على خطى إبراهيم الحمدي
بقلم/ توكل كرمان
نشر منذ: 14 سنة و أسبوعين
السبت 16 أكتوبر-تشرين الأول 2010 03:11 م

اعترف أنني بدأت اهتم بتجربة الرئيس إبراهيم الحمدي والبحث والسؤال عن حياته بعد قصة مهجري الجعاشن، قصتهم المأساوية التي تحكي تهجير الشيخ لخمسين أسرة من ديارهم ومزارعهم وتوطين مليشياته في البيوت والممتلكات والمزارع الخاصة بهم ، كل ذلك كعقاب قدره الشيخ على جريمة عجزهم عن الوفاء بمبلغ الجباية السنوي الباهظ الذي يصل إلى مائتي ألف ريال عن الأسرة الواحدة سنويا، الآن هم في صنعاء ورداع وإب وتعز .. ولكم أن تتصوروا حجم المعاناة التي يعانيها من بات يعلم أن لا بيت ولا كهف ولا أخدود يؤويه .. فأين هو الوطن ؟!

بحكم تواصلي اليومي معهم أقول .. أنهم أيها السادة يتذكرون إبراهيم الحمدي بحب وشغف وامتنان .. وكأنه واحد منهم ، وكأنهم أيتام يتذكرون أيام العز في ظل أبيهم الراحل!

غير الجعاشن .. قرأت مئات وآلاف التعليقات في المواقع والأندية الالكترونية في الحوارات التي تدور حول مأساة المهجرين والتي تـُجمع بصورة مدهشة على الثناء على الشهيد إبراهيم الحمدي الذي عاش في ظل حكمه أبناء الجعاشن مواطنين بلا شيخ يودعهم سجونه الخاصة ويتخذهم عبيداً وأقنان ، الكثير يروون أن الحمدي أودعه السجن لستة أشهر استجابة لشكوى أحد المواطنين .

ما الذي يجعل أبناء الجعاشن يصرون على القول أن من حقهم أن يتذكروا الشعور بالكرامة التي أهدرت مع أول قطرة دم أريقت من دم الحمدي ورفاقه ، وأن من حقهم أن يتحسروا على غد أفضل ومستقبل كان له أن يكون واعداً بالرفاه والحياة الكريمة لو امتدت فترة الحمدي إلى عقد أو عقدين فضلا عن ثلاثة عقود ، كان سيحدث شيئا من الانجاز ممالا يمكن التنبؤ بمداه وامتدادته ..هذا مايجمع عليه اليمنيون الذين يتحدثون بحميمية عن الشهيد إبراهيم الحمدي وكأنه فرد من عائلة كل واحد منهم ، يسردون الوقائع وشيئا مما حملته الذاكرة عن مواقف خالدة للشهيد وبعضا من أقواله وعبارات من خطاباته ، نتساءل اليوم لم هي عظيمة الدلالة ولماذا لها كل ذلك الأثر؟

الأخوات والإخوة : إن مظاهر العظمة لدى تجربة الشهيد الحمدي تتخذ لها أكثر من صورة وتتجلى في أكثر من جانب ، تجربته في التعاونيات والتي تكشف إحدى أهم ملامح عبقريته .

تعد تجربة التعاونيات أحد أبرز تجارب العمل الأهلي العالمية بالقياس إلى الانجاز والفترة الزمنية لذلك الانجاز ، لقد أطلقت" التعاونيات" العمل الأهلي إلى أوسع مدى ، ومضت فيما يشبه الإعجاز تحقق النجاح تلو النجاح ، حين مضى الناس يحتشدون للمساهمة والتطوع وينخرطون في العمل التعاوني في كل اتجاه بشكل شامل وفي ظل حماس واستعداد كبير ومتنام للبذل والعطاء.لم تكن التعاونيات مجرد اختراع جاءت به المصادفة ، لقد كان الشهيد الحمدي يعي تماما أن المجتمعات الحديثة والدول المدنية تبنى فقط في ظل ذلك الحس بالعمل التعاوني والطوعي، وبمؤسسات ولجان ومجالس شعبية تحقق التنمية الشاملة بالشراكة مع الدولة ومباركتها .. لا ككابحة ومدمرة للعمل التعاوني باعتباره عدو للسلطة وخصم للدولة كما هو حاصل الآن .

حين يتخذ الناس موقفا سلبيا من العمل الطوعي، وحين يرون الدولة غير راضية عن الجهد التعاوني والمساهمة الأهلية ، فان موعد أفول الدول وانهيار الحكومات يكون قد اكتملت شروطه، إن الحديث عن تحول حضاري في ظل غياب فلسفة العمل التعاوني .. والثقافة والوعي التي تؤمن به وتعلي من شانه، يغدوا مجرد أماني غير قابلة للتحقيق ، أصحابها تنقصهم المعارف الموضوعية لتحقيق النهضة وإطلاق التنمية الشاملة.

يمكن القول بأن تجربة التعاونيات غدت وسيلة الشهيد ابراهيم الحمدي الفضلى لاحداث التحول الاجتماعي والانتقال بالمجتمع من الروابط غير المدنية من عشائرية وقبلية وجهوية الى المواطنة المتساوية حيث بدت التعاونيات خلال تلك الفترة القصيرة من التجربة التي انتهت باستشهاد الحمدي آلية ناجعة لخلق وسيط محلي شريك للدولة في التنمية والبناء لاتابعا او خصماً لها ، وليس بديلا عن القبيلة بقدر ماهي تحديث شامل لها لتغدوا في ظل التعاونيات حلا للتنمية المستدامة لامشكلة أمامها.

أيها الأعزاء : إن أحد مظاهر الكارثة والمأساة الناتجة عن عملية اغتيال الشهيد إبراهيم الحمدي تمثلت لاحقا في اغتيال مشروعه التعاوني من خلال خطوات وسياسات رسمية اتخذت بعناية وخبث لتدمير تجربة التعاونيات الرائدة حين تم مسخها إلى مجالس رسمية غير جادة معزولة عن الدعم والجهد الشعبي ومحرومة من الرعاية والدعم الرسمي، مرورا بتدمير الثقافة التعاونية والاستعداد المجتمعي لبذل الجهد الطوعي وحشده والتحريض عليه وجعل الباب مسدوداً امام كافة المبادرات التعاونية والأهلية وفي ظل تشكيك وتحريض دائم ضد أي مبادرة أهلية أو جمعية أو مؤسسة طوعية.

الأخوات والإخوة .. إن تجليات العظمة الأخلاقية للشهيد إبراهيم الحمدي تتجلى أيضا في حكمه القائم على العدالة والانصاف ومراهنته على التصحيح الشفاف، وعدم مساومته على المساواة وسيادة القانون ، في إرساءه لفلسفة الدولة وفي احترام المال العام وهيبة القوانين وقداسة المؤسسات العامة، حتى غدت ثقافة شعبية تقدس كل ماهو عام وتعلي من شأن كل نزيه وتعاقب بازدرائها كل فاسد او مسؤول لايعطي المال العام حقه من الحفظ والادارة الرشيدة والأمينة، ثقافة بثها إبراهيم الحمدي على الناس تلقوها بصورة اكبر سرعة وسهولة ..بصورة كافية للاستدلال على عظمة ابراهيم الحمدي كقائد معلـّم وملهم .

أيها الأعزاء .. إن أحد مظاهر الكارثة والمأساة الناتجة عن عملية اغتيال الشهيد إبراهيم الحمدي تتمثل في مانراه اليوم من اضطراب وفوضى شاملة في حياة الناس العامة والخاصة بعد أن فقدت الالتزام والضابط الأخلاقي ، نحن الآن إزاء فساد رسمي واجتماعي أحال المجتمع إلى غابة لا بقاء فيها لغير الأقوى ساعدا والأقل أخلاقا .

الفساد العام صار مؤسساتي بحيث لم يبقى شيئا عام إلا وطاله الاستغلال السيء للسلطة، والمؤسف أن الفساد العام غدا مسنودا بثقافة شعبية وقبول مجتمعي لم يعد يعبأ بالنزاهة .. ووعي شعبي مزيف يكافئ ناهبي المال العام ومستغلي السلطة بالقدر الذي يعاقب فيه من يشذ نحو النزاهة والالتزام باتهامه بالغباء وظلمه لنفسه وعائلته بتفويته لفرصة نهب المال العام حين كان مسؤولاً كبيرا في السلطة.

الأخوات والإخوة .. إن أعظم مظاهر العظمة لدى تجربة الحمدي على الإطلاق ..هي تلك التي تجلت في موقفه الرافض للتمييز الطبقي بين الشيوخ وأبناء القبائل من جهة ، وبين أبناء القبائل وأبناء المناطق التي غادرت النظام القبلي من جهة أخرى ، لقد انحاز للرعايا وساوى بين المناطق والجهات ، يروى عنه قوله أكثر من مرة " نحن خدام لكم لامسؤولين عليكم" انه التمييز الايجابي الوحيد الذي تعايش معه الشهيد لصالح المواطنين على مسؤوليهم وإلا فما في دولته خدم وأسياد ، إنها مقتضيات أصول المعرفة الخالصة حين تتوج بالالتزام الصارم.

أيها الأعزاء .. ان أسعفنا الحظ لان نستلهم من تجربة الشهيد ابراهيم الحمدي ومشروعه شيئا فسيكون ذلك فقط حين تتولد لدينا القناعات الراسخة بأن نضالنا في وجه الاستبداد السياسي يجب أن يسير متوازيا مع نضالنا الاجتماعي الكبير في وجه التمييز الاجتماعي. إن الحقوق الديمقراطية تقام وتتأسس في مجتمع مدني في اغلبه على الأقل ، والا فان الداعون الى الاصلاح الديمقراطي لايعون حقيقة مايقولون .

إن الدولة المدنية لا يمكن ان تبنى مؤسساتها على الواقع أو أن ترى النور إن غاب المجتمع المدني ، وان لم نناضل اجتماعيا لنرتقي بالروابط مادون المدنية الى الروابط والقيم الانسانية بالتوازي مع مقارعة ومنازلة الاستبداد السياسي وكفالة الحقوق السياسية للمواطنين .إن حقوقنا السياسية سننتزعها فقط ان كانت جنبا إلى جنب مع انتزاع حقوقنا الاجتماعية والمدنية كمواطنين أحرار مستقلين لا رعايا تابعين أو ملحقين بأحد وسواسيه بلا تمييز أو فوارق بين الطبقات.

والأكيد ان الحمدي كان يعي حقيقة المخاطر التي تواجهه وتعترض مشروعه وكم سيكون الثمن باهظا إن مضى في تنفيذ مشروعه المدني الحضاري في السلطة والمجتمع .. في المدن والقرى .. في الهضاب والسهول .. في مناطق اليمن الأعلى التي ينحدر منها وتلك "الأسفل" موقعا ..الأقرب إلى قلبه وعقله وفق معاييره وشروطه الإنسانية التي لا تقبل أنصاف الحلول ولا ترضى بأعشار النزاهة ولا تعترف بأن هناك منطقة رمادية بين النزاهة والتلوث بالفساد فـ "لا تجريب للمجرب ولا اصلاح بالملوثين " ، هذا مايقوله الشهيد وهي الحكمة البالغة والمقولات الكلية التي لا تظهره رئيساً شريفاً ونزيها فحسب بل ومثقفا يعي مايقول ، إن تجربته في السلطة التي آلت إليه سلميا وتركه لها وهو مضرجا بدماءه وبينهما لم يرق قطرة دم واحدة أنها تجربة فريدة تجعله في مصاف العظماء الملهمين لأممهم وشعوبهم كغاندي ومنديلا ومارتن لوثركنج.

أيها الأعزاء .. لقد مضى الشهيد إبراهيم الحمدي ليدفع حياته واقرباءه و العديد من مساعديه ثمنا لعظمته والتزامه ، يروى أن الشهيد أبدى مخاوفه في الأيام الأخيرة من حياته من عملية اغتيال قد تطاله مبررا مخاوفه بأن خصومه باتوا يعلمون بأنها الوسيلة الوحيدة للقضاء على مشروعه قال " سوف يقتلونني" ، كان يعلم حقيقة المخاطر المحجوبة عن مريديه وأنصاره ومواطنيه وندركها بوضوح اليوم .

ندرك بعد ثلاثة عقود كم كانت المخاطر حتمية الحدوث ، نعم سيقتلوك سيدي الرئيس .. نعم قتلوك .. وسيقتلوننا حين نمضي على ذات الدرب .. لكننا سنكسب المعركة الأخلاقية في النهاية إن خضناها كاملة متسلحين بالحب والحبر والورود وحين نمضي معتصمين بالثبات على المبدأ واليقين بالنصر لنبني وطننا الأجمل على أساس من المساواة وحكم القانون .

وفي الأخير .. الإخوة شباب التنظيم الناصري دعوني أهنئكم على هذه الفعالية . نعزيكم وأنفسنا برحيل رئيسنا الشهيد إبراهيم الحمدي عضو تنظيمكم الرائد في عملية هي الأخرى تظهر مزيدا من مدنية إبراهيم الحمدي وموقفه الأخلاقي والمعرفي من الأحزاب السياسية كأحد أهم مكونات المجتمع في عهد كان الذين من قبله ومن بعده من الحكام يتعاملون مع الحزبية وفق منطق " من تحزب خان " ، ويعلون من شأن قبائلهم وعوائلهم مهما أكثروا من الضجيج والادعاء بأنهم يرعون الأحزاب وينتمون إليها .

الإخوة شباب التنظيم الوحدوي الناصري وجميع محبي إبراهيم الحمدي.. يغدوا مثل هذا السؤال اليوم أكثر أهمية "من قتل إبراهيم الحمدي .. ؟ " إنهم أعداء مشروعه الحضاري المتضررون منه .. تلك هي الحقيقة والبقية مجرد تفاصيل ، مابين شؤون القبائل ودار الرئاسة يتربع قتلة مشروع إبراهيم الحمدي وبينهما ترتسم معالم وحدود ميدان معركتنا القادمة.

فلنمضي للثأر له بالانحياز لمشروعه ، ذلك هو القصاص العادل الذي يجب أن يطال القتلة الذين ليس من الإنصاف أن يظلوا فارين من وجه العدالة طويلا .

سلام على إبراهيم الحمدي يوم ولد .. ويوم استشهد .. ويوم يبعث حيا .

* كلمة القيت في مهرجان الذكري الـ 33 لاستشهاد الرئيس إبراهيم الحمدي والذي أقامه شباب حزب التنظيم الوحدوى الناصري 14- أكتوبر-2010