تأملات في مساري الثورتين اليمنية والمصرية!
بقلم/ نصر طه مصطفى
نشر منذ: 12 سنة و 6 أشهر و 7 أيام
الثلاثاء 19 يونيو-حزيران 2012 11:09 ص

تتفاوت بشكل واضح مسارات التغيير في الدول التي نجحت فيها ثورات الربيع العربي وهي تونس ومصر وليبيا واليمن، وفيما يمكن القول أن تونس وليبيا تخلصتا بشكل كامل من النظامين السابقين وتمضيان في بناء نظامين جديدين تماماً بوجوه جديدة إلى حد كبير رغم كل ما تواجهانه حتى الآن من خلافات وصراعات داخلية هي نتاج طبيعي للمخاض الذي تعيشانه بعد نظامين مستبدين وصل طغيانهما واستبدادهما وفسادهما إلى الذروة، وسيحتاج البلدان إلى وقت غير قليل لتجاوز تحديات ما بعد سقوط النظامين... ففيما يمضي التونسيون بشكل جيد حتى الآن في بناء نظام جديد يقوم على الديمقراطية والقانون والحريات والحكم الرشيد ويستفيدون مما خلفه النظام السابق من بنى إدارية متماسكة، فإن الليبيين يحاولون المضي في بناء دولتهم الجديدة من الصفر حيث لم يخلف نظام القذافي أي بنى إدارية فعلية، ناهيك عما يعانونه مما يمكن وصفه (بتخمة الحرية) التي جاءت عقب نظام كان يمثل النموذج الأكثر سوءاً للأنظمة القمعية المنغلقة التي تقتل مواطنيها بالشبهة، وكانت الإطاحة به مجرد حلم بعيد المنال ومستحيل التحقق!

لكن ما يستحق التوقف أمامه هنا هما النموذجان المصري واليمني في مساريهما اللذين يتشابهان في جوانب ويفترقان في جوانب أخرى، ويبدوان في بعضها باعثين للكثير من الآمال وفي بعضها الآخر مخيبين... فكلا الثورتين نجحتا في إسقاط الرئيسين اللذين حكما البلدين لثلاثة عقود وأكثر مع فارق جوهري في مصيريهما وفوارق جوهرية أخرى فيما يتعلق بالمحيطين بهما، ففيما يواجه الرئيس المصري السابق حسني مبارك حكماً قضائياً حضورياً بالسجن المؤبد فإن الرئيس اليمني السابق علي عبدالله صالح يتمتع بحصانة قضائية كاملة من أي محاكمات تشمل كل سنوات حكمه... وفيما تم حل الحزب الوطني الديمقراطي الذي كان يرأسه مبارك، فإن حزب المؤتمر الشعبي العام الذي كان ولازال يرأسه صالح هو شريك في نصف الحكومة الوفاقية القائمة... وفيما جمال نجل الرئيس مبارك الذي كان يجري إعداده لخلافة والده يقبع في السجن، فإن العميد أحمد نجل الرئيس صالح والذي كان يجري إعداده هو الآخر لخلافة والده لازال يقود الحرس الجمهوري أقوى ألوية الجيش اليمني... وبالمقابل فإن هناك جوانب حصل فيها قدر كبير من التوافق في مسار الثورتين المصرية واليمنية إذ يمكن القول أن السلطة الانتقالية في كلا البلدين لم تخرج كلياً عن النظامين السابقين، فقد تولى المجلس العسكري - الذي كان قائماً في الأساس - السلطة في مصر وقام بحل مجلسي الشعب والشورى المنتخبين في عهد مبارك وأوكل لنفسه بموجب إعلان دستوري سلطة التشريع، وكما هو معروف فإن الجيش لم يكن يتدخل غالباً في معظم القرارات السياسية والاقتصادية في مصر وإن كان معروفاً أنه كان محكوماً بشكل عرفي منذ ثورة يوليو 1952م بقاعدة تقتضي مجيء رئيس مصر من صفوفه مع تخليه كلياً - أي الرئيس - عن الزي العسكري والتزامه بالزي المدني بكل مقتضياته المفهومة بالنسبة للحكم... ورغم جو الحريات السياسية المطلقة التي شاعت في مصر عقب ثورة يناير وحرص المجلس العسكري على مشاورة القوى السياسية قبل أي خطوة جديدة يقدم عليها باتجاه نقل السلطة للمدنيين، إلا أن الحكمين اللذين أصدرتهما المحكمة الدستورية يوم الخميس الماضي برفض قانون العزل السياسي وحل مجلس الشعب المنتخب منذ خمسة شهور قد أثبتا بما لا يدع مجالاً للشك أن مسار عملية الانتقال قد شابها الكثير من التخبط والقصور من جانب القوى السياسية والكثير من الدهاء والإحكام من جانب المجلس العسكري وجهاز الدولة المعاون له الذي يمكن اعتباره امتداداً لنظام مبارك.

وفيما انتقلت السلطة في اليمن من الرئيس صالح إلى نائبه هادي في نوفمبر الماضي إلى أن تم انتخابه رئيساً لفترة عامين انتقاليين في فبراير الماضي بإجماع سياسي على شخصيته بل وحماس واضح من قوى وشباب الثورة، فإنه رغم ذلك كله يمكن القول أن الثورة اليمنية مضت في مسار أكثر حنكة وأماناً وأكثر وضوحاً في مآلاته ونهاياته وأكثر إنجازاً في أهدافه وتصوراته... ولعل هذا يعود لعدة أسباب منها طول أمد الثورة في اليمن واستمرار زخمها الشعبي، ومنها أيضاً انقسام الجيش اليمني عقب مذبحة جمعة الكرامة في 18 مارس 2011م وهي المذبحة التي نزعت مشروعية النظام، كما أن انقسام الجيش قد قصم ظهره، الأمر الذي جعل الرئيس السابق علي عبدالله صالح يبادر بوضع مشروع اتفاق سياسي يقضي بتنحيه عن السلطة بشكل منظم ودستوري - وهو أمر يحسب له على أي حال - فيما كان الطرفان الثوري والمؤيد للثورة يدركان أهمية مثل هذا الاتفاق من أجل تجنيب البلاد حرباً مدمرة... ومع تبلور مشروع ذلك الاتفاق بتدخل إقليمي ودولي - لم تحظ به الثورة المصرية بسبب سرعة تنحي مبارك - إلى مبادرة خليجية فإن الرئيس صالح ظل يماطل في التوقيع - وهو ما حول موقفه الإيجابي إلى موقف سلبي تماماً - فيما كان زخم الثورة السلمية يزداد ومعه التضحيات الكبيرة من الشباب شهداء وجرحى ومعتقلين نتيجة ما تعرضوا له، كما أن الضغوط الإقليمية والدولية على صالح من أجل تنحيه ظلت مستمرة وقوية قبل وبعد إصابته في محاولة اغتياله التي حدثت أوائل يونيو من العام الماضي... ونجح صالح في الحصول على أفضل الشروط لتنحيه لكن هذه الشروط التي وافقت عليها القوى السياسية للثورة واعتبرها الثوار الشباب في الساحات والميادين تنازلات غير مقبولة أدت في الأخير إلى تجنيب اليمن شبح الحرب الأهلية... وهكذا مضت الأمور منذ توقيع صالح على المبادرة الخليجية في 23 نوفمبر الماضي بشكل متأنٍ ومدروس من أجل نزع الألغام التي زرعها نظامه واحداً واحداً.

لقد وفرت المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية خارطة طريق واضحة المعالم للفترة الانتقالية في اليمن وهو ما لم توفره كل الإعلانات الدستورية في مصر التي قامت بتقديم العربة على الحصان كما يقال وهو ما تأكد يوم الخميس الماضي بقرار حل مجلس الشعب، فقد كان الاتجاه المنطقي يقتضي من المجلس العسكري المضي في إجراء انتخابات لجمعية تأسيسية تختص بصياغة دستور جديد يحدد شكل النظام الجديد وعلى ضوئه تجري العمليات الانتخابية... كما أن الانسجام الواضح بين قوى الثورة الرئيسية اليمنية - المعروفة باللقاء المشترك وحلفائه - أعطاها قوة في موقفها التفاوضي، وهو الأمر الذي لم يتوفر لقوى الثورة المصرية التي لم تنجح في خلق انسجام واضح بينها وتنسيق في مواقفها رغم مكوناتها المتقاربة مع نظيراتها اليمنية... وأخيراً ففي تصوري أن روح التسامح التي تميزت بها قوى الثورة اليمنية من خلال منحها الحصانة للرئيس السابق ومطالبتها بمشروع قانون العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية ورغبتها في فتح صفحة جديدة خالية من الثارات قد ساعدها على إنجاز الأهداف الأساسية للثورة وتعبيد الطريق أمامها، وهو ما لم يتوفر لدى قوى الثورة المصرية التي أصرت على محاكمة الرئيس السابق حسني مبارك وإصدار قانون العزل السياسي... وفي هاتين الصورتين المتناقضتين فارق جوهري بين الثورتين يجب التأمل فيه كثيراً !.