ثورة سبتمبر وإعادة صياغة الهوية الوطنية
بقلم/ صحفي/عبدالله السالمي
نشر منذ: 12 سنة و 4 أسابيع و يومين
الإثنين 01 أكتوبر-تشرين الأول 2012 07:04 م

قياساً إلى تحوُّلات خمسة عقود مضت، هي عمر اليمن الجمهوري، لا جدال في أنّ راهن المشهد اليمني يتَّسِم بخصوصية هُويَّاتيّة متنامية، تتجسَّد في تزايد النزعة لدى عديد جماعات وتكوينات محلية إلى الصدور عن هوياتٍ فرعيةٍ؛ أقلّ ما يُمْكِن أن يُقال فيها إنها تُضعف من شأن المشترك الوطني ومُحدِّدات الانتماء إلى الإطار العام والكلّي، بذات القدر الذي تُعْلي فيه من شأن التمايز الجماعاتي الفئوي، والاقتصار على محددات الانتماء الخاص والضيّق.

وأمام هذا التدافع الهوياتي، الحاكم على اشتغال معظم القوى الرئيسية في هذه المرحلة الاستثنائية التي يمر بها اليمن، لا غنى عن – بل من المهم - الاستثمار نظرياً، لِمَا توفّره مناسبة بحجم اليوبيل الذهبي، لثورة 26 سبتمبر 1962م، من فرص إدراج الاشتغال المعرفي على الثورة اليمنية ككل، إن لم يكن في صدارة العناوين الاحتفائية بهذه المناسبة؛ فمن ضمنها على الأقل.

في هذا السياق، أو على مقربة منه، تأتي - إذن - هذه التناوُلة التي ستقتصر، في موضوعها، على مُقاربة واحدٍ من أهم العناوين التي اتخذتها ثورة سبتمبر 1962م منطلقاتٍ وأهدافاً لها. وهو ما يُمْكِن التعبير عنه بـ «العنوان المساواتي» الذي صَدَرَتْ عنه الثورة في مواجهة نقيضه الإمامي. أيْ العنوان الحاكم على اشتغال النظام الإمامي والمُلازِم له، وهو «التمايز الطبقي على أسُسٍ طائفية/ مذهبية، وقبلية/ سلالية..».

على أنّ المُقارنة بين «العنوان المساواتي» كمبدأٍ أصيلٍ وجوهري في مرجعية الثورة ومنطلقاتها الفكرية من جهة، وبين نقيضه المُتَجَسِّد في اشتغالات نظام الإمامة المتوكلية من جهة ثانية، من شأنها الوقوف على مُقترباتٍ يُمْكِن أن تضيء سُبُلَ فهْم – وكيفية التعاطي مع - واحدة من أهم وأخطر الظواهر (الدينية والاجتماعية والسياسية) ذات الحضور الواسع في راهن المشهد اليمني، وهي «الظاهرة الهوياتية» القائمة على توجيه الولاء والانتماء لعناوين مذهبية وقبلية ومناطقية يُرَاد لها أن تحلّ بديلاً عن الهوية الوطنية الكلية الجامعة.

أولاً: منطلقات التمايز ومسلكياته في عهد الإمامة

قبل الخوض في ما يُقرِّبنا من صورة التمايز المذهبي (الطائفي) والقبلي (السلالي) الذي ارتبط، كرؤية وسلوك، بنظام الإمامة - لاسيما في العقود التي سبقت قيام ثورة 26 سبتمبر 1962م – لا بدّ من الإلمام – في حدود ما يخدم أغراض هذه التناولة - بالتقابلات التاريخية المذهبية الفاعلة، يمنياً، في رسم خارطة هويات اجتماعية وسياسية اشتغلت عليها الأسر والبيوتات التي عُرفت بما أقامته من دولٍ حَمَلَتْ أسماءها.

لقد حقّقتْ العديد من الفرق والمذاهب الإسلامية في مراحل تَشَكُّلِها الأولى، أو بُعيد استقرار معالمها الأصولية والفقهية، امتداداً لها في البيئة اليمنية. فقد «كان السائد في اليمن حتى أواخر القرن الثالث للهجرة مذهب الحنفية والمالكية قبيل مجيء الإمام الهادي يحيى بن الحسين وتأسيسه الدولة الزيدية. وتزامن بعد ذلك، ومن القرن الرابع [الهجري]، اتساع انتشار الزيدية والشافعية في ظروف زمانية وسياسية ومكانية متباينة تبلورت في نهاية المطاف أن يصبح المذهبان الزيدي والشافعي هما المذهبان السائدان في عموم اليمن» ، أو بعبارة أدق: أن يصبحا مذهبي الأغلبية؛ فهناك إلى جانبهما حضورٌ يسيرٌ للإسماعيلية .

وهكذا يمكننا القول إن الحالة المذهبية قد استقرت، تاريخياً، على التقابل بين «الزيدية» و«الشافعية» كهويتين مذهبيتين اتخذتا، بمستويات متفاوتة، شكل الحاكمية السياسية والتدافع الاجتماعي. فـ «الناظر في أقاليم اليمن الغربية والجنوبية والوسطى وحضرموت يلاحظ أنّ دولاً سنيّة حكمت هذه المناطق في أكثر المراحل التاريخية المبكرة، وقد لعبت دوراً في نشر المذهب الشافعي، كالدولة الزيادية والدولة النجاحية، ثم الدولة الأيوبية والدولة الرسولية، كما فعلت دولة الأئمة مع المذهب الزيدي في شمال اليمن» .

إنّ هذا التأكيد على تشارُك المذهبين، الزيدي والشافعي، في المرور عبر ما أتيح لهما من حاكمية سلطوية سياسية – وإن بمستويات متفاوتة النصيب الأكبر فيها للأوّل – لهو على كثير من الأهمية، إنما ليس لذاته ولكن لما سيأتي بعده وبناءً عليه.

لنأخذ بعين الاعتبار أن المذهَبَيْن، في تموضعهما الديموغرافي، قد رسيا منذ وقتٍ مبكر على حدود ومعالم فاصلة وواضحة. كما أنّ الحاكمية السياسية في شكل الدولة/ الدول لم تكن تغادر - إلا في استثناءات قليلة كما كان من حال الدولة القاسمية والمتوكلية - جغرافية المذهب الزيدي بالنسبة لسلطة الأئمة الزيديين، وجغرافية المذهب الشافعي بالنسبة للملوك والحكام شافعيي المذهب كالزياديين والنجاحيين والرسوليين.. وفي ضوء ذلك يُمْكِن لنا فهْم ما يمكن التعبير عنه باختلال التوازن في مسار التدافع المذهبي (الزيدي - الشافعي) الذي ترتّب على خلوّ الجغرافيا الشافعية، في بعض المراحل التاريخية، من سلطة تتبنى المذهب، في وقتٍ لم تخلُ فيه اليمن من استمرارية للإمامة الزيدية - كسلطة تتبنى المذهب وتُصْدر عنه - ليس على جغرافية المذهب الزيدي فحسب، وإنما الشافعي أيضاً.

بعبارة أخرى: فإن اختلال التوازن في مسار التدافع المذهبي (الزيدي - الشافعي) يتأسّس على – وينعكس في - المراحل التي انفردت فيها «الزيدية» بحاكمية سياسية، في شكل دولة الإمام وسلطته التي طالت، بالإضافة إلى ديموغرافية المذهب الزيدي، ديموغرافية المذهب الشافعي.

على أنّ ذلك لا يعدو كونه أحد المستويات، أو الاتجاهات، التي تجلت فيها، أو عليها، السياسات التمييزية لنظام الإمامة. بما يعني أنّ الزيدية أنفسهم وقعوا– كما الشافعية - تحت طائلة التمييز ذاته. أو بصياغة أصح: أن اليمنيين جميعهم، بمختلف مذهبياتهم الدينية وخلفياتهم الاجتماعية، لم يكونوا في منأى عن ذلك المسلك الإمامي. وإذنْ لا بدّ من التوقف بشيء من التفصيل عند مسلكيات التمييز الطائفي والسلالي في اشتغالات نظام الإمامة، وَوُجْهَة هذا التمييز، وفوق ذلك الفكرة المؤسِّسة له.

أ - في الفكرة المؤسِّسة لنظام الإمامة:

اتكأ نظام الإمامة في اليمن – ليس في شكل المملكة المتوكلية في القرن العشرين فحسب وإنما منذ أواخر القرن الثالث الهجري/ التاسع الميلادي – على النظرية السياسية الهادوية القائمة على اشتراط الهادي يحيى بن الحسين بن القاسم الرسي «أن يكون الإمام من أبناء الحسن والحسين» "رض". وهي نظرية أفرزتها دوافع سياسية في حمى التجاذب التاريخي على أحقية الخلافة/ الإمامة بين مؤيدي «القرشية»، على إطلاقها، كشرط أساسي لاستحقاق الإمامة من جهة، وبين من صرفوها إلى بني هاشم كبطن في قريش، وخصّوا منه ذرية علي ابن أبي طالب "رض" من فاطمة الزهراء "رض" من جهة ثانية، وبين من قالوا بجوازها في عموم المسلمين من جهة ثالثة، إلى غير ذلك..

والنظرية السياسية الهادوية، إذا ما نظرنا إليها كتاريخٍ لا تتعدّى مفاعيله الجدلَ المعرفي، ليست بالأمر المُشْكِل في العصر الحديث، من الناحية العملية على الأقل، شأنها شأن غيرها من النظريات التاريخية والتراثية كـ «القرشية». أيْ أنّ وجود هكذا نظريات كنصوص في بطون كتب التراث – سواء لدى الزيدية/ الهادوية بالنسبة لـ «البطنين» أو عند أهل السنة بالنسبة لـ «القرشية» – لا يعِيْبُ بأثرٍ رجعي على المنتمين لهذه المذهبيات؛ طالما وهذه النظريات، وما في حكمها، قد أصبحتْ جزءاً من ماضٍ لا امتداد له في الحاضر بخصوص الاعتقاد بأن الرئاسة (بتعبيرنا) لا تصح إلا في موضعٍ/ نَسَبٍ مخصوص. أما إذا امتدت مفاعيلها إلى الحاضر فذلك أمرٌ مُشْكِل بكل تأكيد.

على أنّ نظام الإمامة، في شكل المملكة المتوكلية التي أتتْ عليها ثورة سبتمبر 1962م، لم يتخلق بعيداً عن النظرية السياسية الهادوية، وإنما في الصميم منها، كما هو معروف، وهنا جوهر المشكلة. فإذا كانت هذه النظرية قد وُوْجِهَتْ منذ وقت مبكر بمعارضة شديدة من قِبَل علماء ومصلحين ليسوا منفصلين تماماً عن المدرسة الزيدية كالحسن الهمداني ونشوان الحميري - لما هي عليه من تمييزٍ على أساس النَسَب/ «عنصرية» - فإنّه من الطبيعي أنْ يكون من غير المستساغ تقبُّلها في القرن العشرين، لاسيما من جهة النخب الفكرية والسياسية والاجتماعية، التي راهنتْ على أنّ الزمن لم يعد في صالح هذا النوع من الحاكمية الثيوقراطية السلالية.

نظرياً كان يكفي الإمام يحيى حميدالدين، لِيُتلقّى بالقبول في أوساط الكثير من المتدينين الزيدية غير الهاشميين، أنْ يؤسِّس ملكَه على ضوء النظرية الهادوية التي تجعل من اقتصار الإمامة على النسب العلوي الفاطمي أصلاً دينياً. فبسبب الركون إلى اشتغالات قرون طويلة، من تكريس دينيّة أنّه لا حقّ في الإمامة إلا لمن يمت إلى «البطنين» بصلة نَسَب، لم يكن القائم بالإمامة يُلقي بالاً لعنصريتها الفجّة التي تصادر حق غالبية اليمنيين في الحكم. بل لم يكن يعطي أهمية قصوى لاحتمال أنّ أحدهم سيتطلع إلى الإمامة، وينازعه في ملكه، من الأساس. وذلك بناءً على أنّ نظرية الحق الإلهي، تلك، قد تعمّقت في الوجدان اليمني (الزيدي تحديداً) كعقيدةٍ لم يكن حالهم معها إلا الرضا بما قسم الله لهم!!

هذا عن الذين لا يتوافر لهم شرط النَسَب. فماذا عن العكس؟ لقد كانت تلك النظرية، على امتداد قرون طويلة من تاريخ اليمن الإسلامي، مدعاة لمتوالية صراعٍ دموي على الإمامة بين المنتسبين إلى «البطنين» أنفسهم. فكثيراً ما ادّعاها لنفسه في وقت واحدٍ وفي المحيط الجغرافي عينه، أكثر من شخص، وهو ما يؤدي إلى خوضهم الحرب ضد بعضهم في دورات عنف وقودها أنصار كلّ مدَّعٍ للإمامة؛ إذ لم يكن يعدم كلٌّ منهم مَنْ يقاتل إلى جانبه. ومن هنا فلا غرابة أنّ يكون أولّ من يخرج على الإمام يحيى حميدالدين أحد الذين يشاركونه الاتكاء على شرط «البطنين» والصدور عنه، ولكنه رأى أنه أحق منه بالإمامة، وذلك هو الإمام الحسن بن يحيى القاسمي الذي تلقّب بالهادي، فقد «دعا لنفسه في قرية فللة من بلاد صعدة ولكنه فشل ولم تنجح حركته بعد حروب ومعارك دامية» .

ب - في العلاقة بين نظام الإمامة ومحيطه المذهبي والقبلي/ السلالي:

صحيحٌ أنّ الزيدية/ الهادوية، كمذهب، هي البيئة التي تخلّق فيها نظام الإمامة المتوكلية، امتداداً لسلسلة من نماذج مشابهة تنتظم كلها في مسار حاكمية الأئمة الضاربة بجذورها في أعماق تاريخ الجزء الشمالي من اليمن بالخصوص. غير أنّ مجرّد انتماء نظام الإمامة إلى الدائرة الزيدية/ الهادوية، مذهبياً واجتماعياً، لم يُشكّل بالتأكيد أيَّ عاصمٍ للغالبية العظمى من منتسبي هذه الدائرة. فقد كانوا، مع الأبعدين عنها، في المعاناة من نظام الإمامة سواء بسواء.

يُمْكِن، في هذا السياق، أن نستوضح المنطق التمييزي، الذي حَكَمَ علاقة نظام الإمامة المتوكلية بمحيطه المذهبي والقبلي/ السلالي، من خلال تصنيف هذا المحيط إلى فئات تتحدّد ملامحها الأساسية في ضوء نوعية الحساسية الغالبة على أفرادها تجاه الفكرة المؤسسة لنظام الإمامة وتجلياتها. وذلك على النحو التالي:

الفئة الأولى: يُتَعارف على تسميتهم بـ «العامة» أو «العوام». وهم غالبية القابعين على امتداد جغرافية المذهب الزيدي في الشمال. وحُسْبانهم عليه لا يعني بالضرورة أكثر من كونهم يتعاطون مع ما ألِفوه ووجدوا أنفسهم عليه، تبعاً لآبائهم بحكم العادة، شأنهم في ذلك شأن العامة من غيرهم. وهؤلاء، وإنْ كانت علاقة نظام الإمامة بهم قائمة أساساً على التمييز الطبقي، إلا أن حساسيتهم تجاه هذه العلاقة ضعيفة، بل تكاد تكون منعدمة، بالنظر إلى حقيقة أنهم لم يكونوا في المستوى الذي يُمَكّنُهم من مُغادرة الصورة النمطية التي تجعل منهم – في الوعي وفي اللاوعي - رعيةً لمن غلبَ.

الفئة الثانية: المشتغلون بالمعرفة الدينية مُعلّمين ومتعلّمين، وهم قِلّة. وبحكم مدار اشتغالهم على المعرفة التقليدية المتوارَثة كان من الطبيعي تسلميهم، أو تسليم غالبيتهم العظمى، بحصر الإمامة في «البطنين» من حيث المبدأ، ومن ثم التعاطي مع تجلياته العملية بالتسليم بها على ذات المنوال من اعتقاد دينية أصلها النظري. أيْ أنّ الاعتقاد بأفضلية سلالة معينة، وأنّ الله اختصّها بامتيازات ليست لبقية البشر، جَعَلَ من حساسيتهم تجاه التمييز السلالي منعدمة بالمطلق؛ إذ أنّ الأمر مبرَّرٌ دينياً لديهم.

الفئة الثالثة: قد يصح في تسميتهم استخدام مفردة الـ «نُخْبة». وأفراد هذه الفئة، على قِلّتِهم، لم يكونوا في خلفياتهم، كما في اتجاهاتهم، على مسار واحد. اللهم إلا أنهم يُصْدِرُون جميعاً عن حساسية تلتقي على مَقْت ما يتّكِئ عليه نظام الإمامة من المنطلقات العنصرية، وما يعتمل في واقعهم، تَبَعاً لهذه المنطلقات، من المسلكيات التمييزية ببعديها السلالي والطائفي. فكان من ضمن هذه الفئة فقهاء وقضاة وعلماء شريعة، إلى جانب أدباء وشعراء ومثقفين، إضافة إلى وجهاء وشخصيات اجتماعية.. الخ.

الفئة الرابعة: وقبل ذِكْرها لا بدّ من التأكيد على أنّها ليست قائمة بذاتها، إلا من حيث انتسابها قبلياً إلى أصل/ جَدّ واحد. أمّا ما عدا ذلك فإنّ المعايير التي قُسِّمَتْ، في ضوئها، الفئات السابقة تنطبق على الكثير من أفراد هذه الفئة. بمعنى أن كثيرين من أفرادها يتوزّعون على الفئات الثلاث سالفة الذكْر، وتسري عليهم توصيفاتها. وهذه هي فئة الهاشميين من حيث انتسابهم قبلياً إلى أصل واحد. (فالانتساب إلى أصل/ جَدّ واحد هو الركيزة التي يلتقي عليها أفراد كل قبيلة، وشأن الهاشميين بهذا الخصوص - أو العلويين الفاطميين - كشأن أيّة قبيلة يجمعها الاشتهار على الرجوع إلى أصل/ جَدّ واحد، كبكيل وحاشد ومذحج وحمير.. الخ).

والهاشميون كقبيلة، أو كفئة اجتماعية، يسري عليهم ما يسري على المجتمع من التنوُّع، فهم بين: أ- «عوام» أو «عامة» وقد شملتهم الفئة الأولى. ب- المشتغلون بالمعرفة الدينية، وقد استوعبتهم الثانية. ج- أفراد لا تخلو منهم الفئة الثالثة. بيد أنّ الملمح الذي نريد التركيز عليه تحت هذا البند هو أنّ الهاشمية كانت لبعض الهاشميين مدعاة لأن يتوجّس منهم النظام الإمامي، ومن ثم يطالهم منه الأذى أكثر من غيرهم. إذ أنّ الانتساب إلى «البطنين»، كشرطٍ للإمامة، يجعل من تَوَفُّرِه فيهم مَظَنّة أن يُنافِسوا الإمام القائم على الإمامة. الأمر الذي يجعله في حالة تربُّص دائم بمن يشك في أنّ لديه، من الأسر والبيوتات الهاشمية، تطلعات نحو الإمامة. ومن ثمّ فإن الأمر لا يخلو، بالنسبة للمُتَرَبَّص بهم هؤلاء، مِنْ تَكَوُّن حساسية من نوعٍ ما تجاه ما يمارسه النظام الإمامي من تمييز سلالي لم يَسْلَمُوا منه.

لعلّ تلك هي أبْرَز الفئات التي يُتَوَخَّى من عَرْضِها، بالتقسيم الذي سَلَف، تكوين صورة عن علاقة نظام الإمامة بمحيطه المذهبي والقبلي/ السلالي، وتفاعلات ذلك المحيط مع أوْجُه التمييز الواقع عليه. غير أنّ هناك ما تتوجب الإشارة إليه، قبل استكمال هذه الجزئية من التناولة، ويتلخّص في التأكيد على أنّ كلّ ما سَبَقَ في سياق «علاقة نظام الإمامة بمحيطه» لا ينفي، بأي حال من الأحوال، حقيقة أنّ نظام الإمامة أدار التمييز الطبقي، سلالياً وطائفياً، من خلال تقريْبِهِ لأفراد أسَرٍ من ذات المحيط السلالي والمذهبي، اشتركوا معه، بالتالي، في ممارسة التمييز الطبقي المُمَنهج، وعلى أوسع مستوى.

على أنّه ليس بغريبٍ على نظام يرتكز أساساً على حَصْرِ الإمامة في سلالة بعينها – كحتمية إلهية – أنْ يصطفي أفراد الدائرة، التي يجمعه وإياها المُعتقد التمييزي عينه، وأنْ يُقرِّبهم إليه؛ جاعلاً منهم طبقة مائزة كلياً عن بقيّة فئات المجتمع. فمسألة الإمامة – كنظرية وتطبيق – ظلت، على امتداد قرون طويلة من تاريخ اليمن، هي العنوان الذي يُقاس في ضوئه ولاءُ الفرد، وعليه يترتّب وضعُه في المجتمع. وقد عبّر الإمام عزالدين بن الحسن - قبل ما يقرب من ستة قرون - عن شيء من هذا المعنى بخصوص أمر الإمامة، وكيف بَلَغَ الحال «أنْ صار المُوَافِق فيها مُعَظماً مقبولا وإن كان من أخسِّ الناس، والمُخَالِف في عقيدتها مَلوْماً مذموماً وإن كان من أبْلغ الأكياس» . والأمر ذاته يسري على العهد الإمامي المتوكلي.

خلاصة هذا الجزء أنّ حظ الغالبية العظمى من أناس المُحيط المذهبي، أو جغرافية المذهب، الذي ينتمي إليه نظام الإمامة المتوكلية لم يكن بأحسن من حظ غيرهم في المُحيط المقابل. فالجميع سيّان في المعاناة من ذلك النظام وإسقاطاته التي كرّست التمييز على أكثر من اتجاه. ومثله يُقال عن المُحيط القبلي/ السلالي – وإنْ على تفاوت مع المحيط المذهبي – فليس من الموضوعية في شيء حُسْبَان جميع الهاشميين على الدائرة الخاصة بنظام الإمامة في الحقبة المتوكلية، ويكفي دليلاً على ذلك أنّ مختلف المراحل التي مرّت بها الثورة اليمنية، في الشمال، لم تخلُ من مشاركة من يُمَثّل مختلف فئات الشعب بما في ذلك الهاشميين.

جـ - في العلاقة بين نظام الإمامة والمحيط المغاير له مذهبياً:

إنّ التوصيف بـ «المُحيط المُغاير لنظام الإمامة مذهبياً»، وإن كان يتّسع لغير الشافعية، إلا أن إحالته إلى المذهب الشافعي أشْهَر وأظهَر؛ باعتباره صاحب الوجود السكاني والمساحة الجغرافية الأكبر في اليمن، ليس الآن فحسب، بل حتى في العصور التي امتدّت فيها على جغرافيته – أيْ جغرافية المذهب الشافعي - حاكمية المذهب الزيدي، وما قبْلها أيضاً. ومع ذلك فإنّ الاكتفاء بالشافعية (لتوضيح علاقة نظام الإمامة بالمغاير له مذهبياً) لا يعني أنه يُمْكِن تعميم، حال العلاقة مع الشافعية، على علاقة نظام الإمامة بمذهب آخر مغاير له كالإسماعيلية. كلا، فلعلاقة نظام الإمامة بهذا المذهب الأخير نسق خاص ليس هنا مجال الخوض فيه.

يتعيّن أوّلاً - لفهم علاقة نظام الإمامة بالشافعية - الفصْل بين الزيدية/ الهادوية كمذهب، والزيدية/ الهادوية كحاكمية سياسية مُتَحّقَّقَة في الواقع. فالعلاقة بين الزيدية/ الهادوية كمذهب، من جهة، وبين الشافعية، من جهة ثانية، هي علاقة أقلّ ما يُمْكن أن يُقال فيها، في العنوان العام، إنها طبيعية ومُتّزِنة. وإلى هذا المستوى ينصرف ما يتردد كثيراً عن تعايش تاريخي بين الزيدية والشافعية في اليمن.

الإشكالية، إذنْ، ليست في علاقة الشافعية والزيدية/ الهادوية كمذهبين، فهذا أمرٌ مفروغ منه، وإنما هي في علاقة الحاكمية السياسية المُتَجَسِّدة في نظام الإمامة (الزيدية/ الهادوية) بالشافعية. ولاستيضاح مسارات التمييز، في هذا المستوى من العلاقة، لعلّه من المفيد – على غرار ما فعلنا مع سابقه - تقسيم هذا المُحيط المغاير لنظام الإمامة مذهبياً (الشافعية) على فئاتٍ، يُقاس تلاقي أفرادها إلى نوعية الحساسية تجاه الفكرة التمييزية المؤسِّسَة لنظام الإمامة، والمسلكيات المُتَرَتّبة عليها.

الفئة الأولى: ما هو مُتعارف على تسميتهم بـ «العوام» أو «العامة». وبالنظر إلى كون حال هذه الفئة على امتداد جغرافية المذهب الشافعي لا يختلف عن حال نظرائهم في جغرافية المذهب الزيدي، من حيث كونهم يتعاطون مع ما ألِفُوه ووجدوا أنفسهم عليه بحكم العادة، فإنّ حساسيتهم تجاه المنطق التمييزي الحاكم على نظام الإمامة لا تختلف عن حساسية نظرائهم في المحيط السابق. فهم، في النهاية، رعية لمن غَلَب. لاسيما وأنّ نظام الإمامة لم يتعرّض لما توارثوه كمذهب، وإنما ظلّ تَعَبُّدهم بالمذهب الشافعي على ما هو عليه. الأمر الذي جَعَلَ من إحساسهم ببقية مسارات التمييز التي طالتهم – كما طالت نظراءهم في المحيط الآخر – ضعيفة أو منعدمة.

الفئة الثانية: فئة المشتغلين على المعرفة الدينية. وبملاحظة أنّ رأس مال هذه الفئة هو تَدَارُس العلوم الشرعية والانقطاع لها، وأنّ نظام الإمامة لم يُغَيِّرْ عليهم بهذا الخصوص شيئاً، ولم يَحْجُر عليهم تَدَارُس ما اعتادوا تَدَارُسه من المعارف والعلوم المتصلة بالتراث المعرفي الشافعي، أو يفرض عليهم تَدَارُس المعرفة التي تنتمي إلى المنهجيات الزيدية/ الهادوية، فقد كان من الطبيعي – نتيجة لذلك - أنْ يخفت، أو يتوارى، لدى هذه الفئة – أو لدى أكثريتها – التّحَسُّس من خلفية نظام الإمامة المُخْتَلِفة مذهبياً، ومن المنطلقات التمييزية القائم عليها، طالما ومسلكياتها لم تطل رأس مال هذه الفئة.

ويلحق بهذه الفئة – من ناحية المقدمات والنتائج في الوقت نفسه - مَنْ كانوا يَتصدّرون للقضاء والإفتاء، من حيث أنّ هذه الأمور، وما في حُكْمِها، هي في المُحيط الشافعي من اختصاص فقهاء المذهب وقضاته. أو أن الإفتاء فيها، والقضاء بخصوصها، يجري على أحكام المذهب الشافعي ووفق مرجعياته الفقهية والأصولية.

الفئة الثالثة: وهي نظيرة التي حلّتْ بذات الترتيب في تقسيمات المُحيط السابق. وكما جوَّزنا تسميتها هناك بالـ «نُخْبة» نجوِّزه هنا. ولفئة «النخبة» هذه – في المُحِيْطَيْن الشافعي والزيدي- وضعيّة خاصة لا تُشْبِهُها فيها – في المُحِيْطَيْن كليهما أيضاً - بقية الفئات. وذلك أنّ حساسية أفراد هذه الفئة تجاه نظام الإمامة، بما هو قائم عليه من تمييز طبقي على أسسٍ سلالية وطائفية، كانت تستحضر الهَمّ العام والمعاناة المجتمعية الشاملة من هذا النظام، وليست وليدة شعور شخصي مُتَرَتّب على وقوعهم أنفسهم تحت طائلة التمييز. وما أحسب أنّ هذا يحتاج إلى إقامة دليلٍ لإثبات صحّته، فالثابت من حال العديد من رموز الثورة على نظام الإمامة (على اختلاف مراحل الحراك الثوري وصولاً إلى سبتمبر 1962م) أنّهم لم يكونوا، على الصعيد الشخصي، مقصيين من قِبَل نظام الإمامة، وإنما كانت لدى الكثير منهم مكانتهم منه وفيه، بصرف النظر عن مستوى هذه المكانة. ومع ذلك فإنهم لم يركنوا إلى مكانتهم تلك، وإنما آثروا، في ضوء إحساسهم بما يعانيه المجتمع، تَحَمُّل أعباء الهمّ العام وتبعاته.

وبالعودة إلى السياق الخاص بفئات المُحيط المُغاير لنظام الإمامة مذهبياً فإنّ ما يجمع أفراد «النخبة» هنا هو ذات ما جمع نظراءهم هناك، وهو صُدُورُهم جميعاً عن حساسية تلتقي على مقت المنطلقات العنصرية التي يتكئ عليها نظام الإمامة، بما لها من اعتمالات تُكرِّس التمييز السلالي والطائفي، وتُعَمِّق الامتيازات والفوارق الطبقية. كما أنّ مصادر تنوُّعِها متشابهة، فهنا ضمّت هذه الفئة – كما هناك - فقهاء وقضاة وعلماء شريعة، إلى جانب أدباء وشعراء ومثقفين، وكذلك وجهاء وشخصيات اجتماعية، بالإضافة إلى مشتغلين بالتجارة.. الخ.

واضحٌ، إذنْ، أنّ مسارات اشتغال نظام الإمامة المتوكلية على التمييز السلالي والطائفي طالت الغالبية العظمى من المجتمع اليمني (في الشمال)، دونما تفريق – في التعاطي مع القاعدة الشعبية - بين المحيط المذهبي الذي ينتمي إليه نظام الإمامة والمحيط المذهبي المُغاير له. وهذا يُفسِّر تَشَارُك النخبة من كلا المحيطين (الشافعي والزيدي) في العمل سوياً على الإطاحة بهذا النظام.

على أنّه لا غنى، لاقتراب هذه الجزئية من غايتها، عن التعريج على بعض ما استلزمه انتماء نظام الإمامة إلى جغرافية الزيدية/ الهادوية، بشقيها المذهبي والقبلي/ السلالي، من انعكاسات على علاقة الشافعية والزيدية ببعضهما، في ضوء تفرُّد الأخيرة بالحاكمية السياسية، وخلوّ الأولى منها.

ليس هناك ما يُوجِب الإفاضة في مناقشة مدى طبيعية علاقة الشافعية والزيدية ببعضهما، كمذهبين، في الحقبة المتوكلية ذاتها، ذلك أنّ المشهور عن تلك المرحلة لا يتخلّف عن تأكيد شيء كهذا. فإذا أخذنا هذه المُسَلّمة بعين الاعتبار أمْكَنَ لنا أن نقرأ استحضار بعض الأوساط الشافعية لمفردة الزيدية (في معرض تعبيرهم عن حالة الضدية التي يقفونها مع نظام الإمامة في ذلك العهد) على أنها لا تعني الزيدية كمذهب، وإنما الزيدية في حاكميتها السياسية المُتَحقّقة على شكل نظام الإمامة.

لقد كان في مُجَرّد قيام نظام الإمامة على النظرية السياسية الهادوية، وانبثاقه من أوساط البيئة الزيدية كمذهب، والهاشمية كنَسَب، ما يحيل تلقائياً إلى الربط بين هذا النظام وهويته المذهبية (الزيدية) والقبلية/ السلالية (الهاشمية). بصرف النظر عن كون دائرة الذين امتازهم النظام، من محيطه المذهبي والقبلي هذا، لا تتسع إلا لقلة من المنتفعين الذين استأثروا بكل شيء، فيما ذهَبَتْ الغالبية الساحقة، من منتسبي الجغرافية الزيدية، بذات ما ذهب به منتسبو جغرافية الشافعية من المعاناة.

ثانياً: الثورة والتأسيس للقطيعة مع ماضي التمييز

يأتي اشتغال نظام الإمامة المتوكلية على التمييز الطائفي والسلالي، وتكريس الفوارق الطبقية، على رأس المنطلقات التي جَعَلَتْ من الثورة عليه ضرورة وطنية قصوى. وفي الوقت نفسه فإنّ إلغاء التمييز الطائفي والسلالي يأتي على رأس الأهداف التي سعى الثوارُ، في مختلف مراحل الحركة الثورية، إلى بلوغها وتحقيقها، حتى تكلل، بإشراقة 26 سبتمبر 1962م، مسار عقودٍ من الفاعلية النضالية والحراك الثوري.

وبالنظر إلى ما كان قائماً قبل ثورة سبتمبر 1962م، من استحكام التمييز السلالي والطائفي على نظام الإمامة المتوكلية (من الفكرة المؤسِّسَة إلى تجلياتها في اشتغال الطبقة المهيمنة) يتبيّن عِظَم المهمة التاريخية التي أنجزتها الثورة من خلال إطاحتها بهذا النظام. وهنا يَحْسُن التوقف عند ما يُمْكِن تسميتها بالعناوين العريضة التي أصّلت الثورة، في ضوئها، لعهدٍ جديد، يَتَبَنّى القطيعة مع ماضي التميز السلالي والطائفي. أو بالأصح: التوقف عند اثنين من أهمّ عناوينها.

لعلّ أوّل ما يَحْسُن التوقف عنده، من هذه العناوين، هو أن الثورة لم تطح فقط بحاكمية أسرة آل حميدالدين، ذلك أنها – أيْ الثورة – وإنْ اتّجهت مفاعيلها الثورية المُبَاشِرة إلى نظام الإمامة، القائم حينها في شكل المملكة المتوكلية، فأتتْ على بنيته المحسوسة، وأنْهَتْ كينونته الظاهرة، إلا أنها في العمق من فاعليتها قد أطاحت أيضاً، وهو الأهم، بالفكرة المؤسِّسة لنظام الإمامة، والنظرية التي يتّكئ وجودُه عليها. بمعنى أنها قصَدَتْ، في العمق، وَضْعَ حدّ لحياة النظرية الماضوية التي تجعل من الرئاسة حقاً خاصّاً بأفراد سلالة معينة كحتمية دينية.

على أنّ الإطاحة بالفكرة المؤسِّسة للإمامة، كحقّ حصري لسلالة بعينها، تُعَدُّ إطاحة بما هو بمثابة العمود في بُنْيَة الحاكمية السلالية والطائفية. فمِنْ هذه الفكرة/ النظرية (قَصْر الإمامة على نَسَبٍ مخصوص) تتفرّع مختلف مسارات التمييز السلالي والطائفي ذي الصبغة الدينية، وإليها تعود.

أما العنوان الثاني فيتلخّص في زحزحة الدولة - أو بُنْيَة الحُكْم بتعبير أدَقّ - عن مُرَبّع الهوية الطائفية من جهة، وتهْيِئة مُقدّمَات بُلوغِها دائرة الهوية الوطنية من جهة أخرى.

صحيحٌ أنّ نظام الإمامة – إذا ما تجاوزنا التوصيفات الانطباعية - ليس أكثر من كيان عصبوي حتى محيطه المذهبي والقبلي نال منه نصيباً وافراً من التمييز، أما المغاير فمن باب أولى. إنما، مع أخْذ ما تقدّم بعين الاعتبار، لا يُمْكِن إغفال أنّ نظام الإمامة قد وُلِد من رحم النظرية السياسية الهادوية، واتّخذ، بالتالي، شكل الحاكمية السياسية للمذهب الزيدي/ الهادوي، أو باسم المذهب الزيدي/ الهادوي. إذ لو لم يكن إلا هذا القدر من التقاطع بين نظام الإمامة المتوكلية كحاكمية سياسية، والزيدية/ الهادوية كهوية مذهبية، فإنه يكفي لِيُشار إلى نظام الإمامة بهذه الهوية المذهبية، ولا يُعْرَف إلا بها.

وما قيل في الهوية المذهبية ينسحب على الهوية القبلية/ السلالية، فلو لم يكن إلا اتّكاء نظام الإمامة على فكرة أنّ هذا المنصب حقّ خاص بذرية الحسن والحسين "رض" فإنّ ذلك يكفي لربط النظام بالهاشمية كهوية قبلية/ سلالية. إنما مع تكرار التأكيد على أنّ انتماء نظام الإمامة إلى هذين المستويَيْن من الهوية لا يُجيز – بأيّ حال من الأحوال – تحميل غالبية الزيدية (كهوية مذهبية) وغالبية منتسبي الهاشمية (كهوية قبلية) أوزار ذلك النظام.

إذن فقد عُرف نظام الإمامة بهوية المذهب/ الطائفة، وعصبية القبيلة/ السلالة. بينما كانت مسيرة الرواد النضالية قد أنتجت وعياً وطنياً لم يعد يستسيغ أنّ يُطِل النظام، أيّ نظام، من خلال هكذا عناوين طائفية وسلالية، حتى ولو كان في حالة وفاق تامّ مع العناوين والمسميات الطائفية/ المذهبية والقبلية/ السلالية الأخرى. ومن هنا فإنّ الثورة بقدر ما تحقق لها، في ضوء الإطاحة بنظام الإمامة، من إبعاد هوية الدولة (أو بنية النظام وتشكيلاته) عن هيمنة العناوين الطائفية والسلالية، فقد تحقق لها، في الوقت نفسه، تهيئة ما يصح النظر إليها كمقدمات يُمكن لهوية الدولة (أو بنية الحاكمية السياسية في العهد الجديد) أنْ تُحقق بها اقتراباً حقيقياً من أساسيات معالم الهوية الوطنية.

ولتلمُّس اشتغالات الثورة على العنوان «المساواتي» وإلغاء التمايز الطائفي والسلالي، وانفتاح هوية العهد الجديد (الجمهوري) على المُتّحد الوطني، يتعيّن قياس حضور هذه العناوين في تجليات المسلك الثوري، بالإضافة إلى فاعليتها في اتجاهات التأسيس لحاكمية سياسية مغايرة لعهد الإمامة المتوكلية. هذا من جهة ومن جهة أخرى يتعيّن عدم إغفال جُمْلة مواقف، بقدر ما رافقت ثورة سبتمبر 1962م، وبَدَتْ على خلافٍ تام مع منطلقاتها وأهدافها الرامية إلى طيّ صفحة التمايز الطائفي والسلالي، فإنّ الخلفية التي صَدَرَتْ في ضوئها مثل هذه المواقف لم تدخل في حالة موات كامل، وإنما استمرّت في التذكير بنفسها في مختلف مراحل العهد الجمهوري. وذلك ما سيتم التوقف عنده بشيء من التفصيل في المحورين التاليين:

أ - في اشتغال الثورة على العنوان «المساواتي»:

نستخدم – هنا - العنوان «المساواتي» للدلالة على ما يُعاكس التمايز الطائفي والقبلي/ السلالي. فإذا كان معلوماً أنّ ما وَرَدَ ويَرِدُ من استدعاء لهذه المفردة، في هذه التناولة، ينصرف (في ضوء ما كان من اعتمالاته، وليس كدلالة وحيدة للمفردة) إلى إلغاء التمايز الطائفي والسلالي بالصورة التي تبدّى بها في شكل الحاكمية السياسية لنظام الإمامة المتوكلية، يتّضح تلقائياً أنّ مدار اشتغال الثورة على العنوان «المساواتي» يترَكّز في – أو ينطلق مِنْ – إنهاء مسألة أنّ سلالة بعينها هي وحدها – وبمرجعية دينية - مَنْ لها الحق في الحكم.

من المؤكد أنّ النظرية السياسية الهادوية قد بَنَتْ ذهابها إلى القول بحَصْر الإمامة في ذرية الحسن والحسين "رض" على تدْيين اعتقاد أن لمنتسبي هذه السلالة – لمجرد النَسَب – أهلية تكوينية فطرية خاصة لا توجد عند غيرهم. أيْ اعتقاد أنّ أفراد هذه السلالة في درجة أعلى وأرفع من بقية البشر. فالمُشكل الذي تؤصِّل له هذه النظرية لا يتمثل فقط في أنّ الإمامة/ الرئاسة موقعٌ لا يصح أنْ يشغله إلا أحد المتّصلين بنَسَبٍ إلى «البطنين». فهذا ليس إلا أحَد أوْجُه الإشكال، أو أبْرزها ظهوراً. فلو كانت تلك النظرية تَجْعَل من بقية منتسبي هذه السلالة – بعد أن يعتلي أحدُهم منصب الإمامة/ الرئاسة – في حالة من التساوي مع غيرهم؛ لخفّفتْ قليلاً من النزعة العنصرية الحاكمة عليها. بيد أنّ ذلك التّخفّف ممّا لا يُمْكِن انتظاره منها، لأنها – باختصار – قائمة على اعتقاد أن هذا النَسَب يسمو بالمنتسبين إليه فوق الذين لا ينتسبون إليه، وهو – حسْبها – سموّ خَلْقي تكويني يَمْنَحُ المنتسبين إليه امتيازاً لا يتعلق فقط بأن الإمامة/ الرئاسة لا تصح إلا فيهم، فذلك ليس إلا أحَد مظاهره أو استحقاقاته، أمّا الامتياز فهو حالة دائمة يُعْطِي بها النَسَبُ لحامِلِيه مرتبة لا يمكن أن يضاهيهم فيها إلا من يُشاركهم الانتساب لذات الأصل/ الجدّ.

وهكذا فإن الثورة، من خلال إطاحتها بنظام الإمامة المتوكلية، لم تستهدف فقط التمييز السلالي في صورته التي تَجْعَل الإمامة/ الرئاسة حكراً على سلالة معينة، وإنما استهدفت التمييز السلالي في بنيته الكلية الشاملة. بمعنى إلغاء – أو الخلاص من – الأسطورة العنصرية التي تزعم (وتُكَرِّس واقعاً سلوكياً) أن أفراد هذه السلالة، أو تلك، في مرتبة أعلى من بقية أفراد المجتمع. فالعنوان «المساواتي»، بهذا المعنى، مبدأ أصيل في فكر الثورة ومنطلقاتها النظرية، ولأنه كذلك فقد ظهر بوضوح في مساراتها العملية، من اعتمالاتها كثورة إلى مسلكياتها كدولة، أو في الطريق إلى الدولة.

ألغتْ الثورة، إذنْ، محورية النَسَب في استحقاق المواطَنة المتساوية. أو بتعبيرٍ يتناسب – أكثر من سابِقِه - مع مفاهيم، أو مفردات، تلك المرحلة: فإنّ الثورة ألغتْ أن يكون النَسَب هو مدار استحقاق ما يُريد أن يكون عليه المرء في المجتمع الجديد. فلم يعد المعيار هو الانتماء إلى هذه السلالة أو تلك، أو التحدُّر من هذا النَّسَب أو ذاك، وإنّما تتحدّد أهليّة أي إنسان في ضوء ما يكتسبه ويتحصّل عليه ممّا يقع ضمن دائرة الكسب، أمّا ما جُبِلَ عليه، ولم يكن له دَخْل في إيجاده، كالتحدُّر من سُلالة معينة، فلا يتوقف عليه شيء.

إنّ في ما سبق، من توصيفٍ لجوهر اشتغال الثورة على العنوان «المساواتي»، ما يكفي لتأكيد أنّ «الإتيان على التمييز السلالي والطائفي» لهو بمكان الصَّدْر من أهداف الثورة، وفي العمق من مرجعيتها الفكرية، وعلى تجلٍّ واضح في مسيرتها العملية.

على أنّ السياق يقتضي التطرّق، بما يتناسب مع المقام، إلى مسلكين متضادين، يُعَدّ أحدهما خاصية أو سِمة امتازت بها الثورة، أو هو بالأصح إحدى أهمّ المقدمات التي اتكأت عليها الثورة، أو توقف عليها نجاحها، كما أنه في الوقت نفسه على رأس أهم نتائج الثورة أو أطيَب ثمارها. بينما الثاني لا يعدو كونه لَحْناً نشازاً، لا يمت إلى حقيقة الثورة وفكرها ومنطلقاتها وأهدافها بأيّة صلة، وأقلّ ما يُمْكِن أن يُقال فيه إنه ونظام الإمامة المتوكلية، القائم على التمييز السلالي والطائفي، يعودان إلى مشكاة واحدة.

المسلك الأول: ويتلخّص في أنّ مشاعر السخط على نظام الإمامة، والاستياء منه، ومَقْت ما هو قائم عليه مِن التمييز السلالي والطائفي، لم تكن حكراً على فئة دون فئة، بقدر ما تشارَكتْ فيها كل فئات المجتمع اليمني. وجاء تنوّع وتعدد مشارب وخلفيات النخبة الفاعلة في الإطاحة بنظام الإمامة، أصْدَق تمثيل على أنّ جميع فئات ومكونات المجتمع ساهمت في الثورة عليه والإطاحة به، بذات المستوى مِنْ تَشارُكِها في المعاناة منه.

ويكفي أنّ الناظر في توليفة الرموز الفاعلة في الثورة – خلال أكثر من منعطف مرّت به قبل ثورة سبتمبر 1962م، ووصولاً إليها – يلمس، بسهولة، تمثيلها الواسع لمختلف فئات ومكونات المجتمع اليمني، إذ ضمّت في صفوفها الزيدي مع الشافعي، والهاشمي مع غير الهاشمي، وأبناء المناطق الشمالية مع أبناء المناطق الوسطى والجنوبية، في تشكيلة لا يُمْكِن لها أن تجتمع إلا على خيارٍ وطني جامع، بقدر ما يرفض الصدور عن الانتماءات الطائفية والسلالية والمناطقية، فإنه يتطلع إلى إحلال المشترك الوطني والمتّحد الاجتماعي بديلاً عن كلّ دوائر ومستويات الهوية التي تعجز عن تمثيل كلّ اليمن واليمنيين، سواء كانت هوية مذهبية/ طائفية، أو قبلية/ سلالية، أو مناطقية/ جهوية..

إنّ اشتمال جبهة الثورة ضدّ نظام الإمامة على توليفة ضمّت، في صفوفها القيادية، نخباً فكرية وسياسية وثقافية وعسكرية واجتماعية ذوي خلفيات متعددة ومتنوعة، هو ما جَعَلها، بكلّ جدارة، جبهة وطنية، يتطابق سلوكها مع ما تُعلنه من أنه لا مُشكلة لديها إلا مع حاكمية نظام الإمامة المتوكلية القائمة على التمييز السلالي والطائفي، وتكريس الفوارق الطبقية في المجتمع. أمّا ما عدا ذلك فإنّ جبهة الثورة، بما هي عليه من وطنية، بَدَتْ أبْعَد من أنْ تستهدف مذهباً أو قبيلة أو سلالة أو منطقة.. إذ كيف يصح أنّ مِثل هذا هدفٌ لها، وفيها – أيْ جبهة الثورة – مِنْ مختلف المسميات المذهبية والقبلية، ومن مختلف المناطق والجهات، شخصياتٌ لها الرياة والسبق في المسار النضالي والثوري، كما في جمهورها وقواعدها من مختلف المسميات المذهبية والقبلية، ومن مختلف المناطق والجهات أيضاً؟!

المسلك الثاني: ويُفهم في ضوء المسلك الأول، لأنه يأتي على النقيض منه. وهذا المسلك وإنّ كان لا قيمة له في فكر الثورة، ولا حضور ولا ثِقل في قوامها، خاصة إذا ما قِيْس إلى المسلك الأول الذي هو بحق أصدق تعبيراً عن الثورة وارتباطاً بها، إلا أنه – أيْ المسلك الثاني – لم يكن غائباً عن المشهد بالكلية، فهو وإن لم يكن على صلة شرعية بالثورة إلا أنه حاول ركوب موجتها، والظهور من خلالها، كما لو كان صوتاً أصيلاً فيها، وربيباً شرعياً لها.

ذلك المسلك هو ما يُكتفَى للإشارة إليه بالاستدلال بما خاض فيه، وبوضوح، الدكتور عبدالرحمن البيضاني عَبْر أكثر من وسيلة إعلامية في العاصمة المصرية، « وخاصة من خلال أحاديث كان يُذيعها [عَبْر إذاعة صوت العرب من القاهرة] من برنامج ‹صوت العرب› المُوجّه إلى اليمن، حَمَلَتْ وجهة نظره المعادية ‹لفئة الهاشميين› باعتبارهم من المنظومة الإمامية، ومن منظور طائفي وعدائي مطلق، رغم أنّ طبيعة الصراع كانت تدور بين قوى المعارضة الوطنية والنظام الإمامي، بدليل أنّ عدداً من الضباط، من الهاشميين، كانوا قد انضموا إلى تنظيم الضباط الأحرار» .

وبالرغم من أن هذا المسلك موقف فردي شخصي، لا يُعبّر عن الثورة، ولا يتبناه أحدٌ من الفاعلين الحقيقيين فيها، كما سبقت الإشارة. وبالرغم من أنّه – أيضاً - لم يكن يختلف، في منطقه التمييزي، عن نظام الإمامة المتوكلية الذي يزعم الثورة عليه، كما سلفت الإشارة كذلك، إلا أنه ترتّب على هذا المسلك أنْ توجّست بعض الأوساط الهاشمية والزيدية – سواء الفاعلة في الثورة، أو التوّاقة إليها - خيفة من أن يكون هذا الخطاب الطائفي التحريضي على صلة حقيقية بالثورة ومنطلقاتها ودوافعها وأهدافها.

إن هذا المسلك لم يخلُ من التأثير سلباً على الثورة. وهذا شيء متوقع بالنظر إلى كونه يستهدف جانباً فاعلاً فيها، وواحداً من أهم مكوناتها. ويمكننا أنْ نتعرّف على شيء من انعكاساته السلبية في الأوساط الزيدية – والهاشمية منها على وجه الخصوص – من خلال ما لاحظه المقدم عبدالله جزيلان «من علامات الحزن والألم» على وجوه ثلاثة من الضباط الهاشميين جاءوا إلى منزله يستفسرونه بشأن ما يخوض فيه البيضاني. وهذا جزيلان، نفسه، يُعلق على أحاديث البيضاني - التي «هاجم [فيها] الهاشميين هجوماً عنيفاً بلا مبرر» - بقوله: إنه – أيْ البيضاني - «غير مدرك أنّ ما يقرب من ثمانين في المائة من الضباط هم هاشميون يتوقدون لقيام الثورة» .

ب - في اشتغال الثورة على تهيئة مقدمات الهوية الوطنية الجامعة:

لعلّ أهمّ ما يَحْسُن التأكيد عليه ابتداءً – لاستيضاح الفكرة الرئيسية التي يتكئ عليها اشتغال الثورة على تهيئة مقدمات الهوية الوطنية الجامعة - هو أنّ إحالة الثورة إلى عهد جديد، اختارتْ له بوعي سياسي أن يكون جمهورياً في بنيته السياسية، لم تكن بالسيرورة التلقائية، التي تخلو من قصْديّة الفعل بدوافعه واتجاهاته وأهدافه.

ليس في هذا الكلام، من قريبٍ أو بعيد، تلميحاً إلى أنّ هناك مَنْ قد يَفْهَم، أو يَزْعُم، أنّ مجي النظام، الذي تخلّق بعد الثورة، جمهورياً كان فعلاً اعتباطياً لم تقصده الثورة، وإنما حَدَثَ أن جاء هكذا، لاعتبارات خارج وعي الفعل الثوري، الذي لم يَهْدِف إلا إلى الإطاحة بنظام الإمامة المتوكلية، أما ما سيأتي بعده فلم يكن من المفكَّر فيه.. كلا، فمثل هذا لا يُمْكِن أن يذهب إليه أحد؛ لسبب بسيط وهو أنّه في حُكْم الثابت تاريخياً أنّ إقامة النظام الجمهوري يأتي على رأس ما جعلها الثوار أهدافاً لهم حينما كانوا يُعِدّون العدّة للثورة. إذنْ فما الذي أرمي إليه من وراء ذلك؟

قبل أيّ شيء لا بد من التأكيد على أنّ المعنى الذي يُساق لأجله مصطلح «النظام الجمهوري»، في سياق هذه التناولة، لا يصطحب بالضرورة كلّ ما هو من حمولته الفلسفية والسياسية والتاريخية، بقدر ما يحيل، بدرجة رئيسية، إلى دلالة التقابل مع الأنظمة ذات الطابع الوراثي. ومن هنا فإن هذا التحديد للمعنى، الذي يُناط بهذا المصطلح إيصاله هنا، يُكَرِّس - بدلالة التقابل تلك - استخدام مصطلح «النظام الجمهوري» بما يتناسب مع السياق الذي أطاحت فيه الثورة بنظام الإمامة. وهو السياق الذي يُكَرِّس انصراف دلالته – أيْ «النظام الجمهوري» - إلى الاتجاه المعاكس لنظام الإمامة المتوكلية.

وبالعودة إلى السؤال، فقد سبق لنا، في غير مكان من هذه التناوُلة، توضيح كيف أنّ نظام الإمامة المتوكلية وُلِد من رَحِم نظرية سياسية مذهبية ماضوية. وتجنّباً للوقوع في المزيد من التكرار فإنه يكفي القول هنا - بناءً على ما سَلَفَ بيانه – إنّه، وبسبب اتّكاء نظام الإمامة على نظرية دينية/ مذهبية، كان من الطبيعي أن تتشكّل بنية هذا النظام وكيانه السياسي على ذات الصورة النمطية الجاهزة لشكل الحاكمية السياسية، كما ترسمها هذه النظرية الدينية/ المذهبية. وليس هذا فحسب، وإنما هوية النظام التي يُنْسَب إليها ويُعْرَف بها كذلك؛ فإنه من الطبيعي أنْ تتَحَدَّد هوية نظام الإمامة في ضوء ما تَعُوْدُ إليه المرجعية التي أسّس وجودَه عليها. وطالما ومرجعية هذا النظام هي النظرية السياسية المذهبية المُشار إليها؛ فإنّ هويته مذهبية/ طائفية أيضاً.

هذه معادلة لا يحتاجُ إدراكُها إلى كبير عناء، فمن البديهي أن يُحيل عنوان الكتاب إلى موضوعه. والمسألة لا تتعلق فقط بالمذهب الزيدي/ الهادوي، وإنما تشمل ما هو ينطوي، مِن المذهبيات والأيديولوجيات الدينية، على تأصيل لحاكمية سياسية مذهبية/ طائفية خاصة. ولا أحسب أنّ بينها من يخلو من هذا التأصيل، لكن بين أن يكون تأصيلاً له حاكميته السياسية المُتَحَقّقة على الأرض، أو أن يظل تأصيلاً نظرياً مُجَرّداً من صورة تتجَسَّد عليها حقيقته في الواقع. وهكذا فلأنّ السياق عن الإمامة المتوكلية، التي للمذهب الهادوي بها صلة، اتّجَهَتْ إليه الإشارة اضطراراً؛ باعتباره المثال المتوفر على أنّ النظام السياسي، الذي يُولد من رحم نظرية دينية مذهبية، يُعرف بهوية المذهب ويُنْسَب تلقائياً إليه.

نَصِل، في ضوء ما انتهتْ إليه الجملة الأخيرة من الفقرة السابقة، إلى أنّ اتّجاه الثورة إلى إحلال النظام الجمهوري، خَلَفاً لعهد الإمامة، جاء مُنسجماً بالكلية مع وعي الثوار بأنّ المدخل إلى انتظام الوجود الديموغرافي لليمن في دولة تملك السيادة الكاملة، على امتداد خارطتها الجيوسياسية، يتَحَدّد في إعادة صياغة هوية الدولة/ المجتمع، وفق مُحدِّدات، أو عناوين، يتأتّى لجميع اليمنيين الانتماء إليها، وتوجيه الولاء لها. ولأنّ أوّل وأهمّ خطوات رَسْم ذلك المدخل تتمثل في شكل النظام السياسي - الذي يُراد له أن يخلف نظام الإمامة المَطِيح به – فقد وَقَعَ اختيار الثوار على النظام الجمهوري، وهم على يقين قاطع بأنّه الاختيار الأمثل.

ولكن لماذا اعْتُبِرَ النظام الجمهوري الخيار الأمثل؟ إنّ هذا السؤال، على تقليديّته، يتغيّا الإمساك بالفكرة الرئيسية في استراتيجية الثورة للانتقال باليمن إلى العهد الجديد. على أنه من الواضح تماماً أن الوعي الحاكم على الفعل الثوري لم يكن يَسْتشكِل الصدورَ عن الهوية الطائفية والسلالية من قِبَل نظام الإمامة المتوكلية وحسب، وإنما كان يَسْتشكِل الصدور عن الهوية الطائفية والسلالية في المطلق. ولقد ترتّب على سعة وعمْق هذا الوعي الثوري إدراك أنّ ظهور نظام العهد الجديد على هيئةٍ قد يُفْهَم منها اقترابُه من هوية فرعية بعينها – سواء كانت مذهبية/ طائفية، أو سلالية/ قبلية، أو مناطقية/ جهوية – لا يعدو كونه إعادة إنتاج للعهد الإمامي، ومن ثمَ فإنه يحفر قبره بيده.

من هنا فإن اتّجاه الثورة إلى النظام الجمهوري فعلٌ ناتج عن دافعية سياسية، تعي حقيقة أنّ دَمَج مختلف الهويات المذهبية/ الطائفية والسلالية/ القبلية والمناطقية/ الجهوية - التي يتشكّل منها النسيج الاجتماعي - وكذلك ضمان أن يرتقي ولاء وانتماء أفرادها إلى مستوى الصدور عن عنوانٍ جامع، لا يُمْكِن أن يتأتّى إلا بأن يترفّع نظامُ الحكم، أوّلاً، عن تبنّي هوية فرعية بعينها، وأنْ يعمد، ثانياً، إلى إبراز العناوين التي يشترك الجميع في الصدور عنها، جاعلاً منها المُحَدَّدات الأساسية للهوية الوطنية الكلية الجامعة.

عبدالله السالمي

Assalmi2007@hotmail.com

الهوامش والمراجع:

* نُشِرتْ هذه التناولة في كتاب (50 عاماً.. الإنجاز والإخفاق) الملحق بصحيفة الجمهورية مع عددها الاحتفائي باليوبيل الذهبي لثورة 26 سبتمبر 1962م. غير أنّ خطأ فنياً تتحمل مسئوليته صحيفة الجمهورية أدى إلى إسقاط هوامش هذه التناولة عند نشرها هنالك.

** صحفي وباحث.

 يحيى بن الحسين بن القاسم (الرسي) بن إبراهيم بن إسماعيل ابن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب. وُلِد في المدينة المنورة سنة 245هـ ، وصل صعدة - في قدومه الثاني إلى اليمن – سنة 284هـ ، وأقام فيها دولة زيدية، وتوفي بصعدة سنة 298هـ.

 أحد المذاهب الشيعية، وينسب إلى الإمام زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، في تاريخ مولده أقوال عديدة لعل أصحها أنه وُلِد بالمدينة سنة 75هـ، وتوفي بالكوفة سنة 122هـ .

 أحد المذاهب السُّنيَّة، وينسب إلى الإمام محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع، وُلِد سنة 150هـ ، وفي مكان مولده عدة أقوال لعل أصحها أنه وُلِد بغزة، وتوفي بمصر سنة 204هـ .

 مجموعة مؤلفين، الموسوعة اليمنية، مؤسسة العفيف الثقافية، صنعاء، ط 1، 1992، ج 2، ص 542.

 فرقة من فرق الشيعة، تُنسب إلى إسماعيل بن جعفر الصادق بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب. وعلى الرغم من أن إسماعيل توفي قبل والده جعفر الصادق (المتوفى سنة 148هـ) إلا أن الإسماعيلية يقولون بإمامته بعد أبيه جعفر.

 د. فؤاد البنا، الخارطة المذهبية في اليمن ‹مذهبان لا طائفتين›، دراسة ضمن كتاب سيصدر قريباً عن ‹شبكة مأرب برس الإعلامية›.

 علي محمد زيد، معتزلة اليمن: دولة الهادي وفكره، مركز الدراسات والبحوث اليمني – صنعاء، دار العودة – بيروت، ط 1، 1981م، ص 183 – 184.

 أيْ ذرية الحسن والحسين ابني علي بن أبي طالب "رض".

 أبو محمد الحسن بن أحمد بن يعقوب بن يوسف بن داود بن سليمان الأرحبي البكيلي الهمداني، وُلد بصنعاء سنة 280هـ/ 893م، وتوفي بريدة (تتبع اليوم محافظة عمران). وفي تاريخ وفاته خلاف، إلا أن من المؤرخين من رجّح أنه لم يمت قبل سنة 336هـ/ 947م وإنما بعدها. [انظر: الموسوعة اليمنية، م س، ج1، ص 383 – 385.]

 أبو سعيد نشوان بن سعيد بن نشوان الحميري، وُلد بـ (حوث) شمال صنعاء، وأسرته من وادي (صبر) في الشمال الغربي من صعدة. توفي سنة 573هـ/ 1178م. [الموسوعة اليمنية، م س، ج 2، ص 946 – 947.]

 القاضي عبدالله بن عبدالكريم الجرافي، المقتطف من تاريخ اليمن، مؤسسة دار الكتاب الحديث، بيروت، ط 2، 1984م، ص 230.

 انظر مقدمة التحقيق على كتاب (حوار في الإمامة) للإمام عزالدين بن الحسن وآخرين، جمع وتحقيق: محمد يحيى سالم عزان، مركز التراث والبحوث اليمني، صنعاء، ط 1، 2003م، ص 11 – 12.

 انظر - على سبيل المثال – مذكرات الأستاذ (أحمد محمد نعمان: سيرة حياته الثقافية والسياسية)، مراجعة وتحرير: د. علي محمد زيد، المعهد الفرنسي للآثار والعلوم الاجتماعية، صنعاء، ط 2، 2004.

 سعيد أحمد الجناحي، المسار النضالي وأحداث الثورة اليمنية، مركز الأمل للدراسات والصحافة والنشر، صنعاء، 2002، بدون ذكر رقم الطبعة، ص 143 – 144.

 المرجع نفسه، ص 183.