكل في أن الرجل يتزوج بامرأة ولو تزوجت بالعديد من الرجال قبله , كما أن النساء لا يجدن كذالك مانعا أو حرجا في ذالك كون ذالك أصبح عرفا سار عليه الناس وجرت علية العادات والتقاليد .

عايض النوفي يقول عن نفسه أنه قد تزوج بأكثر من ثلاثة عشره زوجة , ومازال يفكر في الزواج من أخريات .

لعل البساطة في الحياة الزوجية والمعيشية في حياة أبناء الجوف قد تكون من أهم الأسباب التي سهلت على الطرفين الانطلاق في خوض عالم لا تقيده تعقيدات العصر ولا مسئوليات الالتزام بين الطرفين .

فالزوج لا يفكر في شيء أسمة منزل أو أثاث أو أي متطلبات أخرى , فخيمة أو عريش من القش يكفي أن يكون عُشا لحياة زوجية ربما لا تدوم إلا لساعات وقد تستمر لسنوات طوال .

يتمتع الخاطب والراغب في الزواج في محافظة الجوف بسقف عالي من الحرية في زيارة من يرغب في خطبتها ولقائها والجلوس معها لساعات طوال وفي منزل أبيها وأمها , كون الجميع ينظر إلى ذالك نظرة لا وهم فيها ولا شكوك .

فعلي سبيل المثال أن "فلان من الناس يذهب إلى من يرغب الزواج بها يوصف في هذه الحالة من قبل أبناء القبيلة أنه يتخطب – والتخطب - مرحلة يمر بها الطرفان ليعرف كل واحد الآخر عن قرب , ولا يوجد مانع أن يزور الخاطب مخطوبته - وأنا أطلق هنا " كلمة مخطوبته " مجازا - لأنة نادرا والنادر لا حكم له أن يوجد شيء أسمة الخطوبة عند أبناء الجوف لأنة بعد موافقة الطرفين تعلن مراسيم الزفاف

التي قد تسمر لساعات فقط حتى يصبحا زوجين يجمعها رابط شرعي .

ورغم هذا المناخ العالي من حرية إنفراد الرجل بالمرأة ’ فإن ملامح العفة تسيطر على الكثير من تلك العلاقات التي تنشأ بين الطرفين وثقة يمنحها المجتمع لكل من يسير في ذالك الدرب .

من المرعي إلى أحضان العريس

لا تولي الفتاة نفسها أي اهتمام عندما تعلم أنها ستزف إلى عريسها , ولربما بل وكما هو حاصل في كثير من الأحيان تعود الفتاة من رعي الأغنام وتُجهز قبيل الزفاف بساعات , وتدخل على " فارس أحلامها " .

بل ستأخذك الدهشة عندما تعلم أن مراسيم الزفاف تتمثل في إطلاق بعض الأعيرة النارية جوا , حيث يقوم العريس بذبح عدد من رؤؤس الأغنام ولا توجد دعوات زفاف ولا صالة أفراح ولا شي فعند سماع تلك الأعيرة النارية يعلم الناس أن هناك عرس فينطلقوا إلية , بل وتعد مناسبة و فرصة لتناول وجبة دافئة ودسمة من الحم والرز .

وفي المساء يأتي بعض زملاء العريس للسمرة التي لا يتخللها ولا يوزع فيها شيء من العصائر سوى الشاي .

وبعد ساعات يتم إدخال العريس على عروسة أو كما يعبر عنها أبناء الجوف الزج بالعريس إلى عروسة .

وفي الساعات الأولي للقاء العريسين , تتم الكثير من المفارقات العجيبة في الحياة الزوجية لدى أبناء هذه المحافظة ,فمن غير المستبعد أن تغير العروس قرارها في تلك اللحظات التي كانا ينتظرانها على أحر من الجمر وتغادر العروس عشها وتهرب من أحد أطراف تلك الخيمة أو الغرفة التي بنيت من بعض الأخشاب والقش أو منازل الطين في أحسن الأحوال .

ديمقراطية قرب سرير النوم

كشف لي العديد من الشباب عن مفارقات غريبة جدا في سرعة تبدل رأي الفتاة في شريك حياتها بعد دخولها الحياة الزوجية.

 يقول حمد بن صالح شاب في نهاية العشرينيات من عمرة أنه يعرف العديد من أبناء القبيلة تزوجوا وفي نفس الليلة " شردت " أي هربت عرائسهم رغم أن كلا الطرفين قد سبق لهم لقاءات عدة ووافق كل منهم أن يكون شريك للآخر.

ومع ذالك فإن مثل هذه ألأحداث تمثل مواقف عادية عند أبناء القبيلة لأن ذالك تصرف " عادي " ولا مانع في أن تغير رأيها ولو في ليلة الدخلة ولا يمكن لوالديها التدخل في ذالك كونها حرة في قرارها وهي من ستعيش حياتها الزوجية مستقبلا .

أحينا قد لا نجد مبرر لتلك التصرفات الغير منطقية من قبل الفتيات لكن شباب القبيلة قد تعودوا على مثل هذه المظاهر بل بعضا منهم يصف الزواج بقولة أنه " حظ يا نصيب " .

ويضف حمد بن صالح أن بعض الشباب قضوا أُشهر طوال مع بعض الفتيات مرت كمرحلة للتعارف ويتفق الطرفان على الزواج وفي ليلة الدخلة التي ربما تستمر لدقائق وربما لا يحظى الزوج بقبلة واحدة من زوجته لكنها تغادر دون أي مبالاة من أي عواقب .

ورغم بساطة الحياة في الجوف وتواضعها لكن الكثير منهم يمر بسعادة كبيرة في حياته الزوجية , ولا تجد المرأة في الجوف خوفا من أن يتزوج زوجها بأخرى لأن ذالك قد أصبح موضة عند الكل إن جاز التعبير.

الرجل يزف وليست المرأة

من طرائف الحياة الزوجية لدى أبناء محافظة الجوف أن الرجل يجب أن يستقر لدى أهل الفتاة ويمنح غرفة في المنزل أو يقوم ببناء كوخ أو خيمة بجوار أهل عروسته ولا يمكن ان تغادر مع زوجها إلى بيته إلا ولها العديد من ألأبناء ولا يخالف ذالك إلا النادر .

فالرجل في نهاره يغادر عش الزوجة ويعود إلى أهلة وقبيلته ويمارس بقية حياته اليومية وفي المساء يعود إلى زوجته التي ربما تبعد عنة عدة كيلومترات , وقد يسافر الزوج من مديرية إلى أخرى ويضل على ذالك الحال لسنوات .

تغيرات جذرية في حياة المجتمع

أكد لي أكثر من متحدث من شباب الجوف وخاصة من أبناء قبيلة بني نوف أحد قبائل دهم العربية أن هناك العديد من العادات والتقاليد " السيئة " قد بدأت تتلاشى تدريجيا من المجتمع وعلى رأسها قضية " المساباه " أي تقبيل الرجل للمرأة - على أساس ان بينة وبينها صلة رحم ولو " من أخر الدنيا " حسب تعبير أحدهم - وأرجع المتحدثون إلي أن السبب في تلاشي تلك العادات يعود إلى الحركة الإسلامية والصحوة الإسلامية التي يقوم بدورها " المطاوعة " كما وصفوهم .

وكذالك ألاختلاط في الأعراس والمناسبات , ففي السابق لا يوجد أي مانع من اختلاط الرجال بالنساء والرقص معا لكن هذه الظاهرة اختفت بشكل كبير وفي مناطق واسعة من محافظة الجوف .

كما يلحظ الراصد ان هناك تتطورا في ألاستقرار العائلي في حياة أبناء الجوف , بخلاف ما كان سائدا حيث كان يتوزع أبناء الرجل ربما على أكثر من عشر نساء غالبيتهن مطلقات , ولم تكن هناك مشاعر مسئولية تجاه الأسرة والإنفاق عليها , كون المرأة مسئولة بالقيام بمهام البيت فهي تمارس عملية رعي الأغنام التي تمثل المهنة الأكثر شيوعا في الجوف ومنها مصدر الدخل الرئيسي إضافة إلى الزراعة .

كما لعب التعليم دورا مماثلا وهاما في القضاء على بعض مظاهر الجهل والتخلف في المجتمع , ومن تلك الظواهر عملية ختان الكبار .

خنان في سن الشباب

يقول صديقي حمد الذي التقيت به في أحد المزارع وهو يضحك .. هل تصدق أن أهلي لم يقوموا بختاني إلا وأنا أبن ثلاثة عشرة سنة , ويوضح أن ظاهرة تأخير ختان الأطفال كانت منتشرة في المجتمع حتى سن كبيرة تصل أحيانا إلى تحت الخامسة عشرة ظنا منهم أن ذالك أرحم للطفل وأهون عليه .

ويضيف حمد أن الوسائل التي كانت تتم بها عملية الختان وسائل بدائبة ومتخلفة ويقول عن نفسه ختنت بجنبيه من قام بختاني , وربما تتم بأي موس ولا تستخدم أي مواد طبية لوقف النزيف وفي أحسن الأحوال يستخدم " التنتور " كما يطلق علية .

وجرى العرف على أن من تم ختانه توجه له دعوة من أهلة وأهل قريته " لتناول الطعام " وكل يوم يستضاف في منزل , كما يُعد من تم ختانه قد أصبح في مصاف الرجال , وأحيانا يمنح بندقيه ليتسلح بها , كونها أحد مكملات الشخصية الرجولية لدى أبناء القبيلة .

أما ختان الفتيات فقد كانت ظاهرة منتشرة وبشكل كبير في معظم المناطق ومازالت تمارس حتى اليوم في مناطق معينة لكنها تلاشت بشكل كبير الآن.

سالت عايض النوفي " لماذا تقومون بختان البنات " فضحك بصوت عالي وقال ماذا تتوقع من " حرية المرأة التي عندنا " إن أبقينا البنات دون ختان " وفي كلامه الذي جاء في سياق المزاح مغزى كبير لمفاهيم خاصة بالقبيلة وهي الحد من أي مظاهر غير أخلاقيه قد تحدث , حيث يسود فهم شبه عام أن ختان الفتاة يمثل أحد الطرق في كبح جماحها ونزواتها العاطفية .

ختاما

لقد حاولت في هذا التقرير الموجر أن أرصد لظواهر اجتماعيه كانت ومازالت في العديد من مناطق محافظة الجوف خاصة المناطق الريفية لكن الكثير منها بدا في تراجع كبير نظرا لعوامل عدة دخلت في نمط وسلوكيات وتفكير أنباءها .

الجوف المحافظة المنسية التي فيها الكثير من الشيم والقيم , كما تحتضن الكثير من الرجال الفضلاء والعقلاء والحكماء , لكن الحظ الأوفر في ذهنيات الناس عنها هي السمعة السيئة وذالك ناتج عن تصرفات إفراد لاغير .

 

محافظة الجوف هي اليوم في أمس الحاجة إلى التنوير والتنمية حتى تلحق بركب بقية المحافظات وتلك مسئولية الدولة التي تصر دوما على غض الطرف عنها والتعامل معها بميزان غير عادل خاصة في قضايا التنمية والتأهيل .