هل يعيد الحوثي دور الفأر الذي دمر مملكة سبأ؟!
بقلم/ محمد الجرادي
نشر منذ: 9 سنوات و 8 أشهر و 9 أيام
الإثنين 09 مارس - آذار 2015 03:19 ص

لم تكن المخاطر هي من تثنيني عن زيارة مأرب للتعرف على الموطن الأول للإنسان العربي، ولم تكن أيضا ظروفي المادية، ولا ندرة أصدقائي هناك، ولا حاجتي لمرشد كأي زائر غريب، للأمر علاقة بالصورة الذهنية التي رسمها الإعلام في مخيلتي ومخيلة الكثير عن كنز اليمن العظيم الغني بالثروات، وأرض الجنتين المذكورة بالقرآن الكريم حيث نمت حضارات عظيمة ومزدهرة في عهد ملوك سبأ. لقد درج الإعلام على تصوير عاصمة سبأ كما لو أنها ملاذ آمن للمخربين وقطاع الطرق، حتى بات التفكير في زيارتها نوع من المغامرة.
حالفني الحظ مؤخرا، في زيارة الأرض الطيبة، مأرب الاسم الخالد في وجدان الإنسان اليمني والعربي، والتاريخ الجمعي لنا كيمنيين بل هي جواز سفرنا إلى العالم كله، فهي عنواننا الأبرز ولا يعرف اليمن إلا بها.
الزيارة لم تكون لمهمة صحفية، ولكن راقني كتابة بعض ما سمعت، وانطباعات لزيارة استمرت أسبوعا كاملاً، برفقة ثلة من الأصدقاء، وانحصرت في زيارة العرش الذي حكمت منه (بلقيس) مملكة سبأ و شمال وجنوب شبة الجزيرة العربية وصولاً إلى الحبشة غرباً والقرن الإفريقي جنوباً بحسب المؤرخين. كذلك زيارة معبد بلقيس الضخم، المعروف بـ(معبد الشمس) والوادي بمزارعه المترامية على صحراء مستوية وممتدة يخال للناظر أن السماء تبدأ من أطرافها، أيضا حمدي البكاري مراسل الجزيرة والذي بدأ كما لو أنه أحد المعالم الأثرية في مأرب يستلزم الزيارة بالنسبة لزميل قادم من صنعاء، واختتمت رحلتي إلى سد مأرب، لم أفكر بالمرور على مطارح القبائل المأربية التي تطوق المدينة استعدادا لأي مواجهات محتملة مع الحوثيين، والواقعة في مناطق مفتوحة على مصراعيها وصحراء لافحه تبتلع من ليس خبير بها، فمأرب من الداخل أكثر دهشة وإبهار، كذلك الإنسان المأربي صاحب الكرم والأخلاق لا يتنازل عن كرمه، إنها جزء لا يتجزء من كيانه مهما كانت ظروفه.
ما كان أمر مأرب وسبأ ليشتهر في الماضي والحاضر لو أنها اكتفت بجمع ثرواتها وتكديسها، ولكنها بفضل ما توافر لديها من مقومات "لَقَدْ كَانَ لِسَبَأٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ". تمكنت من أن تثمر حضارة عظيمة ما زال بعضها مطمورا تحت التراب.
حين تطأ أقدامك أرض مأرب، تدرك كم أن الإعلام هو السلاح الأكثر حدّة، وتأثير، علاوة أننا شعوب اعتادت أن تصدق ما تسمع لا ما تقرأ، ويعجبها من المطروح ما يخدم مصالح معينة، وليس لديها أي استعداد للبحث عن الحقائق، وهذا ما يقدمه الإعلام حاليا، بسبب انحرافه عن رسالته السامية وعدم المبالاة في النتائج، وغياب الإخلاقيات العامة التي تراعي المصلحة العامة للوطن. فمأرب بالنسبة للإعلام اليمني ملجأ للمخربين وقطاع الطرق, غالبية اليمنيين وأنا منهم لا نعرف أن إنتاج مأرب من الـ(بطاط، طماط، كوسة، ليم، يوسفي مانجو...الخ، تغطي أسواق الجمهورية اليمنية لمدة 8 أشهر في السنة، على مرحلتين، وفي نفس الفترة تصدر الكثير إلى المملكة العربية السعودية من هذا المحاصيل، كما أنها لا تزرع شجرة القات إطلاقاً، أنها سلة الغذاء اليمني والمخزون الاقتصادي الكبير.
وإذا جئنا إلى ثروة مأرب وخيراتها التي تصب إلى خزينة الدولة، فالغاز من مأرب وعائداته تصب في البنك المركزي الذي يسيطر عليه الحوثي، والنفط من مأرب وعائداته تصب في المركزي والكهرباء من مأرب، بينما لا تزال مأرب محافظة نائية جدا لا تمتلك أي بنية تحتية ولا تستلم من خيراتها شيئاً يذكر. ثم يطل زعيم جماعة الحوثي من صعدة ليصف أبناءها بـ"التكفيريين والدواعش" ويواصل حشده لضربهم.
مأرب كما قال الشاعر :
كالعيس في البيداء يقتلها الظمأ
والماء فوق ظهورها محمولُ
يعتقد سكان مأرب والكثير من أبناء القبائل أن الدولة لم تهتم بهم كاهتمامها بالمناطق اليمنية الأخرى، ويقولون أن أعمال ضرب أبراج الكهرباء وتفجير أنابيب النفط أعمال تدار من صنعاء، ومن قبل مواطنين الدولة طرف رئيسي في مشاكلهم.
أكثر ما يُلاحظ ويلمسه الزائر لمأرب أن لا دولة هناك، وأن تلك البلاد الغنية محكومة بالتوازنات القبلية وليس الحزبية. وأغلب سكان المدينة -مركز المحافظة- هم من أبناء تعز، وإب وريمة، ومحافظات أخرى بعضهم يستقر فيها منذ أكثر من 20 عام.
ظلت مأرب التي تعتبر كنز اليمن الحضاري والأثري ، ظلت قبلة للسائح القادم من خارج اليمن، حتى حادثة مقتل سياح إسبان فيها واختطاف خمسة سياح إيطاليين آخرين في 2006 بعد ساعات من الإفراج عن عائلة ألمانية مكونة من خمسة أفراد بينهم وزير دولة سابق بعد ثلاثة أيام من اختطافهم في محافظة شبوة آنذاك، بحسب أحاديث سكان من أبناء المحافظة.
حينما انهار السد انهارت مملكة سبأ وتفرقت أيادي أبنائها، ونزحوا وغرقت جناتهم، وذهاب أشجارهم، وإبدالهم خمطًا وأثلاً وشيئًا من سدر قليل كما جاء في القرآن. يقول المؤرخ الإغريقي اجاثرخيدس الذي عاش في القرن الثاني قبل الميلاد:"انه لا يبدو أن ثمة شعباً اغني من السبئيين كانوا وكلاء عن كل شيء يقع تحت اسم النقل بين آسيا وأوروبا، وهم الذين جعلوا سورية البطلمية غنية، وأتاحوا للتجار الفنيقيين تجارة رابحة، وآلافاً من اشياء أخرى ووصفهم بأنهم محاربون أشداء وملاحون مهرة يبحرون في سفن كبيرة إلى مستعمراتهم ليأتوا بمنتجات لا تتوفر إلا هناك.
مملكة سبأ دمر سدها فأر فانهارت, لقد كان هذا السد سلاح حياتهم ومفتاح حضارتهم، والعصبة التي يرتكز عليها اقتصاد مملكتهم القوية، فهل سيكون عبدالملك الحوثي الفأر الذي سيتسبب في انهيار الدولة اليمنية وتفرق أبنائها، وهو يحشد لاجتياح مأرب التي تشكل مواردها وثرواتها النفطية العمود الفقري للاقتصاد اليمني، حتى في ظل سيطرة الحوثي في صنعاء فعائدات ثروات مأرب تصب إلى الخزينة العامة؟!
الثأر يحصد ولا يزال حتى الآن العشرات من أبناء هذا المحافظة، ورجالها، أنها القضية الأخطر التي تؤرق المجتمع المأربي، فقد تحدث لي شاب أنيق ولبق بزيه القبلي تبدو عليه مسحة من تحضر يتمنطق بندقية، لا يتجاوز عمره (15عام) يدعى معمر الحداد، يقول الحداد الذي بدأ أكبر من عمره المفترض بسنوات "ضيعتنا الثارات، في مأرب أنا أذهب المدرسة وأضع البندقية في الإدارة قبل دخول الفصل حتى الانتهاء من الدراسة". أسرة معمر لديها ثأر مع أسرة أخرى يفصل بين منازل العائلتين مسافة 10 دقائق بالأقدام، ويحجبهم عن بعض أشجار المزارع المترامية على صحراء هذا الوادي الأخضر، الذي يبدو كما لو أنه انفجر من باطن الأرض أو سقط من السماء، فكل ما حوله أرض قاحلة جرداء.
نواصل الحديث أنا ومعمر الذي بدأ ممتلئ "برجولة" لو وزعت على سكان صنعاء لكفتهم، "أتوقع أن يكون الثأر مني كواحد من العائلة لذلك أحمل سلاحي معي"، يتحدث كمن لا يهاب الموت ولا يكترث له، هذا الأمر أفزعني جدا، فأنا من بلاد يكاد أبنائها في قطيعة تامة مع السلاح، ولم أشهد قضية ثأر في حياتي.
رشقت مسامع معمر ببعض النصائح وحثيته على مواصلة الدراسة، وتمنيت أن يكون لي رحلة أخرى إلى مأرب لأطمئن على حياة هذا الشاب الرائع. وتمنيت أيضا أن يتنازل اليمنيين لبعضهم، فالتنازل عن مكاسب سياسية من أجل حماية أمن واستقرار بلادنا هو تضحية في حجم الاستشهاد.
فلن يكون قويا، من سيتسبب بتدمير اليمن، وتشريد أخوانه إرضاء لدول إقليمية، دمرت العراق وسوريا ولبنان ولن يكون مساهماً في الحفاظ عليه من يواصل الغطرسة ضد خصوم سياسيين.
أن نحفظ دماء بعضنا ونتنازل ونرفض أن يكون فينا فئة غالبة وفئة مغلوبة، حفاظا على وحدة مجتمعنا ونسيجه الاجتماعي، خيرا لنا من الإصرار على الحقد والغرور والغطرسة، وقيادة البلد نحو الإنفجار الذي لن يترك أحد، فمن يرى أنه سيحكم هذا المجتمع على جماجم أبنائه واهم وألف واهم.