|
المقدمة : أشتهر بين الناس أن ليلة السابع والعشرين من رجب هي ليلة الإسراء والمعراج ولسنا بصدد مناقشة ذلك فالحادثة صحيحة وفيها معجزة وإكرام من الله لنبيه الكريم .. والاحتفال الحقيقي فيها يكون بدراستها والاستفادة من دروسها طوال العام وخاصة لرجال تصدروا للدعوة نشرا وتربية .. وفي حلقتين سنخوض في بحر حدثين من السيرة (رحلتي الطائف والإسراء والمعراج) لنستخرج معا اللؤلؤ الكامن في أصداف الوقائع والأحداث ...
النص 1: في شوال سنة 10من النبوة خرج النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إلى الطائف وهي تبعد عن مكة نحو60ميلًا ماشيًا على قدميه جيئة وذهابًا ومعه مولاه زيد بن حارثة , وكلما مر على قبيلة دعاهم إلى الإسلام فلم تجب إليه واحدة منها. الفوائد : ـ على الدعاة العاملين في ميدان الدعوة والكسب عدم حصر الجهد والعمل في مربع واحد وضياع الكثير من الوقت على منطقة شبه مغلقة ولكن وجب الخروج والبحث عن أماكن أخرى مع بقاء العمل مستمرا في منطقتهم حتى يأذن الله باستيعابها .. ولكن للأسف هناك من يصل إلى خط النهاية قبل أن يخطوا خطوة البداية , يضع لنفسه العراقيل والمعوقات ويقنع نفسه بالفشل فيتوقف منهزما نفسيا وعمليا قبل الإنطلاقه الأولى .. فليكن من خروجه ( صلى الله عليه وسلم ) إلى الطائف ماشيا وما تعرض له فيها درسا لنا في التحرك ذاتيا بالدعوة والسير بها لا انتظار أن تحملنا هي إلى غيرنا .
ـ على الدعاة أثناء السعي لتحقيق الهدف المكلفين به أن لا ينسوا تحصيل بعض الأهداف الجانبية .. فلو ذهبت في رحلة أو لإلقاء محاضرة أو غيرها من الأنشطة في مكان بعيد أو قريب فما يمنعك من إلقاء موعظة في مسجد بطريقك أو زيارة مريض أو شيخ أو مشاركة الشباب في ملعبهم بتلك المنطقة.. أما ترى في ذلك خيرا وفائدة وتأليفا لقلوب نافرة ..
النص 2: وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أهل الطائف عشرة أيام ، لا يدع أحدًا من أشرافهم إلا جاءه وكلمه فقالوا: اخرج من بلادنا وأغروا به سفهاءهم ، فلما أراد الخروج تبعه سفهاؤهم وعبيدهم يسبونه ويصيحون به ، حتى اجتمع عليه الناس، ورجموا عراقيبه حتى اختضب نعلاه بالدماء .
الفوائد : ـ علينا عدم الاستعجال واليأس من أول مواجهة أو رفض بل يجب الصبر وعدم التخلي عن الهدف ولنبذل الجهد كاملا وبكل الوسائل ولنطرق كل باب بقوة حتى وان كان موصدا بإحكام فلعل الله بمنه أن يفتحه لنا ـ وقف أخي الداعية لحظة مع كلمات معبرة : ماشيا .. ورجموه .. اختضب نعلاه بالدماء .. أما نشعر بالضالة ومدى التقصير الحاصل مننا اليوم فالرسول( صلى الله عليه وسلم ) يقوم بهذا الجهد ونحن الأتباع لدينا من الفتور الشيء الكثير .. ينتقل مئات الأميال على قدميه الشريفتين ولم ينتظر توفر الفرس أو الدابة أو غيرها من الوسائل ,ونحن برغم قصر المسافات وتوفر الوسيلة والمخصص اللازم للتنقلات فقد نتكاسل عن الذهاب من هنا إلى هناك ـ ويستقبلونه ( صلى الله عليه وسلم ) بالسفاهة والرجم حتى أختضب نعلاه .. وحينما نذهب إلى إحدى القرى كدعاة لا نجد من أهلها إلا الخير والترحيب حتى ممن نصنفهم في خانة الخصوم .. بل قد يستضيفوننا في بيوتهم وان اختضب شيء فينا فهي ملابسنا من عطرهم وطيبهم .. وان رجمونا بشيء فهي كلمات الترحيب والثناء منهم .. وان تبعونا بشيء فهو الرجاء بالعودة مرة أخرى إليهم , وحتى النقاش المخالف يكون لطيفا وهادئا ومغلفا بالعتاب وحينما نقرأ انه ( صلى الله عليه وسلم ) لم يدع أحدا من أشرافهم إلا جاءه وكلمه عندئذ ندرك مدى الخطاء الذي نقع فيه حينما نخصص الدعوة العامة بأناس أو بأماكن دون غيرها ..فلماذا نترك الأندية والديوانيات وشواطئ البحر والاستراحات . قلتُ : من اجل ذلك الجهد والتضحية والفهم كتب الله النصر والتمكين لنبيه .. ومازلنا ننتظر !!
النص 3 : ولم يزل به السفهاء كذلك حتى ألجئوه إلى حائط لعتبة وشيبة ابني ربيعة على ثلاثة أميال من الطائف، فلما التجأ إليه رجعوا عنه، فلما جلس واطمأن، دعا بالدعاء المشهور الذي يدل على امتلاء قلبه كآبة وحزنًا مما لقي من الشدة وأسفًا على أنه لم يؤمن به أحد قال: (اللهم إليك أشكو ضَعْف قُوَّتِى، وقلة حيلتى، وهوإني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين، وأنت ربي، إلى من تَكِلُنى؟ إلى بعيد يَتَجَهَّمُنِى؟ أم إلى عدو ملكته أمري؟ إن لم يكن بك عليّ غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي , ... ) الفوائد : ـ فداك روحي يا رسول الله .. هل تخيلت المنظر ؟ هل استوعبت المشهد ؟ هل تأثرت وطفرت من عينك دمعة ؟ دعها تنهمر فلعلها تغسل عنك كسلك الدعوي .. ثلاثة أميال والسفهاء يرجمون الرسول ويتبعونه بأسفه الكلام .. اختلط العرق بالدم .. والتعب بالأسى والقهر بالحزن .. فماذا قدمت أنا وأنت للدعوة من عرق ودماء ..بل من هم وشدة وعناء !!
ـ وفي لحظات الضيق والتعب والحسرة لأن الناس لم تستجب لك ولم تناصرك وتتبعك ولم تواجه الفساد والظلم معك فالجأ إلى الله .. اجعل لك أعمالا بنية التقرب بها إليه ليفتح لك أبوابا مغلقة وقلوبا متحجرة .. قيام ليل .. صيام نهار .. اعتكاف .. صدقة .. دعاء .. اعترف بعبوديتك وضعفك وحاجتك لله النص 4: ورجع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في طريق مكة بعد خروجه من الحائط كئيبًا محزونًا كسير القلب، فلما بلغ قرن المنازل بعث الله إليه جبريل ومعه ملك الجبال، يستأمره أن يطبق الأخشبين على أهل مكة والأخشبان: هما جبلا مكة فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : بل أرجو أن يخرج الله عز وجل من أصلابهم من يعبد الله عز وجل وحده لا يشرك به شيئا ) الفوائد : إن الله يؤيد بنصره عباده العاملين فكل ما تعانيه في دعوتك فالله يعلمه وينميه لك وما انكسار قلوبكم أيها الأحبة إلا من اجل حب الخير للناس .. والداعية المميز هو ذلك الذي يزيده أذى الناس تمسكا بهم وتقربا إليهم .. فهو يعد إعراضهم عنه تحديا لقدراته وعدم استجابتهم لدعوته تجديدا لطاقاته .. فينشط في الدعوة إليهم وفي الدعاء من اجلهم لعل الله أن يكرمه بأحدهم فيكون كحمزة أو كعمر في نصرة الدعوة وتحقيق المراد .
النص 5 : وخلال إقامته ( صلى الله عليه وسلم ) هناك بعث الله إليه نفرًا من الجن ذكرهم الله في موضعين من القرآن: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ }الأحقاف29:31 . وقوله تعالى: { قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا} الجن: 1: 15 الفوائد : للدعاة بشارات تدل على أن جهدهم وعملهم لم يذهب سدى حتى ولو لم يتحقق المراد الأكبر ولكنها تدل على توقع حصوله .. فان لم يسلم أهل الطائف فقد عاد النبي بإشارتي نجاح هما إسلام عداس النصراني والجن .. فلذا كم من دلائل تؤكد لنا أننا على طريق النجاح والفلاح وان كان المظهر العام يدل على الفشل وعدم تحقق المطلوب .. فكل بذرة خير تضعها ثق أنها ستؤتي أكلها بإذن الله .. فنحن نحرث وهو سبحانه الزارع العليم .
النص 6 : وبعدها صمم ( صلى الله عليه وسلم ) على العود إلى مكة، واستئناف خطته الأولى في عرض الإسلام وإبلاغ رسالة الله بنشاط جديد وبجد وحماس وحينئذ قال له زيد بن حارثة : كيف تدخل عليهم وقد أخرجوك ؟ فقال: (إن الله جاعل لما ترى فرجًا ومخرجًا، وإن الله ناصر دينه، ومظهر نبيه) فبعث إلى المطعم بن عدى فقال : نعم ثم تسلح ودعا بنيه وقومه فقال : البسوا السلاح فإني قد أجرت محمدًا فدخل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وطاف بالبيت وصلى ركعتين وانصرف إلى بيته ومطعم بن عدى وولده محدقون به بالسلاح حتى دخل بيته وقد حفظ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) للمطعم هذا الصنيع ..
الفوائد : ما أجمله من درس لكل داعية أصابه في طريق الدعوة أذى أو ابتلاء .. فبعد كل تعثر أو ترنح أو فشل أو حتى فتور يعود من جديد ( ولو من نقطة الصفر ) بكل همة ونشاط موقنا انه على الحق وان الله حتما سينصره ..
ـ ولكن هل تعي أخي الكريم أن كثيرا من الناس يرون فينا التعالي عليهم وتوطن في نفوسهم أننا ننظر لهم بأنهم خصوما لنا .. فمتى سنكسر هذا الحاجز ونختلط بهم ونعاشرهم .. متى نتنازل قليلا ونطلب من رجالهم المشهود لهم بالشهامة والنجدة والفطرة السليمة أن يساعدونا ويعينونا بل ويحموننا إن تطلب الأمر .. ولا يجب أن نقطع العلاقة بهم لمجرد انتهاء المصلحة ولكن فلنحفظ لهم معروفهم ونديم التواصل الدعوي والأخوي معهم الخلاصة : هذا طريق سار عليه خير البشر وإخوانه الأنبياء وسيسير عليه صنف من الدعاة الذين يتألمون لإقصاء كتاب الله من الحكم ولما فيه الناس من الفراغ وضعف التوجه وهشاشة الأهداف .. وطريقهم ليس مفروشا بالورد ولكنه مملوء بالحجارة المدببة والأشواك الجارحة .. وهم سائرون في طريق الدعوة الشاق يوقنون أن نهايته برحمة الله ورد ونعيم ..
في الخميس 08 يوليو-تموز 2010 06:00:45 م