اليمن .. حكاية جواسيس الملالي
بقلم/ د. محمد جميح
نشر منذ: 12 سنة و 3 أشهر و يوم واحد
الإثنين 30 يوليو-تموز 2012 11:32 م

أعلنت وزارة الداخلية اليمنية الأربعاء 18-7-2012 أنها ألقت القبض على شبكة تجسس إيرانية يقودها ضابط سابق في الحرس الثوري الإيراني، ينسق عمل الاستخبارات الإيرانية في اليمن والقرن الأفريقي، وأن الشبكة كانت تعمل لمدة سبع سنوات، والحقيقة أن هذه ليست الشبكة الأولى، ولن تكون الأخيرة، فقد ألقت أجهزة الأمن اليمنية القبض على شبكات وأفراد، وجهت لهم تهم التخابر مع إيران، وتصوير مواقع بحرية وبرية حساسة، ونقل معلومات مهمة للاستخبارات الإيرانية عن اليمن على مدار سنوات، وقد تسارعت وتيرة أعمال التجسس الإيراني في اليمن أثناء التمرد الحوثي في محافظة صعدة، غير أنها فيما يبدو بلغت أوج قوتها أثناء ثورة الشباب في اليمن، بعد أن أصبحت البلاد مفتوحة لكل من له غرض. وقبل ذلك، في سنة 2009 تمت محاكمة خلية من أربعة جواسيس، قامت المخابرات الإيرانية بتجنيدهم لصالحها منذ عام 1994، واستمروا في خدمتها حتى عام 2009، حيث ألقت الأجهزة الأمنية القبض عليهم أثناء الحرب السادسة في صعدة، وقبل ذلك وبعده استمر التجسس واستمرت المحاكمات التي حكم فيها بالإعدام على جواسيس تحت غطاء ديني خرجوا بعفو رئاسي من الرئيس السابق ليدخلوا اليوم المعترك السياسي، في قصة معروفة. وفي اليوم نفسه الذي أعلن فيه عن إلقاء القبض على عناصر خلية التجسس الإيرانية اتهم الرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي إيران بالتدخل في شؤون البلاد، وطالبها بالكف عن ذلك، وقال: «نقول لهم: كفى». وهذا يعني أن تصرفات إيران قد بدأت تخرج الرئيس - الذي عرفه اليمنيون قليل الكلام - عن صمته، بعدها أكد لي مسؤول يمني أن اليمن بصدد دراسة استدعاء سفيرها في طهران.

تاريخ التجسس الإيراني طويل وليس وليد اللحظة، كما أن التجسس ليس النشاط غير الشرعي الوحيد الذي تمارسه إيران في اليمن، هناك دعم الحوثيين بالمال والسلاح، وهم بدورهم يدعمون انفصال الجنوب كما أكد الناطق باسمهم مؤخرا لصحيفة تتبعهم، وهناك دعم إيراني لتيار متشدد في الحراك الجنوبي يطالب بالانفصال، وهناك محاولات حميمة لتعطيل عملية التحول السياسي، وعرقلة نجاح المبادرة الخليجية، وغير ذلك من الأنشطة الإيرانية غير المشروعة، والواقع أن الاهتمام الإيراني باليمن يرجع إلى وجود أقلية شيعية زيدية في اليمن، منسجمة مع السنة، تسعى إيران بكل جهدها عن طريق وكلائها الحوثيين لتحويلها إلى مذهب ولاية الفقيه، أو تشييعها سياسيا على الأقل، والشيء ذاته تسعى إليه إيران من خلال تواجدها في بعض مناطق السنة الشافعية في البلاد، كما أن الاهتمام الإيراني باليمن مرده إلى موقع اليمن على طرق التجارة البحرية، ولكونه يقع جنوب المملكة العربية السعودية، في بقعة يمكن الانطلاق منها لإقلاق الأمن القومي العربي.

التدخلات الإيرانية لم تعد خافية على أحد (إلا على الحوثيين الذين ينكرونها كما ينكر المالكي تدخلات طهران في العراق)، ومنذ سنوات ونحن نقول: إن إيران تلعب في اليمن، ويرد الحوثيون، وهم الوكلاء الجدد لنظام الملالي في اليمن: فيتهموننا بأننا طائفيون، عنصريون، عملاء للنظام وللوهابية وللصهيونية وقوى الاستكبار العالمي، وغيرها من الألقاب الجسيمة المضحكة.

واليوم، ماذا سيقول وكلاء إيران الجدد في اليمن، بعدما كشف رأس الدولة عن التدخلات الإيرانية في البلاد؟ تلك التدخلات التي لم يعد من قبيل إذاعة الأسرار الحديث عن توسعها في الشمال كما عند الحوثيين، والجنوب كما عند بعض القيادات الجنوبية التي فرطت للأسف في ماضيها النضالي، مثلما فرط بعض المنتمين إلى تيارات قومية ناصرية أو بعثية في طروحاتهم القومية العربية التي يبدو أنهم أصبحوا يستقونها من طهران. ماذا سيقول الوكلاء الجدد أصحاب اللطميات الجديدة التي لم يتدربوا عليها بشكل جيد بعد؟ هل سيلجأ الحوثيون إلى اتهام الرئيس هادي نفسه بأنه «عميل النظام في اليمن وطائفي وعنصري وعميل للوهابية وقوى الاستكبار والصهيونية العالمية؟»، أم سيلزمون الصمت، وهو غير مرجح.

قلناها بالأمس، ونقولها اليوم، وسنظل نكررها: أذرع إيران في اليمن ولاؤها لإيران فقط، وبعض الذين لم يقرأوا في أفكار هذه الحركات الأصولية ربما لا يستطيعون تصور أن يكون ولاء جماعة معينة لغير وطنها (الكلام هنا عن الجماعة العقائدية الحوثية وليس عن الأتباع الذين غرر بالكثير منهم). التركيبة الهيراركية لمثل هذه الحركات الأصولية تحتم ولاءها لمرجعها، وهذا لا يحتاج إلى كثير شرح، لأن مثل هذه الجماعات الأصولية الدينية تقوم على أساس طاعة الإمام، وهؤلاء إمامهم للأسف في طهران. إنهم يشبهون سياسيا جماعات اللوبي الإسرائيلي في الولايات المتحدة التي تتهم بالولاء المزدوج « Dual Loyalty »، والفارق الوحيد بين الجماعتين أن أعضاء اللوبي الإسرائيلي يتهمون بالولاء المزدوج لأميركا وإسرائيل، بينما الحوثيون أصحاب ولاء واحد غير مزدوج لنظام الولي الفقيه في إيران. وهذا يذكرنا بفعل الكثير من الأفراد والجماعات الشيعية، بل والأنظمة العربية التي تنطلق في سياساتها من المنطلقات ذاتها للسياسة الإيرانية. فقبل سنوات وقف حافظ الأسد البعثي العربي السوري مع إيران ضد صدام حسين البعثي العربي العراقي، ولم يكن هناك أي تفسير لهذا الموقف غير الانتماء الطائفي. وعشرات الشواهد من ولاء مراجع شيعية في الخليج ولبنان لنظام الولي الفقيه الذي يضعون تحت تصرفه أموال «الخمس» التي بدلا من أن تصرف على مواطنيهم تذهب بعيدا إلى إيران، أو لتمويل سياسات إيران خارج حدودها، كل ذلك تقديما للولاء الطائفي على ولائها الوطني، على اعتبار أن الولاء الوطني لا يقرب جنة ولا نارا، بينما يعصي الله من يعصي وليه الفقيه.

والحوثيون ليسوا بدعا من هذه الجماعات التي توالي على أساس طائفي مقيت، هذه هي الحقيقة التي علينا في اليمن أن نقف أمامها دون أن نخضعها للمساومة السياسية، لأن أمن البلاد ينبغي أن يقدم على كل شيء، علينا أن نتعامل بشيء من الحزم اللازم لقضايا بمثل هذه الحساسية، دون أن نتعامل مع ملف التجسس الإيراني بالأساليب الماضية، حين كانت الأحكام تصدر بحق جواسيس في صورة ملالي يمنية، ثم يخرجون لاعتبارات سياسية، ثم يشكلون أحزابا سياسية.

وإذا كان الولاء الديني الطائفي مقدما على الولاء الوطني عند هؤلاء فإن الدولة ينبغي أن تحضر. اليمن اليوم بلاد مفتوحة لكافة الأفكار والتدخلات، ورجال الاستخبارات، وإيران ليست الوحيدة في هذا الشأن، لكن الفارق بين إيران وغيرها أن غير الإيرانيين دخلوا بشكل وسطاء ورعاة لمبادرة أبعدت اليمن عن حافة الحرب الأهلية رغم وجود معارضين لها، بينما إيران تدخل عن طريق حركات تمرد أو حركات تطرف تدعو للانفصال ستواجه استحقاق التغيير السياسي قريبا، أو عن طريق بعض الأفراد الطامحين سياسيا أو ماديا، والذين ليس لهم وجود حقيقي على الأرض، فأرادوا تكبير أحجامهم بقليل من المال «الطاهر» الذي طالت بركاته الكثير في بلادنا العربية الموبوءة بالديكتاتوريات والجهل وبـ«إيران الشقيقة».