تطرف مساجد الحي
بقلم/ د. محمد معافى المهدلي
نشر منذ: سنتين و 5 أشهر و 4 أيام
الجمعة 17 يونيو-حزيران 2022 01:58 م

نزلنا بلدةً تاريخيةً طيبةً ضاربةً بجذورها في عمق التاريخ، يزيد عمرها عن ٥٠٠٠ سنة، نسبة المسلمين فيها ١٠٠% ونسبة الشيعة ٣٨%، بها كل المذاهب الإسلامية الخمسة، ومع زيادة نسبة التشيع أكثر من ثلث المجتمع والبلدة، إلا أنّ المجتمع كله يعيش بأمن وإخاء، وجميع المذاهب تعيش بسلام وتسامح وتعايش، لي قصص طريفة مع بعض مساجدها.

بجواري مسجدٌ حسبته مسجدًا كغيره من المساجد، الصف الأول في المسجد به عدد كبيرٌ من الكهول والمسنين والأشياخ، لم أعلم إلا بعد بضعة أشهر أن معظم هؤلاء الكهول، دكاترة وأساتذة جامعات، سابقًا، لكن لتواضعهم لا تميزهم عن عامة الناس، أحدهم درجته بروفيسور بيطري، لطيفٌ جدًا، رآني مرة أسير نحو بيتي خارجًا من المسجد، فأبى إلا توصيلي للبيت، فالحَرّ شديدٌ وغير محتمل، هممت أن انتهز الفرصة وأساله عن البقرة إذا شربت ببسي كولا، كيف يتم معالجتها، فالرجل لا يبدو عليه أي أثر لكِبرٍ لأجل درجته العلمية أو تخصصه العلمي النادر، و من يراه يظنه عاميًا من الدرجة الأولى؟!.

وفي الجهة الأخرى من الصف الأول في المسجد شيخٌ كبيرٌ مسنٌ، دومًا في الصف الأول له خادمٌ يأخذ بيده إلى المسجد، كلما غدى أو راح، لا تفوته تكبيرة الإحرام،مطلقًا، عرفتُ فيما بعد أنه بروفيسور علم التفسير في البلدة وهو عميد كلية الشريعة سابقًا، علاّمة، مفسر للقرآن بالإعراب النحوي، وطلابه وطالباته في كل ميدان، قابلته وسلّمت عليه، النضارة والنور تملآن وجهه المشرق، بالفرح والأمل، ثم كنتُ بعد كل صلاة أسارق وأسابق الأنظار إليه، لأنظر إلى وجهه المشرق المتلألأ، فالنظر لوجوه العلماء عبادة، كما قال بعض السلف، علمتُ أنه أنهى تفسير القرآن الكريم كاملاً في مسجد الحي في نحو عشر سنين، من الدروس الأسبوعية، ولولا شيخوخته وكهولته وخشية أن أثقل عليه لطلبت الدراسة على يديه، شغله الشاغل تلاوة القرآن الكريم ومراجعته.

أما إمام المسجد فليَ معه حديث ذو شجون، فقد لاحظت أول ما وصلتُ الحي أنه يصلي بالناس في غايةٍ من السرعة والخفة، وبين الأذان والإقامة نحو ٧ دقائق، وما أن أسمعه يقول الله أكبر، حتى أقول الله أكبرعليك، هممت أن أبنشر سيارته، أو أضع في طريقه مسامير، فكلما حاولت اللحاق بالجماعة بالكاد أدرك الركعة الأخيرة ، إلا أنه صاحب صوتٍ نديٍ، وقوة حافظة للمصحف، ومع مرور الوقت تأقلمت مع الوضع، ثم دخل شهر رمضان المبارك، فاستمعتُ لبعض دروسه في أحكام الصيام، فألفيته عالمًا متحررًا، سليم اللغة، واسع المعلومة، عميق الفكرة، فحرصت على حضور دروسه، والصلاة خلفه، رغم قصر صلاته جدًا، فالتراويح مع العشاء والوتر لا تتعدى ٢٥ دقيقة، ثم يتحول المسجد عقب صلاة التراويح إلى عيد ومعايدة، وفرح وسرور لأداء هذه الفريضة والفضيلة.

ثم علمت بعد ذلك أنّ سرّ عدم تطويله للصلاة مراعاته لأولئك الأشياخ والمسنين، الذين دومًا تجدهم في الصف الأول. من الطريف كنتُ قبل أن أعرف علم إمام المسجد وفضله، وددتُ أن أسأله عن مسجد غير مستعجِل، ولكني سألت المؤذن - منعًا للحرج، وحتى لا يسألني بالمقابل ومسجدنا ألا يعجبك؟!- هل تعلم مسجدًا فيه صلاة غير مستعجلة وإمام غير مستعجل؟، فأجاب نعم، المسجد الفلاني القريب ذاك. في يومٍ زرتُ هذا المسجد الآخر على أمل أن أجد بغيتي فيه من عدم العجلة والسكينة، فوجدت هذا المسجد يتأخر في إقامة الصلاة حوالي ٤٥ دقيقة، فقد قرأتُ ما تيسر وقلبت الجوال ولم تُقم الصلاة. بعد قليل جاء الإمام في تواضع جم، صلى بنا، وأعجبت لصلاته ورونق المسجد، فكنت أزور المسجد بين الحين والآخر.

وفي أحد الأيام صليت في هذا المسجد، ولاحظت أن الامام كأنه يعاني عاهة ما أثناء جلوسه، وصادف أنه سهى في صلاته، ولم يفتح عليه أحد من أهل المسجد، فقد تبين أنه هو الأوحد حاضر القلب أكثر من المؤتمين، رغم سهوه، وبعد الصلاة تحدث للمصلين حديثا ماتعًا عن سجود السهو، وكيف يُفتح على الإمام، إذا أخطأ، وذهلت لفصاحته وتحريره مسألة سجود السهو. فانتهزت الفرصة وتعرّفتُ عليه، فتبين لي أنه هو الآخر دكتور في كلية الشريعة، تخصص تفسير وعلوم القرآن، وزاد من متعة الحديث معه أنّ الشيخ يعرف كثيرًا من أنحاء اليمن أكثر مني.

وكلمني عن بعض المسائل الفقهية وطلب أن أبحثها له، في الزكاة كسهم في سبيل الله، ما المراد منه، وما الراجح؟، ووجدت المسألة شائكة فقهيًاجدًا، وفي لقاء آخر طلب مني بحث مسألة هل اليمنيون هم أصل العرب، كما يقال، وهل ورد فيها حديث شريف؟ وخلصت بعد دراسة أنّ هذه مقوله، لم يرد في السنة ما يدل عليها، وإن كانت وردت أحاديث في فضل أهل اليمن ومكانتهم، جمعها بعض العلماء كالشيباني عبدالملك يرحمه الله، تزيد عن أربعين حديثًا، وإنما ورد حديث عن الحميريين، صححه الألباني بلفظ: (كان هذا الأمر في حمير ثم نزعه الله منهم، وجعله في قريش، وسيعود إليهم). ثم صار الدكتور بعد هذا صديقًا حميمًا. رغم ما بين مساجد المدينة من تطرف وتباعد مذهبي، إلا أنني ما صليت مرة خلف إمام إلا كان حافظاً للقرآن.

زرتُ سوق البلدة وقُرب المغرب وجدت وسط البلدة مسجدًا له مئذنة تعانق السماء، فأنخت راحلتي، ودخلت لصلاة المغرب، وإذا بي أسمع تراتيل وزوامل، ووجدتُ على باب المسجد شباباً يوزعون الحلوى والقهوة والماء البارد، فسألتهم هذا مسجد سني، قالوا لا بل مسجد إخوانك الشيعة!!. فعدتُ إلى راحلتي ولم أصلّ المغرب إلا بعد العشاء لازدحام السوق، ثم ما صليت مسجدًا حتى أسأل أنتم حنابلة أو شافعية أو جعفرية؟!!!. هههه. الجدير بالذكر أنّ المذاهب الإسلامية الخمسة أو الستة في هذه البلدة لم تسجل حادثةً أمنيةً واحدة حسب علمي ومدة إقامتي فيها، بين سني وشيعي أو بين حنفي وحنبلي، بل الجميع يعيشون بأمن وسلام وإخاء، ولعل الأسباب إجمالًا يمكن حصرها فيما يأتي:

١. السلطة المحلية سلطة سنيّة ليست سلالية ولا طائفية ولا دموية، بخلاف السلطات الشيعية فهي غالبًا بل دومًا سلطة دموية لا تقبل التعايش مع الآخر، على الإطلاق.

٢. العدالة والمساواة أمام النظام والقانون للجميع.

٣. عدالة توزيع المال والثروة والوظائف والمراكز، بحسب معايير عادلة ليس فيها معيار المذهب أو الجنس.

٤. قوة السلطة المحلية وقدرتها على إنصاف المظلوم أيا كان، وقمع الظالم مهماً كان. أخيرًا: لا يفوتني أنْ أعرّج على دور المرأة، في هذه البلدة، فالمرأة دخلت كل المؤسسات والسلطات والدوائر، مديرة لمؤسسات ومالكةلشركات وتاجرة للمولات، وباحثة في الجمعيات، ولها الدور الثاني في الجامعات ومختلف الهيئات، وأحيانًا الدور الأول، وأحسب أنّ ثمة وهمًا كنّا نعيشه وهو أن خروج المرأة سيفسد المجتمع، وهذا كلام فيه نظر، فالمجتمع يفسد ليس بسبب خروج المرأة، ولكن بسبب عوامل الفساد الأخرى، في مقدمتها غياب الوعي وغياب الإيمان بالله واليوم الآخر، وغياب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أما مجرد خروج المرأة فليس سببًا للفساد في ذاته، فقد كانت المرأة في العهد النبوي والعصر الراشدي تخرج من بيتها بأمن وسلام وتمارس مهامها وشؤونها الحياتية دون ضير، وهو ما لحظته في هذه البلدة. نعم خروج المرأة يصير فسادًا كبيرًا حين يكن الهدف من خروجها من البيت تأنيث المجتمع والإخلال بالديموغرافيا السكانية والقضاء على رسالة المرأة الأولى في تربية الأبناء والنشأ. في البلدة كلما وجدتَ سيارةً عليك غض البصر فغالبًا ما تكن قائدةُ المركبة فتاة، فالمرأة تقود السيارة بمختلف الأنواع، وفي كل مكان.

ختامًا: لعلّ من أهم أسباب صلاح البيئة والمجتمع صلاح المسجد، والعناية به، وإعماره، وبقدر عناية الأمة بالمسجد بقدر ما تجني من الأمن والسلام والوئام والألفة والنعم والرفاه.

وما سبق من سرد لنموذج من رسالة المسجد دليلٌ على صدق ما نقول، وأن المساجد إذا أحسن إعدادها فهي سبب للأمن والوئام، وإذا لم يتم إعدادها وتهيئتها علميًا ودعويًا، فهي عامل قلق وشقاق وفتنة في المجتمع. والله الموفق والمستعان، وآخر دعوانا أن الحمد لله العالمين.