اليهود العرب الحنين إلى أوطانهم
بقلم/ محمد كريشان
نشر منذ: 6 سنوات و 8 أشهر و 21 يوماً
الأحد 11 فبراير-شباط 2018 08:03 م
 

«نتائج هذه الرحلة في اتجاه واحد (من تونس إلى فرنسا) كانت مأسوية للبعض. لقد ترك المراهقون خلفهم في هذه المرحلة من حياتهم كل معالمهم التي عهدوها وأصدقاءهم متجهين إلى بلد لم يعرفوه إلى حد الآن سوى في الإجازات (…) هذا الرحيل وإن أراده بعض الآباء إلا أن الأطفال هم من تحملوا وزره. ذكريات محددة ظلت حية في أذهانهم مثل صوت الآذان في الحي يتردد صداه في كل المدينة (…) لقد تركت مثل هذه الرحلة بالباخرة وصفارة إبحارها شعورا خاصا للغاية بين المرارة والندم، لقد بدأت رحلة البحث عن جنة ضائعة».

بعض مما جاء في كتاب «طفولتنا في تونس بين سنوات 1940 وسنوات 1960» الصادر قبل بضعة أشهر عن منشورات «وارتبرغ» الألمانية روت فيه الكاتبة «أكسال غريغوار» المنحدرة من عائلة يهودية تونسية ذكريات يومية تفصيلية لعدد من اليهود التونسيين الذين عاشوا مندمجين في سلام مع كل أبناء الشعب الآخرين إلى أن قرر معظمهم الرحيل بعد استقلال البلاد عام 1956 عن المستعمر الفرنسي حيث «لم يعد للحياة اليومية أبدا نفس المذاق».

الكتاب، وقد اقتنيته مؤخرا من جينيف، يروي بأسلوب مشوق وبسيط، مع مجموعة هائلة من الصور، جوانب مختلفة من حياة اليهود التونسيين من المدارس إلى الأعراس إلى اللهو على الشواطئ إلى المطاعم إلى ارتيادهم دور السينما إلى كرة القدم إلى فنون الطبخ في البيت وغيره كثير مع حنين واضح يختلط بحسرة على ترك كل تلك الأجواء.

يعيد هذا الكتاب مرة أخرى ظاهرة التشبث الكبير لدى اليهود العرب من دول مثل تونس والمغرب والعراق وسوريا بأصولهم وذكرياتهم في تلك الدول وعجز الكثير منهم عن نسيان ذلك بالتوازي مع عجز آخر عن التأقلم مع محيطهم الجديد خاصة إذا اختاروا الهجرة إلى «إسرائيل» حيث ما زال ينظر إليهم كيهود شرقيين (سفارديم) من قبل اليهود الغربيين الشقر(الأشكيناز) على أنهم أقرب إلى الدول الذين جاؤوا منها، منهم إلى هذا المجتمع الجديد العصري. كثير منهم ما زال على هذه الحال إلى اليوم عكس حال أبنائهم أو أحفادهم وقد ولدوا ونشأوا في ظروف مختلفة.

أذكر جيدا ذلك اليهودي العراقي الذي حاورته في رام الله قبل عشرين عاما، اسمه لطيف دوري أحد نشطاء السلام الإسرائيليين الشرسين في انتقاد سياسات حكوماته المتعاقبة وأحد أقوى المتعاطفين مع الفلسطينيين. تحدث بحنين جارف وبدموع يحاول حبسها بصعوبة عن العراق والحصار الجائر الذي كان يتعرض له وقتها. أكثر من ذلك أنشأ لجنة للتضامن مع الشعب العراقي وكان يجمع الأموال والأدوية ويحاول تسليمها إلى السفارة العراقية في القاهرة دون جدوى!! ما زال هذا الرجل الثمانيني يعيش إلى الآن في «رمات غان» شمال شرق تل أبيب في حي اسمه «بغداد الصغرى» لأن كل سكانه من أصل عراقي.

خلال وجودي في فلسطين لتغطية فعاليات «بيت لحم 2000»، دخلت على عجل أحد البقالات اليهودية الصغيرة في يافا أو حيفا على ما أذكر، كان أصحاب الدكان جالسين حول مائدة صغيرة بصدد الإفطار فبادرني أحدهم بالعربية « منين الأخ؟» قلت من تونس فصرخ أحدهم «يا حسرة عليك يا بورقيبة»!! أصروا على دعوتي إلى الأكل معهم، «نحن جيرانكم من المغرب» قال أحدهم. شكرتهم على الدعوة وغادرت مسرعا. سألت وليد العمري مراسلنا الشهير في فلسطين «كيف لهؤلاء أن يبادروني بالحديث بالعربية مع أن ملامحي السمراء التي تشبههم لا تعني بالضرورة أنني عربي.. فقد أكون يهوديا مشرقيا لا يجيد سوى العبرية». أجابني بابتسامة أن هؤلاء شعروا تلقائيا أنك من تلك المنطقة المغاربية التي جاؤوا منها هم قبل سنوات، ثم لا تنس أن اليهودي نادرا ما يكون «صاحب شنب» فهو إما صاحب لحية أو حليق بالكامل!!

وفي مهمة صحافية أخرى إلى رام الله، تهللت أسارير ضابط الحدود الإسرائيلي الشاب عند المعبر بين الأردن والأراضي الفلسطينية لأنه قرأ على جوازي أني من مواليد صفاقس التونسية والسبب أن جده من يهود صفاقس. على فكرة ما زال بعضهم في هذه المدينة إلى الآن رافضين الهجرة، وأحدهم يمتلك مكتبة عصرية وسط البلد، لكن عددهم لا يتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة، هم أيضا قلة قليلة في تونس العاصمة معظمهم من كبار السن، لكنهم بالمئات في جزيرة جربة الجنوبية يعيشون فيها بسلام ووئام.

وفي بعض المحلات التجارية في نيويورك قد يصادف أن تجد من يقدم لك نفسه من مدينة حلب ويحرص أن يدردش معك بالعربية مع تلميح خفيف ومكتوم على أنه يهودي مع حرص على إبداء شوقه إلى تلك السنوات التي عاش فيها في سوريا.

في وسط مدينة يافا، مطعم يهودي شعبي شهير اسمه «شكشوكة» عندما تجلس فيه وتتذوق مأكولاته الحارة كثيرة التوابل مع ضحك الجالسين وأصواتهم المرتفعة في الحديث، تظن للحظة أنك في مطعم بأحد الأسواق القديمة في تونس أو المغرب.

٭ كاتب وإعلامي تونسي