الدحبشة والقبيلة والسلطة والدولة
بقلم/ د.فيصل الحذيفي
نشر منذ: 14 سنة و 11 شهراً و 15 يوماً
الإثنين 23 نوفمبر-تشرين الثاني 2009 09:56 م
مقدمة : تحديد المفاهيم
القبيلة: هي المكون الاجتماعي لمجتمع ما قبل الدولة ، والانتقال إلى الدولة يعني بالضرورة خضوع القبيلة والمكونات الاجتماعية الأخرى للدستور والقانون بدلا من الأعراف القبلية والاجتماعية وبالتالي تذوب القبيلة في الأمة كأحد مكوناتها وليس بالتعالي عليها أو التساوي معها كسلطة موازية للسلطة السياسية، فالسلطة قبل ظهور الدولة هي سلطة اجتماعية قبلية تنتجها إرادة القبيلة وفقا لأعراف قبلية صرفة، بينما سلطة الدولة هي سلطة سياسية تنتجها إرادة الأمة وفقا للدستور والقوانين المنبثقة عن إرادتها.
الدولة : هي مؤسسة سياسية اجتماعية جامعة ومتضمنة لكل مكوناتها البشرية والجغرافية والتاريخية والثقافية، فهي مؤسسة محايدة تجمع الكل تحت لوائها دون تفرقة أو تمييز ، فيتشكل مع وجودها مفهوم: « الأمة والمواطنة والسيادة والعيش المشترك » وبالتالي فلا ترتكب الدولة أخطاء ولا ينبغي أن تتحمل أخطاء السلطة السياسية التي تمارس باسمها. ولا ينبغي أن ننسب إلى الدولة إي فعل لا يرضى عنه المواطنون المنتمون إليها والساكنون في كنفها فهي لا تمارس الفعل السياسي مباشرة بل تمارسه عبر مؤسسات تمثلها ولا تلزمها بنتائج أفعالها صوابا أو خطأ.
السلطة : هي الإدارة السياسية للدولة وهي المسؤولة عن كل فعل قبيح فتستحق على ذلك غضب الناس، وهي المسؤولة عن كل فعل بديع تستحق عليه شكر الناس ومدحهم وعونهم ، وهذه السلطة تمارس أدوارها على صورتين: إما أن تكون في نظام ديمقراطي يتضمن شركاء اجتماعيين مثل الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني وليس بوسعها أن تبني نظاما سياسيا ديمقراطيا دون تعميق هذه الشراكة المجتمعية ، وإما أن تكون سلطة مستبدة تحتكر النظام السياسي والدولة وتخرج كل مكونات المجتمع من دائرة الفعل السياسي وبالتالي فهي تـُحَمل نفسها أعباء غير قادرة على الوفاء بها وتطلب من الجميع المساندة لخياراتها وقراراتها حيث لا تكون المساندة ممكنة . الدحبشة : سلوك يمني مخالف للمدنية والتشريعات والقوانين وأخلاق المجتمع وينهج منحى فوضويا على حقوق الغير دون وجه حق. وبالتالي فانه ليس امتيازا شماليا، وترادف الدحبشة سياسيا مفردة البلطجة.
ما هي العلاقة القائمة بين القبيلة والسلطة والدولة في الحالة اليمنية ؟ (قبيلة + سلطة + دولة = دحبشة يمنية).
العلاقة في اليمن بين المكون السياسي والقبلي هي علاقة تزاوج بين القبيلة والسلطة على حساب الدولة – الأمة ، وبالتالي فإن هذا النوع من التزاوج يشكل عائقا للانتقال إلى الدولة الحديثة ، وإذا كان علماء القانون الدستوري يضعون عناصر أربعة للحديث عن الدولة : وهي عنصر الإنسان ، والإقليم ، والسلطة السياسية ، والاعتراف الدولي كمعطى جديد في النظام الدولي المعاصر. فإننا ننوه إليها كما يلي:
1-معطى الإنسان كمكون للدولة ينبغي أن يكون تحت مسمى الشعب أو الأمة ، وليس مسمى آخر (مثل القبيلة والسكان ، والبشر والمجتمع ) فهذه المسميات هي من خصائص المجتمع لما قبل الدولة ، والفرق كبير فالشعب أو الأمة هي من تنتج السلطة وتمتلكها وتغيرها بينما القبيلة والسكان والمجتمع والبشر لا ينتجون ذلك ولا يشاركون في تكوينه.
2-معطى الأرض :لا تعتبر الأرض مؤشرا حاسما بوجود الدولة فقد يوجد الإنسان في أرض معينة ولكن العلاقة الاجتماعية السائدة بين الناس هي أعراف اجتماعية قبلية تراتبية تحتكم لمنطقها الخاص وليس لمنطق عام موحد في ظل غياب سلطة سياسية جامعة أو دولة « الوضع الانتقالي في الصومال الحالي نموذجا».
3-معطى السلطة : أن تكون سلطة سياسية منبثقة عن الإرادة العامة للأمة أو الشعب وليس سلطة اجتماعية للقبيلة أو لمجوعة قبائل متحاربة بالضرورة على الدوام.
لا نستطيع أن نجزم بوجود الدولة في اليمن بسبب تفوق عنصر القبيلة والسلطة ذات العصبية الأسرية والاجتماعية الطاغية على مكونات المجتمع دون رغبته ، وهذه السلطة التي تحاول أن تبدو على هيأة سلطة سياسية للدولة إنما هي سلطة تشبه ما هو موجود في فلسطين حيث تبرز السلطة في ظل غياب الدولة ناقصة الشروط التي لم تستكمل تشكلها بعد على المستوى الداخلي والإقليمي والدولي .
نتاج العلاقة بين القبيلة والسلطة:
إن التزاوج بين القبيلة والسلطة جعلنا في الحالة اليمنية لا ننتقل إلى الدولة حيث المواطنة وسيادة القانون ، ويظل الانتماء إلى القبيلة والمنطقة والقرابة أكثر من الانتماء إلى مكون سياسي آخر ، ويتجلى التسليم بأعراف القبيلة أكبر من التسليم بقوانين وتشريعات الدولة ، إن القبيلة تعيش تحت حماية نفسها. ويبرز هذا الاستقلال الاجتماعي والرضوخ إليه بوضوح تام قبول السلطة بالتفاوض مع الخاطفين القبليين والتعهد بعدم ملاحقتهم قضائيا، والقبول بالتفاوض هو إقرار من السلطة بثنائية الكيان : السلطة – القبيلة. وهذا الاعتراف الضمني أدى إلى التعاون الندي بالحفاظ كل على الآخر ، فالقبيلة تجد حريتها في ظل سلطة تهيمن على المجتمع المتحول إلى الحالة المدنية في المدن واليمن الأسفل، بينما لا تملك القدرة ذاتها في صعدة ومارب والجوف وشبوة والضالع وذمار وعمران حيث يبرز المعطى القبلي ككيان مواز للسلطة وندا لها.
إن السلطة في الحالة اليمنية هي سلطة متعددة الوجوه ، فهي سلطة قبلية للقبائل وتقر بأعرافها ولا تخضعها لتشريعات دولة تدعيها، وهذه العلاقة الخاصة هي التي خلقت ظاهرة الدحبشة وتعني البلطجة على الطريقة اليمنية، ومن ناحية أخرى نجدها سلطة سياسية للمجتمع المدني حيث تقر له تشريعات مدنية وتحاول إخضاعه لها بصرامة، فالمختطفين للسواح في أبين خضعوا للمحاكمة بينما خاطفون قبليون منحوا فدية من قبل السلطة والتزام منها باسقاط الملاحقة القضائية. والقبيلة بدأت تتشكل على نوعين : الأول خارج عن حماية السلطة وخاضع لإقصائها ، وقبائل موالية تحظى بدعم السلطة وغض الطرف عن انتهاكاتها لأمن وسلامة المجتمع مثل الخطف والقتل والبسط والتقطع والنهب .
السلطة لاترتاح للقبيلة كونها تقف عائقا أمام مد نفوذها على نطاقها القبلي مع بروز شخصيات وقبائل لايرتاحون إلى عدالة السلطة ، ولكن العلاقة بين الاثنين قائمة لأن السلطة ترى في القبيلة مرجعا اجتماعيا لقوتها والقبيلة ترى في السلطة الفاسدة مؤسسة ساندة وداعمة لتمرد القبيلة على الدولة التي لم تتكون بعد.
فالقبيلة لاتطمئن للسلطة لأنها لم تحقق لها تنمية حقيقية تساعدها على التحول إلى مجتمع مدني عادل لايضطر أفرادها لاستعمال السلاح بنزع الحقوق أو حمايتها أوردها ، ولكن الفريقين يمثلان أحد أركان مجتمع الدحبشة حيث كل طرف يفعل ما يشاء ولا يرى عيبا فيما يفعل ولو كان ذلك الفعل مشينا في نظر المجتمع والقانون وتشريعات الدولة.
تفشي ظاهرة الدحبشة :
يتسلى بعض اليمنيين في الجنوب تحديدا بالتعريض بكل يمني شمالي باعتباره دحباشيا ، وقد أفادني بعض المتهكمين بأن الدحابشة ثلاثة : دحباشي نصف كم (= المتحذلق)، ودحباشي أليف (= المتعايش مع واقعه) ، ودحباشي وقح (= المنتهك لحقوق الغير). ولم أكن لأقبل هذا التصنيف لأنه ينطلق بحصر الدحبشة كسلوك اجتماعي منسوب إلى شخصية درامية من اختراع كاتب المسلسل الشهير بوصفه شخصية شمالية حصرا. وهنا ينبغي أن نتفق على من تنطبق عليه صفة الدحبشة ؟
ونحن ننظر إلى الدحبشة كسلوك يمارس من نوعين من البشر:
1-الدحباشي المستقل:
الدحباشي من منظور انثروبولوجي هو في وصفه الأدنى بدوي يريد فرض بداوته على الغير لتصبح نظاما اجتماعيا شرعيا يفرض هيبته على الجميع ومتحديا سياق التطور، حتى وان لبس البدلة والكرافات وان حمل الشهادات العليا، إنه في هذه الصفة فرد يقع على طرفي نقيض من المدنية. وهؤلاء هم جنود السلطة في مفاصل الدولة. فـــ« معظم » موظفي وزارة المالية في المؤسسات الحكومية هم نسخة مطورة من الدحابشة الجدد. الدحابشة – اجتماعيا - أناس يلتصقون بالبداوة والقبيلة. وسياسيا – هم أناس ينتجون الفوضى الهدامة أكثر من الميول إلى المدنية والنظام؟ إنهم يعيقون الانتقال إلى الدولة المدنية ويفرضون على الجميع الاحتكام إلى منطقهم الخاص المضاد مع منطق الدولة.
2-الدحباشي التابع :
الدحباشي في وجهه الضعيف هو الشخص المتعايش مع الظلم ، شخص يسكت عن الحق ويدافع عن الباطل باعتباره شريعة غير قابلة للتنازل كالثأر والاختطاف والقتل والغش والتزوير والكذب وبيع الذمة ، وهو مستعد للتجنيد في ممارسة الدحبشة على وجه من الوجوه من هم الدحابشة على مستوى الدولة والسلطة والمجتمع : (السلطة تتركز بيد مجموعة لا تعير للقانون وزنا وبالتالي فرجال السلطة هم دحابشة بحكم الممارسة والسلوك السياسي ، ودعاة الانفصال الخارجون على الدستور مثلهم مثل السلطة يمارسون الدحبشة السياسية بطريقة المراهقين الذين لم يصلوا درجة النضج ، وقاتلوا المواطنين في لحج على انتمائهم المناطقي من قبل أناس أيا كان انتماءهم وصفاتهم هم دحابشة بامتياز، والحوثيون دحابشة بسعيهم للتمرد على الدولة والخروج عن الشرعية الاجتماعية بحثا عن الطائفة والأيدولوجية الطائفية، والقاعدة هم دحابشة بنكهة دينية تجيز القتل لإقامة شرع الله ، مع أن الله لا يريد دولته وشرعه أن يسود على أشلاء من الجثث، وكل يمني يوجه سخطه على أخيه المواطن هو دحباشي بامتياز ، والعسكري الذي يوجه سلاحه على سيده المواطن هو دحباشي بامتياز حتى لو تلقى أوامر القتل أو التهديد والهنجمه من سيده الدحباشي الكبير فذلك مخالف للدستور والقانون لأن وظيفة العسكري حماية المواطنين واحترامهم. إن الدحبشة بثوبها السياسي هي بلطجة على الطريقة اليمنية .
القبيلة كبيئة منتجة للدحبشة:
الحديث عن القبيلة بايجابية هو حديث مثير للغثيان من أناس هم حماة الدحبشة في اليمن ، إن من يعيد المجد للقبيلة باعتبارها وكرا للقيم والأخلاق والكرم أكذوبة غبية . من قال أن الكرم خلق محتكر في القبلية ، ان الكرم صفة إنسانية نجدها لدى امم وشعوب متحضرة لم يعد للقبيلة وجود عندها ولا ملمح فالمسيحيين واللائكيين يواصلون دعمهم لغزة ولبلادنا من جيوبهم في حين ننكفئء عن مساعدة بعضنا البعض.
لقد روى جلال الطفل المختطف من بعض رجال القبائل - « تبا لهذه الرجولة »- بأن خاطفيه كانوا يصلون الفرائض في وقتها ، علما بأن الخطف جريمة يقام عليها حد الحرابة وهي القتل والصلب ، فعن أي صلاة يتحدثون ؟ هل يتحدثون عن الصلاة التي تنهى عهن الفحشاء والمنكر أم عن صلاة أخرى تسمح بالاختطاف والترويع والقتل؟ المسلم لا يعتمد الغدر ولا الحنث ولا الإجرام للحصول على حقوقه. ألم يستقر في وعينا أخلاق الرسول في بنود صلح الحديبة التي كانت ظاهرها حيفا على المسلمين ومع ذلك لم يسعوا إلى نقضها ، إن الإسلام لا يسمح بإزهاق أرواح الناس حتى لو تهدم جدار الكعبة حجرا حجرا ، والقرآن كان بليغا بالتشديد على هول الجريمة «من قتل نفسا فكأنما قتل الناس جميعا» إننا بفضل القبيلة نمارس الثأر باعتبارنا نعيش عصر ما قبل الإسلام ، ثم نصلي ونصوم رمضان ونحج البيت العتيق. أي إسلام نعتنق؟ هل إسلام الرسول؟ أم إسلام القبائل ؟ أم الإسلام الوافد من نجد أو ايران؟ أم الإسلام الشعبي ؟ فكل له إسلامه الخاص.
من يتمسك بأهداب القبيلة هم الدحابشة الذين ينتهكون القوانين ويستولون على الدولة بقانون الهمجية حتى لايخضعون للمساءلة فأقرب طريق هو اللجوء إلى القبيلة للاحتماء بها مهما كان الفعل إجراميا. 
المشائخ الذين يدعمون القبيلة إنما يدعمون استمرار الجهل بين الناس حتى يسهل عليهم أن يبدو شيوخا على القبيلة ، ويكون لهم جنودا وسجونا ومعاشات من مصلحة القبائل ، إنها طريقة للحفاظ على القوة وإعاقة التحديث والتغيير الذي هو سنة من سنن الله في الكون، لأن انتشار التعليم سينتج مجتمعا جديدا وجيلا جديدا يتجاوز الجيل القديم.
إن من يدافعون عن القبيلة إنما يدافعون عن استمرار الفوضى الاجتماعية ، وإعاقة الانتقال إلى رحاب الدولة. لقائل أن ينتقد هذا الهجوم على القبيلة باعتبار الدولة العادلة غير موجودة ، هذا صحيح ولكن الحل هو خلق هذه الدولة الغائبة ليستظل الجميع بها ، وفساد السلطة الحالية التي صادرت الدولة والنظام السياسي ينبغي تغييرها وهذا حق دستوري ، وهذه السلطة الذي ثبت فشلها لأنها سلطة قبلية بثوب سياسي ، فأعضاء مجلس النواب وهم احد مكونات هذه السلطة المتوشحة بالسياسة لم يسحبوا الثقة من الحكومة أو من أي وزير ثبت أداءه السيئ وانتشرت في وزارته روائح الفساد ، من منا لا يعرف تدهور التعليم وتفشي ظاهرة الغش، حتى نواب الفضيلة الداعين إلى حمايتها لم نسمع عنهم استنكار شيوع الرشوة والغش في الامتحانات لم يبذلوا جهدا في تسييج الأسرة بحماية أفرادها من الرذائل المستشرية وعلى رأس هذه الرذائل الجهل والأمية والغش في التعليم ، فنحن نمارس إسلاما شعبيا صنعناه لأنفسنا ، فنمارس الغش والكذب ونرتكب كل الموبقات بالتوازي مع ممارسة الشعائر الدينية.
الخاتمة: نحن لا نريد قبيلة سياسية ، القبيلة شأن اجتماعي محض ولا ينبغي أن تكون شأنا سياسيا، نريد دولة تحل محل القبيلة والروابط التقليدية. ماذا تمنح القبيلة الفرد المنتم إليها سوى الحماية ليفعل ما يشاء ليعيث في الأرض الفساد اختطافا وقتلا ونهبا وهمجية ، إن مبرر دعاة القبيلة يكمن في غياب الدولة ليجعل من القبيلة شرطا ضروريا لحماية الفرد.
ولكن لماذا لا نتجه لبناء الدولة الحامية لكل مواطنيها بدلا من القبيلة الحامية لأفرادها.
الدحبشة والقبيلة والسلطة هي نفي للدولة والمجتمع المدني وما يحدث في الجنوب وصعدة والفساد المالي والإداري والتردي العام في مجالات التنمية والكرامة الإنسانية هو تعبير صارخ عن سلطة وقبيلة تعزز خيار الدحبشة كمنهج سياسي على حساب دولة المؤسسات.

hodaifah@yahoo.com