عن ثقافة الكراهية
بقلم/ دكتور/بكيل الولص
نشر منذ: 14 سنة و 10 أشهر و 13 يوماً
الجمعة 12 فبراير-شباط 2010 08:22 م

يتكون مفهوم الثقافة من مجموعة من الرموز (معظمها لغوي) الصريحة الظاهرة أو الضمنية المبطنة وربطها بأنماط الحياة والموروث التقليدي (الدين والعقيدة والتاريخ وأعراف المجتمع وغيرها). ويظل الصراع صراعاً مبنياً على مفاهيم ثقافية عادةً ما يساء فهمها من أطراف الصراع، ويبدأ الصراع بين الأنماط النموذجية ( المذاهب مثلاً) المتفرعة من العام الأنموذجي (الدين الإسلامي)، ويعمل الوعي بذلك الصراع على تحديد بعض خصائص الثقافة الخاصة "بالمجموعة" الواعية. دوائر كبرى تضم دوائر أصغر فأصغر في طبقات مخروطية وكل بدورة يحتوي على دوائر متداخلة ببعضها وتختلف في أحجامها ومحوريتها والتي تتقاطع مع نظيراتها في بقية الدوائر، وهلم جرا. الوطن يحتاج إلى خلق ثقافة "يمنية" تتكون من العوامل المشتركة لخصوصيات المناطق، واليكم أحد الأمثلة عن كل ما سبق.

مررت ذات صباح، وأنا في طريقي إلى الجامعة، ببسّاط يبيع بعض الكتب الشعبية الرخيصة (سعراً ومحتوىً) ويصيح، وهو يخبط بعصا صغيرة مربوط بها قطعة قماش متسخة ومهترئة، "على عشرين، على عشرين، ... " بدون توقف. تجاوزته وأنا أحمد الله على ستر الحال وأدعو له بالتوفيق. صادف بعد ذلك خروجي المبكر وتحديداً قبل أذان الظهر، في طريق العودة توقفت لشرب قهوة الزنجبيل، وغير بعيد من ذلك "البسّاط". شاهدت المشهد نفسه والوضع ذاته، "على عشرين، تثقف بعشرين، أي كتاب بعشرين" والكتب على حالها، باستثناء غبار الشوارع وبهتة الألوان وضياعها جرأ أشعة الشمس الحارقة.

 (حديث الغير أو الكلمات العامية موضوعة بين "علامات الاستشهاد"). فجأة دب حراك سريع، وتغير المشهد إلى النداء وجمع الكتب وعلا صوت التحذير والبلاغ، "أسرعوا، البلدية، البلدية، هيا، هيا، البلدية ...". خوف ورعب وضيق وانكسار أمل. جمع ذلك البائع البائس كل بضاعته ولاذ بالفرار إلى إحدى المحلات المجاورة، ومن ثم خرج وفرحة الهروب من قبضة البلدية ظاهرة على التفاتاته المتكررة المصحوبة بالخوف من سطوة القانون، وفي داخله تتشكل حدود "ثقافة الكراهية" تجاه "طقوم البلدية" والقائمين عليها. بعدها تناثرت التعليقات: "أتركوا الناس يترزقوا"، "البلدية حوثيين"، "السرَق فوق"، "حكم القوي على الضعيف"، "البلدية على حق"، "هذا تشويه للعاصمة"، "يستاهلوا، تعدوا على رصيف المشاة"، وغير ذلك، لكن أعداء البلدية أكثر من مناصريها.

يشترك البائع مع أصحاب البلدية في الآدمية والدين الإسلامي واللسان العربي والجنسية اليمنية وحياة المدينة، ويختلفون في اللهجة والمنطقة والطبقة والتوجهات السياسية وتجارب الماضي وتطلعات المستقبل وعلاقة كل منهما بالواقع والقانون والكثير الكثير. تداخل هذه الدوائر أنتج مفاهيم متباينة "للعيش" والثقافات الفردية. عدم تنظيم مثل هذا السلوك خلق التلاعب بالقانون من الطرفين. الخلاصة أن أحاديث العامة عن البلدية تولد ثقافة الكراهية تجاه عموم المسئولين، تعززها القصص والروايات عن الفساد والسرق والظلم وسوء الإدارة والكيل بمكاييل. بعد ذلك يسعى بعض الصحفيين والكتاب للخوض في شتى أنواع المواضيع، بوعي أو بدون قصد، ومن ثم تعميم الغث والسمين، يساعدهم في ذلك انعدام السياسات الخاصة بمعظم الصحف سوى النشر والحشو. للأسف لم يفرق أحد بين تطبيق القانون والالتزام به وبين رسم السياسة الخاصة بتطبيقه على نحو يرسم معالم الهوية اليمنية وثقافة التعايش و"نبذ سياسة ثقافة الكراهية" التي يطلب صانعوها أن يتخلى الشعب عنها.

باختصار، نوعية ثقافة الكراهية تنبثق من مسبباتها، وعليه تختلف في خطورتها على الهوية والتضامن الاجتماعي ومدى استمراريتها. أخطرها هو ما يتعلق بالدين في ما نرى، مثلاً، من طقوس الشيعة في أربعينية الحسين (عليه السلام) الموجهة ضد السنة، وبالمقابل اتهام أفراد من السنة للشيعة "بالكفر" فهذا يولد لديهم نوع من الكراهية ويعززها ويبررها أيضاً. هذه الثقافة ولدت ما يعرف بالصراع المذهبي. أما بالنسبة لثقافة الكراهية المبنية على الهوية (الجغرافية) فتاتي في المقام الثاني وعرفت بالتمييز، والوعي بها بات يعرف بالإقصاء. مثال على هذا، التعميم بالإشاعات المغرضة أن أبناء مأرب "جهلة"، "مخربين"، "خارجين على القانون"، "أغنياء" (على فقرهم المدقع)، "حقهم معهم وزيادة" (لتأصيل الحرمان)، وغيرها، ومن أراد أن يتعلم السب والكذب يبدأ بالحديث عن مأرب وأهلها. هذه قضية خطيرة تدفعنا إلى عداوة الشعب والحكومة تحديداً. الغرض من كل ذلك هو الإبقاء على مأرب وساكنيها تحت الوصاية الأبدية. هذه الحقيقة جعلت أبناء مأرب يشعرون بقربهم من الحراك الجنوبي الذي بدوره ينبذ "الدحبشة" عن المأربيين.

فيما يخص ثقافة الكراهية الموجهة ضد الحكام وتابعيهم صغيرهم وكبيرهم، فإنها ستزول بزوال أسبابها، أي بزوال الظلم والفساد والإقصاء والمحسوبيات الضيقة ونهب الثروات وسياسة الكذب والمداراة. لا شك أن ثقافة الكراهية التي نتجت عن سلوك الإدارات اليمنية المختلفة على جميع الأصعدة قد خلقت نوعاً من ثقافة للكراهية الواسعة جداً، إلا أنها ليست أخطر من الثقافة التي تتولد في صعدة أو في المحافظات الجنوبية أو في محافظة مأرب؛ استمرارها بهذه الوتيرة بدأ يظهر خطورتها على الولاء الوطني. الكراهية التي أنتجتها الحكومات اليمنية مبنية على السلوك ولهذا لا تدخل في تشكيل الهوية لكنها ستدفع بالهويات الصغرى على الظهور إلى السطح، والهوية التي يعمل الحوثيون على تشكيلها مبنية على المذهبية (ولا نمانعها إذا نبذت صناعة الكراهية لأنها مبنية على العقيدة وليس السلوك ومن هذا المنطلق تؤمن السلطة بشرعية الحرب)، أما المحافظات الجنوبية فلا تزال تتشكل لديها تلك الهوية وتحتاج للدراسة واجتثاث دوافعها من خلال أبناء الجنوب أنفسهم. الهوية التي تتشكل بشكل متسارع هذه الأيام في محافظة مأرب هي مراجعة متمعنة للتاريخ والواقع وقد آلت خاتمتها بأننا مبعدون ويتم التعامل معنا كمواطنين من الدرجة "المبغوضة". الجميع في مأرب سيشترك في رسم حدود تلك الهوية، دون التفريط بالوحدة ومحبتنا لإخواننا اليمنيين "حتى يقضي الله أمراً كان مفعولا".

ختاماً، السلبيات تولد الكراهيات وما خرج عن العقلانية يقابل بالرفض والنفور. ثقافة الكراهية موجودة في كل مسبباتها، ومن لا يفهم ما نقول فليعاود القراءة ويحاول الربط بين فقراتها، فالغباء موروث وليس مكتسب. والمبدأ القائل "علي وعلى أعدائي" لن يجدي نفعاً فالأمور بخواتمها.