|
هذه هي الحلقة الثالثة من "كهرباء الجاهليَّة" للكاتب أحمد غراب..شدني في هذا النص الإستعمال المبدع للغة وأعني به لغة النص كأداة تعبير أدبي، ثم لغة النص على ألسنة المتحاورَيْن، شخصيتي النص الرئيستين، أبي جهل وأبي لهب....مزج الكاتب -بجمال لا نظير له- بين لغة تكنولوجيا العصر الحديث ولغة عرب البادية قريش محققاً بذكاء وإبداع وتوظيف أغراض النقد للفساد السياسي المتجذر في عروق ودماء عرب اليوم في حكومة (طفِّي لصِّي)...
تقنية جوّاب العصور
مرة أخرى نقول استعمل الكاتب تقنية أدبية فنية عالمية يسمونها في الرواية والشعر تقنية ((جوّاب العصور))، ينتقل البطلان ابو جهل وابو لهب فجأة من مكانهما مضارب مكة والخيام في عهد ما قبل الف وخمسمائة عام الى الحديث عن كوريا الجنوبية في القرن الواحد والعشرين، هذه الدولة العجمية التي باع المفسدون لها غاز اليمن بلا ثمن سوى ملايين من الدولارات قبضتها العصابة رشوة ثمن بيعهم للغاز اليمني لتحرم شعب اليمن مرتين: الأولى من الإنتفاع بثروتهم والثانية من استحقاق عائدات هذه الثروة..
صارت كوريا الجنوبية محور حديث أهل الجاهلية في مضاربهم قبل الف وخمسمائة عام -كما أشرنا- وتلك هي تقنية "جوّاب العصور" إذْ يطلُّ الماضي الغابر برأسه ليحاكم الحاضر البائس، يعيش نكبة العرب في اليمن وسقوطهم في وحل الذل يلهثون وراء (دبّة غاز) من كوريا الجنوبية ( أمثلة على ذلك في الحلقة الماضية رقم 2)..
تقنية التوظيف بسياق مناسب في النص
أبوجهل مخاطباً أبا لهب:(( ثكلتك أمك يا أبا لهب! وما حاجتك إلى الغاز وزوجتك حمالة الحطب!))
تقنية التوظيف لرمز تاريخي من نقاط القوة في هذا النص..انظروا كيف جاء التوظيف مناسباً وقوياً ومعبراً في سياق الحوار بين أبي جهل وزميله أبي لهب..توظيف قصة (حمّالة الحطب) التي ورد ذكرها في القرآن الكريم على سبيل التشنيع،امرأة للشر وللتآمر ورسم الخطط الجهنمية للإطاحة بأهل الدعوة والتخلص منهم،رمزية للإيذاء والتحريض على أهل الدعوة والنزاهة في المعارضة الشريفة...،توظيف للرمز في سياق مناسب وانسيابي يقرن أبا لهب دائماً بامرأته (حمّالة الحطب)... توظيف رمزي من الكاتب لتصوير شراكة تآمرية يتم تدبيرها بليل بين أبي لهب "وامرأته حمّالة الحطب": مستشارة السُّوء بقبح تآمري لا غتيال دعوة محمد بن عبد الله واتباعه، توقد الفتن وتشجع على الخُبث والإيذاء و" التطفيش"..، رمزية سرمدية لمستشاري السُّوء من اعداء الشعوب...غير أن حمّالة الحطب تعجز عن إيقاد شرارة ضوء لأنها تجمع الحطب لإشعال الحرائق في أرجاء البلاد وللفتن وشتم المعارضين وتخوينهم في وطنيتهم والتهجم على الشعوب وليس للإنارة...تغرق حمّالة الحطب مع بعلها أبي لهب في ظلام دامس لأنها توقد الحطب للإحراق والفتنة لا للخير والإنارة،تنجح في الشر وتفشل في الخير...
اختيار أبي الحَكَم كصوت للنداء اختيار موفق وناجح
من علامات نجاح هذا النص قدرة الكاتب على توزيع الأدوار التاريخية، بدقة فكلنا قرأ السيرة وكلنا يعرف أن أبا جهل (عمرو بن هشام المكنى أبا الحَكَم)هو سيد قرش في النداء الإعلامي والقوة في التأثير والخطاب على نفسيات وعقول قريش بحمية عاطفية كما قرأنا في غزوة بدر، استطاع ابو الحَكَم إقناع قريش بالحرب على (محمد وأصحابه) رغماً عن قناعة قريش وعدم رغبتها في الحرب وعدولها عن ذلك، استعمل فيهم لغة العاطفة والتجييش وإيقاد نار النخوة... وفي هذا النص ينجح الكاتب في إسناد هذا الدور في النداء والتشهير بالكهرباء لأبي الحَكَم دون غيره من رجالات قريش:
(((.....في ساحة قريش يخرج أبو الحكم على الملأ ويهتف بعلو صوته:
يا قوم! لقد صبأت الكهرباء ورب الكعبة! بين كل هنيهة وهنيهة "طفي لصي"، حتى أحرقت غسالاتنا وثلاجاتنا وتلفزيوناتنا...)))
ثم تأمل معنا توظيف الكاتب لكلام قريش وهم يعاندون النبي وأتباعه عبارة :((لقد صبأ -أو صبأتْ- ورب الكعبة)) استعار الكاتب هذه اللغة للتشهير بالكهرباء "التي صبأتْ" ....،قال هذا أبو الحَكَم وليس المواطن اليمني الغارق في ظلام الحكومة... إنها تقنية ((جوّاب العصور)) تقنية لأغراض محاكمة التاريخ المعاصر وسياسة (طفّي لصِّي) تم ذلك على لسان أبي الحَكَم :((...لقد صبأت الكهرباء ورب الكعبة....)) ..
وهنا تقنية أخرى وهي الإضحاك والتسلية والتنفيس من بعد غم وقلق مشحون وكربة وضيق عاشها المشاهد من جراء أزمة (طفِّي لصِّي)) ومن جراء عناء السفر الى كوريا الجنوبية للبحث عن دبَّة غاز..، يضحك المشاهد والمستمع حين يسمع ابا الحَكَم من وراء القرون والدهور يصرخ وينادي في الناس: ((...لقد صبأت الكهرباء ورب الكعبة....))
***
سوف نواصل هذه الحلقات -بعون الله- لنقف على جمالية إستعمال اللغة في النص وخصائص النص، وسنخصص الحلقة الأخيرة لسرد عيوب النص -- من وجهة نظر علمية نقدية موضوعية أيضاً..
***
النص
عمت صباحاً يا أبا لهب! إلى أين تمض يا أخا العرب؟
- سأذهب لجلب دبة غاز من كوريا الجنوبية.
- ويحك يا رجل! أصبأت عن غاز آبائنا وأجدادنا؟ تالله لأقلبن بعيرك بترولا بدلا من الغاز!
ـ تبا لك يا أبا جهل! ألم تعلم أن سعر الغاز في كوريا أرخص من سعره في مضاربنا؟!
ـ ولماذا هو أرخص في كوريا؟
ـ لأنها تشتري المتر الغاز بثلاثة دولارات فقط، ومن مضاربنا.
ـ ثكلتك أمك! ولماذا نشتريها بألف ومائتي ريال؟
ـ لأن بأسنا بيننا شديد.
ـ أي بيعة هذه!
ـ بيعة سارق، بعيد عنك.
ـ ثكلتك أمك يا أبا لهب! وما حاجتك إلى الغاز وزوجتك حمالة الحطب!
في ساحة قريش يخرج أبو الحكم على الملأ ويهتف بعلو صوته:
ـ يا قوم! لقد صبأت الكهرباء ورب الكعبة! بين كل هنيهة وهنيهة "طفي لصي"، حتى أحرقت غسالاتنا وثلاجاتنا وتلفزيوناتنا...
ـ إنه الماطور، إذن!
ـ وما الذي جلبك على الكهرباء وفواتيرها وسعر الكيلو الكهرباء قد بلغ مبلغه وديونك لخزاعة صاحب البقالة قد تجاوز كل حد بسبب الشموع.
ـ وماذا أفعل؟!
ـ ألست جارا لأبي لهب؟
ـ بلى.
ـ إذن، وفر على نفسك واربط سلكا من رأسه وولع ببلاش.
ـ ويحك يا شعتنة! ألم تعلم أن البلاش يجيب العمى والطراش!
ـ جل سادة القوم وكبرائهم يولعون ببلاش، وأنت واحد منهم.
يذهب أبو الحكم إلى دار أبي لهب ويطلب منه أن يربط له سلكا من رأسه، فيرد عليه أبو لهب:
- أكلتك أمك يا أبا الحكم! وكيف تريد أن أربط لك سلكا وأنت بلا "عداد"؟
ـ ويحك يا أبا لهب! أنسيت أننا نهرب الديزل معا، ومعنا محارب بن فهر؟!
ـ فلتصمت أيها الأحمق! وسأربط لك سلكا من الضغط العالي.
****
شاعر وناقد يمني
a.monim@gmail.com
في الثلاثاء 09 نوفمبر-تشرين الثاني 2010 05:14:26 م