تجربتي مع الإصلاح. 1.
بقلم/ د.مروان الغفوري
نشر منذ: 10 سنوات و شهرين و 5 أيام
الثلاثاء 21 أكتوبر-تشرين الأول 2014 03:06 م

ــفي العام 1997 انهيتُ امتحانات الثانوية العامة وسافرتُ إلى حضرموت. كان أبناء عمّتي قد انتقلوا قبل عامين للسكن في غيل باوزير. في المسافة بين عدن وحضرموت غفا كهل حضرمي على كتفي اليمنى، بينما انشغلتُ بالتفكير في ذلك الرجل الذي كتب أغنية "وا قهري على النوب". قبل أن ندخل المكلا سأل راكبٌ السائق ما إذا كان لديه أي أغنية أخرى في دواليب السيارة فرد السائق بالنفي. صحا الكهل الحضرمي وباغت السائق "دوّر لو سمحت، يمكن تلاقي". بدا كأن السائق لم يسمع شيئاً.

بعد 11 ساعة طلب منّا السائق النزول "هذه هي المكلا، درّة المحيط" قال. بينما أنا أفتح الباب رأيت الكهل الحضرمي يتحدث إلى مهمّش باللغة الإنجليزية. قال المهمّش إنه من تعِز، وأنه تعلم الإنجليزية في أفريقيا. وقال الكهل إنه تعلم اللغة الإنجليزية في عدن. رفع المهمّش صوته بالانجليزية "لو كان علي عبد الله صالح يجيد الإنجليزية مثلي لحصل على احترامي". لكن الكهل علّق بلهجة حضرمية بينما هو يحاول أن يرفع حقيبته إلى كتفه. قال عبارة قصيرة شديدة القبح. ضحك المهمش وهو يقول"ولكن ما دخل أمه بالموضوع" واتجه إلى آخرين. تساءل رفيقي، وكنت تعرفت عليه في مقهى في عدن "خادم يجيد الإنجليزية"؟ قلتُ له: الكهل هو ما أثار انتباهي. بعد أيام مررت بالمكان نفسِه فرأيت المهمّش. كان يتسوّل المسافرين باللغة الإنجليزية "اعطن عشرة ريالات، أنا أتحدث الإنجليزية أفضل من علي عبد الله صالح". وما إن يترجم جملته إلى العربية حتى تتشابك الضحكات ويحصل على بعض العون.

تعرّفتُ على المجتمع الحضرمي من الداخل. كنتُ أسأل بصورة دائمة "في إصلاحيين في حضرموت" وكانوا يقولون لي أنه لا يوجد شيء في حضرموت أكثر من الإصلاحيين. ولم تكن هذه الإجابة بلا قرائن فقد سيطر حزب الإصلاح على نتائج انتخابات العام نفسه 1997 في حضرموت. خلال فترة إقامتي في حضرموت سألني ابن عمّتي عن سبب سؤالي فقلتُ له إني أحب الحزب. عاد في اليوم التالي وسألني ما إذا كان ممكناً للشخص أن يكون سافلاً ويحب الإصلاح فأجبته "نعم". قال إنه لم يكن يقصدني ولكن السؤال خطر على باله.

بعد ثلاثة أسابيع أخبرتُ ابن عمّتي بقرار مفاجئ: سأسافر إلى تعز، استدعاني حزب الإصلاح. أعاد السؤال مرّة أخرى فقلتُ له إني أحب الحزب. وعندما حاصرني بالأسئلة أجبته "أنا عضو في حزب الإصلاح". تراجع خطوتين إلى الخلف وهو يقول: والقصة التي حدثت قبل يومين؟ قلتُ له: لا يوجد مانع. صباح اليوم التالي وأنا أوعده في الفرزة، هناك حيث المهمش يتحدث الإنجليزية إلى المسافرين، قلتُ له: لا يوجد مانِع. سألني "بخصوص ماذا؟". ارتبكتُ. "ما علينا" قلتُ له.

في النصف الأول من شهر سبتمبر من العام 1997، بعد عودتي من المكلا بيومين، اتجهت إلى النجد الأحمر وهو هضبة صغيرة تطلّ على مدينة إب. كان مهرجاناً عظيماً لحزب الإصلاح في مدرسة حكومية. كنتُ منذهلاً، ومغموراً بالدهشة. في الليلة الثانية قدّم إلى المنصة رجلٌ قيل إنه من الإمارات. تحدث عن مستقبل الدعوة، وعن شبكة الأعداء، وتمنّى لو ندرك نحن الذين كنّا نستمع إليه النعمة التاريخية التي نتقلبُ فيها. "نحن في الإمارات لا نستطيع أن نقوم بمثل ما تقومون به" قال الضيف. وعندما سأله مدير الأمسية عن معدّل دخل الفرد في الإمارات قال إنه يتجاوز الـ 5 آلاف دولار. نسي كل فرد نعمتنا التاريخية وأذهلتنا نعمته. قال إنهم محاصرون، فقلتُ لشاب إلى يميني "ونحن نموت فقراً". تمنّى لو يستطيع أن يجاهر بصوته مثلنا. كان الكهول إلى جواره يهزون رؤوسهم برضا ويقين، وكنا نحن الشباب نتمنى لو تبادلنا الأدوار. كانت تلك الأمسيات الثلاث أول نشاط حزبي أشترك فيه. انضممت بعد ذلك إلى الإصلاح رسميّاً. في تلك الليلة كلفت بالحراسة في الليل، فشعرتُ بالنشوة وحسدتُ نفسي. وندما شعرتُ بالملل ألقيت حصاة على الشاب الذي يتحرك إلى الأسفل مني. بعد دقائق كان إلى جواري. تحدثنا في أمور شتى بأصوات خفيضة. قال لي إن الإماراتيات جميلات على نحو لا يصدق. قلتُ له: لكن بنات إب هن الأفضل. سألني "هل سبق أن رأيت فتاة من إب؟" قلتُ له لا، وأنت؟ قال إنه لم يرَ إمارتيّة في حياته.

أبلغت بعد انتهاء المهرجان بأن علي أن أحضر دورة تدريبية لمدة ثلاثة أيام. كانت الدورة مغلقة. استمعت إلى أكثر من 20 محاضرة مكثفة حول الجندية، الدعوة، المستقبل، الدين، والخلافة. في اليوم الثالث أدخلتُ غرفة صغيرة وهناك رأيت رجلين قاعدين في انتظاري. كان زملاء كثيرون قد دخلوا الغرفة قبلي وعندما خرجوا كانت ملامحهم قد تغيّرت كليّاَ. كما لو كنتُ في امتحان تخرّج طُلِب مني أن أجيب عن أسئلة قصيرة على شاكلة "هل تعتقد أن حزب الإصلاح هو أفضل الحركات الإسلامية الموجودة في الساحة". تذكرت علاقتي بالسلفيين، وخطر على بالي أنهم المقصودين بالسؤال. تذكرتُ ابن عمّتي السلفي، طيبة قلبه ونبله. تذكرتُ المرّات التي عزمني فيها سلفيو مسجد شمسان في الحديدة على وجبات إفطار مكونة من الأسماك والكبدة الطريّة، تلك الأيام المجيدة التي لم يكن يسمح لي فيها أن أدفع ريالاً واحداً نظير ما أتناوله من الأكل. أنا قادم من أسرِة تقدّس الطعام وتعتقد أن الله خلق الغداء قبل الكون. أجبت: لا. مرّت لحظات صمت، فقال أحد الرجلين: الشاب ليس مؤهلاً بعد. سألتهما: ماذا يعني هذا؟ قال الآخر: يعني إنك بحاجة إلى دورة أخرى، ثلاثة أيام أخرى لكي تدرك حقائق الأشياء. دورة أخرى؟ عشرون محاضرة أخرى؟ هز رأسه، نعم. مددت يدي إليه: أعتقد إن حزب الإصلاح هو أفضل الجماعات الإسلامية الموجودة في الساحة. تسمّرت يده في يدي لثوان، ثم ابتسم: على بركة الله. عندما غادرت المكان أدركتُ أني انضممت إلى الحزب هرباً من دورة تدريبية أخرى. ولم يكن هذا السبب سوى موقف تكتيكي، فقد تعمّقت علاقتي بالحزب بعد ذلك، لكني ظللتُ أهرب من ندواته، فقد كنتُ أعتقد أن ما أسمعه في ندوات الحزب يقوض الترتيب المنطقي للأشياء كما أرتبه أنا عبر سعيي الشخصي لتحصيل المعارف.

أعلنت نتائج الثانوية العامة وكنتُ أحد العشرة الأوائل على الجمهورية. احتفل الإصلاحيون في قريتي بالمناسبة وهم لا يعرفون أني أصبحت رفيقاً لهم. غضب أبي بشدّة، ودلف إلى غرفتي والشرر يتطاير من عينيه: أنت تافه وفاشل، وكل ما فعلته في حياتك ليس أكثر من حفظ كتابين. لم أفهم غضبه، لكني وافقته على كل حال. سافرتُ إلى صنعاء للمرّة الأولى بعد أن قرأت اسمي في صحيفة يمن تايمز. كانت شركة "كنديان أوكسيدنتال"قد عرضت عشر منح دراسية تنافسية وعندما أعلنت الأسماء كان اسمي في السطر الأول في قائمة من 60 اسماً، لكني غادرت المنافسة في منتصفها واتجهتُ إلى مصر. طلبوا لقاء المجموعة الفائزة في المجلس الاستشاري في صنعاء وهناك التقيت شاباً قال إنه من المحويت. بدلاً عن أن أسأله عن اسمه وجدتني ألقي عليه سؤالاً آخر: في إصلاحيين في المحويت. أجاب الشاب: خيرات. ثم لم يعرني سمعه بعد ذلك. في المساء قال لي ابن خالي ونحن في شارع جمال إن خيرات كلمة متداولة في صنعاء تعني "كثير". قلتُ له لو كنتُ أعرف هذه المعلومة في الصباح لكنت سألت الشاب من المحويت عن ما الذي يجعل الإصلاح يخسر الانتخابات رغم حضوره الخيرات.

أصبح لدي الكثير من الأصدقاء الإصلاحيين. كانوا طيبين، وخائفين، يتخيلون العالم على شكل مدفأة، تحيطها الجنة أو النار. اقتربت من الإصلاح ولم أقرأ كتبهم. كانت بالنسبة لي مكرّرة أو بسيطة. بعد عامين، عندما كنت في مصر، التقينا أحد قيادات الصف الأول في الإصلاح. سألنا ما إذا كان لدينا رغبات أو ملاحظات. عندما انتهوا من مداخلاتهم سألته وأنا متجّهم ما إذا كان الحزب يفكّر بإلغاء تلك المناهج السطحية والغبيّة. ما إن لفظتُ كلمة غبية حتى نهروني بصورة هزتني من أعماقي. في تلك اللحظات تمنيّت لو أني قلتُ قبل ثلاثة أعوام إن السلفيين هم أفضل الجماعات الإسلامية الموجودة في الساحة. قال أحد الدارسين موافقاً لي: بالفعل، لماذا لا تستمعون إلى ملاحظاتنا ونحن مثقفون مشغولون بالمعرفة، فأنا شخصياً أقرأ في اليوم حوالي ثلاث ساعات. تداخلتُ بصوت جهوري: لم يستمعوا إلى كلامي وأنا أقرأ في اليوم 18 ساعة. في اليوم التالي، بعد صلاة العصر، قال لي مسؤول حزبي طيب القلب إن الحاضرين نظروا إلي بقدر من الازدراء. صدمتني صراحته، فقال لي إن الأمر يتعلق بفكرة مركزية في الحزب: الجندية. قال لي مضيفاً: أنت داعية، للداعية سمات وملامح لا ينبغي عليه أن يتجاوزها. عدت شارداً، وخائفاً. أنا داعية؟ ما الذي حدث لي؟ لماذا جعلوني داعية؟ لم أستطع البكاء، وكنتُ مكروباً ومكدّراً، فقد جعلوا منّي داعية. على مدى سنين طويلة حاولتُ جاهداً أن أستخدم صفة "المثقف" بدلاً عن الداعية، لكن دون جدوى.

المقالات السابقة

الجزء 1 هنــــــــــــــــا

الجزء 2 هنـــــــــــــــــا

الجزء 3 هنــــــــــــــــــا