|
جميل ان يعتذر رئيس الوزراء الفلسطيني سلام فياض عن قيام مجموعة من افراد الامن، التابعين لسلطته، بالاعتداء على مجموعة من ممثلي فصائل منظمة التحرير الفلسطينية، وشخصيات وطنية مستقلة، ومنعهم من المشاركة في ندوة تداعوا لعقدها للتعبير عن معارضتهم لمشاركة رئيس السلطة محمود عباس في المفاوضات المباشرة التي ستستأنف غداً في واشنطن، ولكن هذا الاعتذار غير مقبول، بل يجب ألا يقبل، لان هذه السلطة لا تحترم الشعب الفلسطيني فقط، بل تستهتر بأقرب حلفائها فيما تبقى من منظمة التحرير، وتمارس ابشع انواع البلطجة، لقمع الرأي الآخر، ومنعه من التعبير عن وجهة نظره اذا كانت تتعارض مع وجهة نظرها وقادتها.
المشكلة لا تنحصر في مجموعة من بلطجية رجال الامن، اقتحمت مقر الندوة ومزقت اللافتات والشعارات، واثارت حالة من الفوضى في القاعة، وانما في النهج الذي اتبعته السلطة في الاعوام الاخيرة، من حيث مصادرة الحريات، واحتكار التمثيل الفلسطيني، والحديث باسم الشعب، دون ان تملك الشرعية او التفويض او الاثنين معاً.
مجموعة رجال الامن هذه التي مارس اعضاؤها اعمال البلطجة هذه، تنتمي الى جهاز أمني جرى اختيار المنتسبين اليه بعناية فائقة، وتحت اشراف اربعة اجهزة استخبارات. اثنان منها عربيان (الاردن وفلسطين) واثنان اجنبيان (الشين بيت الاسرائيلي والسي اي ايه الامريكي) وهذا موثق في محاضرة ألقاها العراب الاكبر الجنرال كيث دايتون في معهد بواشنطن، وحتى يكون هذا الجهاز ابرز ادوات المخطط الحالي في خلق الانسان الفلسطيني الجديد الخالي من الوطنية والكرامة وعزة النفس.
هذه المجموعة، وفي هذا الاطار، تربت على قيم ومبادئ واخلاقيات لا نعرفها، بل لا نريد ان نعرفها، وليس لها اي علاقة بقيم واخلاقيات ومبادئ الشعب الفلسطيني التي استشهد من اجلها آلاف الشهداء الفلسطينيين والعرب والمسلمين.
من اقدموا على اعمال البلطجة هذه لم يقدموا عليها من جراء انفسهم، وانما بتعليمات من قيادتهم بشقيها الامني والســـياسي. وليــــس صـــدفة ان العشـــرات من هؤلاء البلطجية كانوا يحملون صور الرئيـــس عباس، ويهتـــفون بحمايته بالروح والدم وكأنه حرر فلسطين من البحر الى النهر. ترى ماذا سيهتفون له اذا فعل ذلك؟
' ' '
القمع كالكفر ملّة واحدة، والناس على دين ملوكهم، واجهزة الامن الفلسطينية التي تحتقر الديمقراطية وحرية التعبير، انما هي صورة طبق الاصل عن قيادتها، فكيف تكون ديمقراطية والرئيس عباس يذهب الى المفاوضات اليوم دون مرجعية وطنية او تفويض من مؤسسات الشعب الفلسطيني، بل حتى اللجنة المركزية لحركة 'فتح' التي يتزعمها ويحكم باسمها، ناهيك عن اللجنة التنفيذية للمنظمة التي افتقدت الى النصاب القانوني اثناء اجتماعها الاخير لهروب معظم اعضائها الى الخارج، او تهربهم من الحضور والتصويت بالتالي.
ومن المفارقة ان هؤلاء الذين تعرضوا للاعتداء جرى استدعاؤهم قبل ايام معدودة فقط للمشاركة في اجتماع للجنة التنفيذية نفسها، واصدار بيان، بطلب من الرئيس يرفض الذهاب الى المفاوضات المباشرة الا اذا تحقق تقدم في المفاوضات غير المباشرة على صعيد القضايا المحورية مثل وقف الاستيطان، والقبول بحدود الدولة الفلسطينية على اساس حدود عام 1967، وتحديد مرجعية واضحة للمفاوضات اي قرارات الشرعية الدولية، وعندما تراجع الرئيس عن هذه المواقف مكرها وبضغط امريكي وتنكر عربي وذهب الى واشنطن بناء على دعوة امريكية، وفق شروط نتنياهو، بات ممنوعاً على هؤلاء ان يوضحوا وجهة نظرهم، ويبرئوا ذمتهم امام شعبهم والتاريخ، من هذه المصيدة التي اعدت باحكام في واشنطن لتصفية القضية الفلسطينية او ما تبقى منها، وبمباركة عربية.
بنيامين نتنياهو رئيس وزراء اسرائيل تعمد ان يهين الرئيس عباس، والوفد المرافق له، عندما اعلن صراحة وامام الملأ، انه لن يمدد قرار تجميد الاستيطان الذي ينتهي في الثلث الاخير من الشهر المقبل، وكأنه يقول اتحداكم ان تنفذوا تهديدكم بالانسحاب من المفاوضات اذا لم يتم التمديد مثلما ترددون في تصريحاتكم التلفزيونية، لاعطاء انفسكم ورقة توت تبرر ذهابكم الى واشنطن بعد التراجع عن كل 'لاءاتكم'السابقة.
الدكتور سلام فياض اعلن بالامس الشق الثاني من خطته لاستكمال بناء البنى التحتية للدولة التي يعتزم اعلانها في شهر آب/اغسطس المقبل، واذا كانت هذه الدولة العتيدة عنوانها القمع، وتكميم الافواه، ومصادرة الرأي الآخر، فانها لا تتماشى مع طموحات الشعب الفلسطيني، ولا ترتقي الى الحد الادنى من تضحياته.
' ' '
تخص الدكتور فياض بالذات لانه المسؤول الاول عن بناء قوات الامن الفلسطينية باشراف الجنرال الامريكي دايتون، وهو المرشـــح الاكبر لتولي مسؤولية القيادة فيها مستقبلاً، فدور الرئيس عباس وانصاره في حركة 'فتح' هو مجرد دور 'المحلل'.
الدكتور سلام فياض القادم الى السلطة من البنك الدولي، يسير على خطى اصدقائه الامريكيين، اي انهم يريدون الديمقراطية، وسيادة القانون لشعوبهم فقط، ولكن عندما يتعلق الأمر بالمواطن الفلسطيني، فان الديمقراطية ومستلزماتها ترمى من النافذة، وتدخل الديكتاتورية وادواتها القمعية من الباب العريض. فالقيم الديمقراطية وما يتفرع عنها من حريات محرمة على الشعب الفلسطيني وكل شعوب المنطقة في الوقت نفسه.
وربما يجادل البعض بانه جرى تشكيل لجنة تحقيق بأمر من الرئيس عباس، وهذا صحيح، ولكن متى ادت مثل هذه اللجان عملها بمهنية وموضوعية، واذا كانت فعلت ذلك، هل جرى العمل بتوصياتها، من حيث معاقبة المسؤولين، وخاصة من كبار رجال السلطة، والقائمة طويلة لا يتسع المجال لذكرها.
في أحد الأيام مر حكيم الصين العظيم كونفوشيوس بامرأة تبكي بحرقة، وتلطم خديها، فسألها عن اسباب بكائها، فقالت له ان النمر اكل زوجها اليوم، وقبل شهر اكل ابنها البكر، وقبل شهرين التهم والدها.
فسألها كونفوشيوس: لماذا لا تغادرين هذه البلدة اذن؟.. اجابت.. وكيف تريدني ان اغادرها وفيها حاكم عادل؟
الدكتور فياض اطلق في مؤتمره الصحافي وثيقة سماها 'موعد مع الحرية'، قال انها تتضمن ارساء قيم النزاهة والشفافية والفصل بين السلطات، وتوفير الامن والامان وترسيخ سيادة القانون والحرية والعدالة والمساواة. انها اذن جمهورية افلاطون الفاضلة.
ردنا على الدكتور فياض بالتذكير بالمثل الفلسطيني الذي يقول 'الليلة السعيدة بتبان من العصر' ومثل مقدمات كهذه لا يمكن ان تؤدي الى العدالة وسيادة القانون اللتين يبشر بهما.
في الثلاثاء 31 أغسطس-آب 2010 03:19:14 ص