مهجرو الجعاشن والجزيرة وطلاب الجامعة ثلاثي التغيير والثورة في اليمن
بقلم/ توكل كرمان
نشر منذ: 12 سنة و 7 أشهر و 5 أيام
الإثنين 26 مارس - آذار 2012 09:37 ص

في البدء كانت الجعاشن وفي المنتهى ستكون ، وبين البداية والنهاية شهدت اليمن ثورة عظمى أذهلت العالم ولا تزال ، وفي كل ذلك كانت الجزيرة حاضرة ترصد التفاصيل وتصنعها في آن ، تشارك مهجري الجعاشن الآلام والآمال ومن بعدهم ثوار ساحات التغيير وميادين الحرية ولا يزال الجميع يعلقون عليها الآمال بتقديم المزيد.

تكشف قصة أبناء منطقة الجعاشن وهي المنطقة الواقعة في محافظة إب وسط اليمن عن مأساة إنسانية كنا نظن أنها لم تعد تحدث في التاريخ الإنساني، ضحاياها مزارعون بسطاء بنسائهم ورجالهم شيوخهم وشبابهم وأطفالهم، في مواجهة شيخ الجعاشن الحاكم بأمره من يملك الأرض والإنسان والشجر والحجر، لديه السجون الخاصة والمليشيات المسلحة ، وتحت تصرفه الدعم والتواطؤ الرسمي الذي مكنه من القيام بعملية استرقاق واسعة النطاق لسكان المنطقة ، يفرض الإتاوات ويسخر الناس قسرا في خدمته وخدمة أعوانه ، يرعون الأغنام والأبقار التي يملكها الشيخ ، يحرثون الأرض التي تذهب أغلب مخرجاتها للشيخ ، له النصيب الأوفر من عائدات العمل والمهن التي يزاولونها في الغربة ،وحين عودتهم إلى الوطن يجب أن يكون بيت الشيخ محط زيارتهم الأولى وله نصف هداياهم ونقودهم على الأقل، ومن يرفض أو يتمرد أو يتردد منهم فالعقاب القاسي والزاجر والرادع في انتظاره، السجن والضرب المبرح في سجونه الخاصة المسماة بأسماء الأفاعي والكواسر ، هدم الديار ونهب البيوت والتهجير خارج المنطقة ، الاستيلاء على الأراضي الزراعية وإعادة توطين رعايا آخرين طيعين للشيخ كلها عقوبات معتاد عليها !

قبل عام من ثورة الشباب وفي يناير 2010 كانت مدينة صنعاء على موعد مع آخر تهجير لأبناء الجعاشن طال أكثر من خمسين أسرة وجدت نفسها على الرصيف في ساحة قرب بوابة جامعة صنعاء تأويها بعض الخيام بعد أن نزع عنهم الشيخ المنازل والمزارع والأملاك ، طردهم الشيخ النافذ على خلفية رفضهم دفع إتاوة لا يقدرون عليها.

عملية التهجير هذه تعد الثالثة خلال ثلاث سنوات ، غير أنها في حالتها الثالثة وجدت مساندة أفضل من قبل بعض النشطاء المدنيين والصحفيين الذين شاركوهم الشعور بالألم وآمنوا بقضيتهم فراحوا يقدمون المساندة الحقوقية ويسلطون الضوء الإعلامي عليها ..غير عابئين بإرهاب الشيخ الطاغية صديق الرئيس وشاعره المقرب ، كما شهدت ساحة الحرية التي تتوسط مجلسي الوزراء والنواب اعتصامات ومسيرات أسبوعية تطالب بمحاكمة الشيخ ومليشياته وإعادة المهجرين إلى ديارهم وممتلكاتهم.

طرق المهجرون والناشطون كل الأبواب الرسمية للشكوى وطلب الإنصاف لكن لم ينصفهم أحد ولم يستمع إليهم أحد ، لكنهم لم ييئسوا وظلوا يهتفون بشكل دائم في مسيراتهم الأسبوعية واليومية:

صح النوم صح النوم ... يا صنعاء صح النوم

الجعاشن بلا نوم ... بين الأمطار طول اليوم

وفي رحلة نضالهم الطويل التي استمرت لمدة عامل كامل في الشوارع ، كانت الجزيرة أول وأكثر وسائل الإعلام حضورا وإيمانا بقضيتهم ترصد التفاصيل وتبثها وتوثقها أيضا ، وعبر الجزيرة شاهد اليمنيون والعالم أبناء الجعاشن يعرضون مظالمهم وينددون بالشيخ وبالصمت والمباركة الرسمية على مظالمه ، اكتسبوا عبرها مهارات التصريح لوسائل الإعلام بعد أن أصبحوا معروفين بفضل الجزيرة لدى معظم الصحف وقنوات البث الفضائي والإذاعي .

يقيناً أن مراسلي الجزيرة في صنعاء وفي مقدمتهم الزميل العزيز أحمد الشلفي يحتفظون بذكريات ذات شجون معهم ، يحفظون تفاصيل مسيراتهم التي تبدأ من مخيمهم جوار بوابة جامعة صنعاء إلى تلك الساحة الفاصلة بين بوابتي الحكومة والنواب وإلى جميع مؤسسات الدولة ، لطالما رصدت التقارير الحقوقية انتهاكات متعددة في حقهم ، حتى صار معتادا ان نقرأ البيانات الصادرة عن المنظمات المدنية تدين تعرض مراسلي قناة الجزيرة للضرب ومصادرة أجهزة التصوير أثناء تغطيتهم المهنية لمسيرات مهجري الجعاشن ، نعم .. لطالما جمع مراسلي الجزيرة بمهجري الجعاشن والنشطاء المدنيين النضال المشترك وتعرضوا للضرب والاعتداء معاً .

استضافتهم الجزيرة في برنامجها الرمضاني " سحور مع" وبثت المؤتمرات الصحفية التي يقيمها الناشطون المناصرون لقضية الجعاشن كما استضافت المدافعين عنهم في أكثر من برنامج وفي نشراتها الإخبارية ، حتى أضحت قضية مهجري الجعاشن قصة عالمية ، أنتجت لها الأفلام وتحدثت عنها التقارير الإخبارية في كبريات القنوات والصحف العالمية ، وفي اليمن صارت قضية رأي عام تعرض على إثرها شيخ الجعاشن إلى حملة استهجان وتنديد شعبية واسعة جعلته في عزلة اجتماعية لم يستطع معها حضور جلسات مجلس الشورى ولم يستطيع ابنه عضو مجلس النواب حضور جلسات المجلس هروبا من نظرات الازدراء والاستهجان في الشارع اليمني التي تواجههم أينما حط بهم الترحال ، وعلى الرغم من كل ذلك لم ينجح التعاطف الشعبي والدعم الحقوقي والإعلامي الواسع لهم في إعادتهم إلى الديار .

هنا بدا واضحا بأن هناك فيتوا رئاسي يحول دون عودة المهجرين ، فيتوا يرى في كسر إرادة شيخ الجعاشن بداية النهاية لسقوط شبكات المحسوبية في اليمن التي يغذيها النظام ويعتمد عليها في البقاء والاستمرار، وترسخت قناعة لدى المهجرين والناشطين ومعهم مراسلو الجزيرة مفادها حين تكون الطريق معبدة أمام الجماهير إلى دار الرئاسة .. فستكون الطريق إلى منطقة الجعاشن معبدة أمام المهجرين ، أحفظ عن مراسل الجزيرة أحمد الشلفي قوله " الجعاشن قصة ثورية لابد أن تكتمل".

حينها سمعنا المهجرين والناشطين يعبرون عن تلك القناعة عبر هتافاتهم أمام بوابة جامعة صنعاء يحثونهم على فعل شيء :

يا طلاب الجامعة .. الحقوق ضائعة

أعلنوا الإضراب المفتوح عن الطعام أمام مجلس النواب ، نقلت عنهم الجزيرة هتافهم التاريخي : جمهورية جمهورية ... مواطنة متساوية

وفي الأيام السابقة للثورة الشبابية كانوا يغنون :

بلادي إلى المجد هيا اصعدي .. وثوري بعزم الشباب الأبي

وسرعان ما بدأت الفصول الثورية للقصة تتسارع ؛ فبعد عام من نضال مهجري الجعاشن ، وفي نفس شهر تهجيرهم في منتصف شهر يناير 2011 كنا على موعد مع مارد طلابي خرج من جامعة صنعاء ليحتفل بسقوط بن علي وليبارك لشعب تونس ثورته ، ويعلن أننا نريد أن نفعل مثلما فعلوا رافعاً شعار " ارحلوا قبل أن تـُرحلوا " .

تحفظ التقارير الصحفية والتلفزيونية عن بدايات ثورة الشباب ، كيف سار الطلاب جنبا إلى جنب مع مهجري الجعاشن وقلة من الناشطين المدنيين يطالبون بإسقاط النظام ويبررون ذلك بشعارهم الشهير" يا علي عبد المغني .. علي صالح ضيعني " ، تحتفظ الثورة لشعراء الجعاشن بأجمل وأقوى شعاراتها " أين الوحدة والثورة .. أصبحنا ملك الأسرة ".

في الأيام اللاحقة توقفت تغطية الجزيرة للمسيرات المطالبة بإسقاط النظام بسبب الثورة المصرية التي انشغلت بها تماما، وخفتت معها مسيراتنا إلى حين تتفرغ الجزيرة لثورتنا بعد انتصار الثورة المصرية.

في 11 فبراير وبالتزامن مع سقوط مبارك كنا على موعد جديد مع الجزيرة التي راحت تسلط الضوء على ساحات للحرية وميادين للتغيير في جميع محافظات الجمهورية ، وبعد دقائق من إعلان سقوط مبارك انطلقت مسيرة لعشرات الآلاف من أمام بوابة جامعة صنعاء إلى ميدان التحرير حيث مقر السفارة المصرية ، وفي تعز اعتصم الثوار في ساحة وسط المدينة أطلقوا عليها ساحة الحرية والتي خرج إليها شباب تعز يرددون " اعتصام اعتصام .. حتى يسقط النظام "، بعدها بأيام انتشرت ساحات الحرية وميادين التغيير في معظم المحافظات مستمدة من ساحة الحرية بتعز استمرارها وصمودها وصلابتها ، ولتأوي الساحات المختلفة ملايين الثوار المطالبين بإسقاط ورحيل النظام العائلي.

كانت أكبر ساحات الاعتصام في صنعاء، امتدت ساحة التغيير من أمام بوابة جامعة صنعاء من جوار مقر مخيم الجعاشن حتى وصلت إلى مرمى حجر من مقر اعتصامهم الأسبوعي أمام مجلسي الوزراء والنواب، لم يأتي اختيار هذا المكان مصادفة أو مقطوع الصلة بأسطورة مهجري الجعاشن ومسيراتهم التي ظلت تجوب شوارع الساحة خلال عام كامل من النضال ، هنا ناموا ، هنا ضربوا ، هنا اعتقلوا ، هنا أخيرا هتفوا وهتفنا معهم : أمس بتونس واليوم مصر ... بكره اليمني يفك الأسر..

يمكنني القول الآن أن الثورة الشبابية الشعبية في اليمن لم تكن صدى لما حدث في تونس بقدر ما كانت امتداد لانتفاضة الجعاشن ، وإلا لأصابها اليأس والإحباط سريعا إذ كيف تدخل شهرها الثامن بنفس الزخم والإصرار إن كانت مجرد صدى لثورة لم تستمر سوى أسابيع.

افتتحت القصة الثورية لمهجري الجعاشن فصلها الثاني على وقع هتافات طلاب الجامعة و أبناء الجعاشن ومناصريهم وثالثهم قناة الجزيرة ، ولا حقا بأسابيع كان معهم الشعب اليمني بكافة قواه الشبابية والاجتماعية والسياسية وفي هذه المرحلة كان للشباب اليمني والجزيرة الدور الأبرز في تأجيج الثورة والدفاع عنها، يجودون بأرواحهم ودمائهم في سبيل ثورتهم السلمية ، الجزيرة تسلط الأضواء على تفاصيل الجرائم وشلالات الدماء التي تراق على رصيف ساحات الحرية والتغيير ، وتلتقي بالمئات من القيادات الشبابية الذين خاطبوا العالم عبرها بأهداف ثورتهم وتفاصيل القتل والعدوان الذي يتعرضون له . لا أدري كيف استطاعت الجزيرة أن تصل إلى كل ذلك الكم من القيادات الشبابية المجهولة والتي يعوزها التواصل والتنظيم كأمر طبيعي ومتوقع في ثورة شبابية شعبية عارمة جمع شبابها وحدة الهدف والعفوية وعدم التنظيم المسبق ، ومثلما كانت الجزيرة منبرا إعلاميا عظيماً لشباب الثورة فقد كانت آليتهم للتواصل والحشد وبمثابة تنظيمهم الثوري الذي ينسق ويوحد الفعل الثوري في كافة الساحات والميادين ، بالإمكان الإثبات بسهولة أن الجزيرة أدت ذلك الدور كما اعتقد أن جميع القيادات الشبابية للثورة يقرون للجزيرة بالفضل ويعترفون لها أنها ضاعفت قدرتهم على الحشد والمشاركة في الثورة .

شخصياً لدي الكثير مما أوريه في هذا الصدد ، ففي ليلة 22 يناير حين اختطفتني أجهزة الأمن على خلفية أسبوع من مشاركتي في الدعوة للمسيرات الصباحية والمسائية المطالبة باسقاط علي صالح ونظامه العائلي في وقت متأخر من الليل.

بعد ساعات من الاختطاف نشرت الجزيرة تفاصيل الاختطاف وسببه الذي جاء على خلفية مطالب الثوار بإسقاط النظام وخصصت معظم بثها للمسيرات والتظاهرات والتصريحات المنددة باعتقالي والمحذرة من ثورة شعبية شاملة إن لم يتم إطلاقي ، دخلت الجزيرة متخفية إلى السجن وصورت لقاء معي وأنا خلف القضبان، بعد سبعة وستين ساعة تم الإفراج عني استجابة لضغوط المسيرات الشعبية في عديد من المحافظات التي كانت تهتف بالإفراج عني وتردد ذات الشعارات المطالبة بإسقاط النظام ، كانت الجزيرة أول قناة تستقبلني لحظة خروجي من السجن نقلت التفاصيل وشاهد الملايين أول تصريح لي بعد الاعتقال بأننا ماضون في ثورتنا السلمية ثورة الياسمين الثانية حتى إسقاط النظام وحتى تغدوا اليمن أفضل بلد في المنطقة .

بإمكاني القول بأنه مثلما نقر للجزيرة بأنها كانت منبرا للقيادات السياسية والاجتماعية التي انضمت إلى الثورة ، فلقد كانت بمثابة غرفة العمليات ومركز التنسيق لثورة شبابية شعبية عفوية لا تمتلك سوى الحلم والقدرة على التضحية في مواجهة القذائف والرصاص وتآمر إقليمي وعالمي كبير وغير مسبوق ، لكأنها كانت مركزاً إعلامياً للثورة يفند باقتدار تفاصيل الضخ الإعلامي للنظام العائلي ومسانديه الإقليميين والدوليين المتخوفين من الثورة الشبابية والمتآمرين عليها عبر شبكات وقنوات محلية وإقليمية وعالمية ، لقد تفوقت الجزيرة على قنوات الزيف وشبكات السلاطين والأمراء ورعاة الاسترقاق العالمي .

وحين خصصت قنوات الإعلام الرسمية في اليمن معظم وقتها للنيل من الثورة وقياداتها ، نال الجزيرة نفس القدر من التشكيك في مصداقيتها ومهنيتها ، كما كان مكتبها ومراسلوها عرضة للاستهداف والملاحقة مع الثوار سواء بسواء ، ومنذ أن تم مهاجمة مكتبها بصنعاء والاستيلاء على كافة أجهزة البث والتصوير ، أقام أحمد الشلفي وبقية مراسلي الجزيرة مع الثوار في ساحة التغيير بصنعاء ، في حين أقام حمدي البكاري في ساحة الحرية بتعز، ولا يزال الجميع في انتظار أن تكتمل قصة الثورة المطالبة بسقوط النظام بكافة شبكات محسوبياته ، حينها فقط ستشهد مديرية الجعاشن قافلة العودة ، وربما دون أن تعلم أن العائدين إلى الديار هم ثلة من رموز الثورة الشبابية الشعبية اليمنية المجهولين والمشاركين بصناعة أسطورتها العظمى.