خدعة اللون.. أمريكا والرئيس الأسود
بقلم/ دكتور/فيصل القاسم
نشر منذ: 15 سنة و 10 أشهر و 12 يوماً
الجمعة 19 ديسمبر-كانون الأول 2008 08:13 ص

لا شك أن أمريكا أصبحت بحاجة ماسة لتغيير صورتها العالمية والحصول على "نيو لوك"، خاصة "أن السنوات الثماني الأميركية الماضية كانت سنوات كرب شديد وشؤم مقيت وموت كثير وكذب مفرط" تسبب بها جميعاً رأس الدولة جورج بوش.ولا أحد يستطيع أن ينكر أن أمريكا تحولت حتى في أعين حلفائها إلى شيطان ملعون مطعون، فما بالك في عيون كارهيها. فقد خسرت بلاد العم سام خلال فترة قصيرة الكثير من رصيدها المعنوي والأخلاقي، مما جعل التغيير في الصورة أمراً ضرورياً للغاية بالنسبة للنظام والشعب الأمريكيين على حد سواء.وأعتقد أن المؤسسة الأمريكية الـ establishment التي تدير البلاد من وراء الستار قد وجدت أن السيل قد بلغ الزبى..

ولا بد من حركة دراماتيكية خارقة كي تعيد بعض الهيبة أو الاحترام لصورة الامبراطورية التي غدت الأكثر شراً وإثارة للكراهية مقارنة بالإمبراطوريات السابقة، خاصة وأن العهد الأمريكي Pax Americana يختلف كثيراً عن Pax Romana أو Pax Britannica ، اللذين لم يتوفر لهما ما توفر لأمريكا من أسباب القوة والجبروت والهيمنة والبطش والغطرسة والتكنولوجيا الجبارة، فجاء الزمن الأمريكي الأكثر قسوة، خاصة في وحشيته العسكرية وإذلال الشعوب.يكفي أن آلة الدمار الأمريكية ساهمت في قتل أكثر من مليون ونصف المليون عراقي خلال فترة وجيزة، ناهيك عن إعادة بلدين هما أفغانستان والعراق إلى العصر الحجري كما كان قد توعد وزير الدفاع السابق دونالد رامسفيلد.وبالتالي، لا بد من أن تتدخل الدبلوماسية العامة مدفوعة من المؤسسة الحاكمة كي تصحح الصورة بأسرع وقت ممكن خدمة للمصالح الأمريكية، وليس تكفيراً عن الذنوب.

لقد هرشت المؤسسة رأسها، ثم صرخت بأعلى صوتها: "وجدتها، وجدتها، لماذا لا ندفع برئيس أمريكي أسود إلى سدة الحكم في البلاد، وبذلك نقلب الكراهية العالمية لنا احتراماً، فينسى العالم سنوات بوش السوداء ليرفع لنا القبعة تبجيلاً لإنجاحنا رجلاً أسود في الانتخابات الرئاسية، فيتحول الاهتمام إلى "ديمقراطيتنا العظيمة"، بدل اجترار جرائمنا الكبرى بحق البشرية على مدى العقد الماضي".

من السذاجة بمكان الاعتقاد أن أوباما ترشح إلى المنصب، ثم فاز به بعضلاته الشخصية. ففي أمريكا الرئيس "لا ينـُتخب وإن انتخب، بل يُصنع صناعة". وليس هناك أدنى شك بأن الرئيس الأسود مصنوع من رأسه حتى أخمص قدميه.ويكفي أن نعلم أن وسائل الإعلام الأمريكية التي تستطيع أن تقوّلب الشعب الأمريكي كما يقوّلب الخباز قطعة العجين لعبت الدور الأكبر في جعل الناخبين الأمريكيين يدلون بأصواتهم لصالح أوباما بدلاً من ماكين.فقد أيد أكثر من مئة وأربع وخمسين صحيفة أمريكية المرشح الديمقراطي أوباما، ومن بين تلك الصحف كبريات الصحف الأمريكية التي لا يُرد كلامها أبداً، بينما لم يحظ المرشح الجمهوري ماكين إلا بتأييد خمسين صحيفة.وكذلك فعلت شبكات التلفزة الأمريكية التي تسيطر على عقول المشاهدين الأمريكيين البسطاء وقلوبهم.فجاء معظمها مؤيداً لأوباما وحاضاً الناخبين التصويت له يوم الاقتراع.بعبارة أخرى، فإن الذي انتخب أوباما عملياً وسائل الإعلام المملوكة للمؤسسة الأمريكية الحاكمة التي تدير البلاد من وراء ظهر الرئيس، بعد أن تكون قد أوصلته إلى سدة الرئاسة.

قد يقول قائل إن هذا الطرح نابع من تكهنات وتخرصات أكثر منه حقائق. فهل يُعقل أن تختار المؤسسة الأمريكية الممسكة بزمام الأمور في البلاد رئيساً أسود لإرضاء الذين باتوا يكفرون بأمريكا من عرب ومسلمين ولاتينيين وغيرهم؟ متى كانت أمريكا تعير كارهيها أي اهتمام يُذكر؟ هل سمعتم أن الأسد يمكن أن يكون مهتماً برضى الأرانب والقطط عن أدائه وتصرفاته؟ وهذا صحيح. لكن، مهما يكن الأمر، فإن حكام أمريكا الأصليين باتوا يشعرون بأن تغيير الصورة أو تجميلها غدا أمراً عاجلاً.ولا ننسى أنه حتى إدارة الرئيس الأمريكي المنصرف جورج بوش كانت قد تنبهت لوصول شعبية أمريكا إلى الحضيض عالمياً، فراحت تعين مسؤولين لإدارة الدبلوماسية العامة مهمتهم الرئيسية تحسين صورة أمريكا في العالم.وكلنا شاهدنا السيدة كارين هيوز وهي تجوب العالمين العربي والإسلامي، وتلتقي الفعاليات الرسمية والمدنية من أجل تجميل صورة بلادها التي تلطخت بالوحل والسواد أثناء حكم الرئيس بوش وفريقه المحافظ الذي أصبح عنواناً للشر والدمار والفاشية. جدير بالذكر أيضاً أن أوباوما أعلن أنه سيلقي أول خطاب له خارج البلاد في بلد مسلم على أمل تحسين صورة أمريكا في العالم الإسلامي.

لكن هل علينا أن نغير نظرتنا إلى الإمبراطورية الأمريكية بعد أن تغير رأسها، وأصبح لأول مرة رئيساً أسود إذا بدلت الحرف الثاني من اسمه الأول يصبح أسامة حسين؟ لا شك أن الكثير منا، بمن فيهم المثقفون والسياسيون، باتوا ينظرون بشيء من الارتياح إلى أمريكا بعد فوز الرئيس أوباما، فالفرق كبير للغاية بين صورة جورج بوش وصورة أوباما الذي يبعث في الأنفس شعوراً بالطمأنينة والارتياح.كيف لا وهو من أصول إفريقية بسيطة، لا بل إسلامية.ونحن نحمل في اللاشعور موقفاً متعاطفاً أو مؤيداً لأصحاب البشرة السوداء كونهم رفاقنا في الاضطهاد والعذاب على أيدي العم سام ونظامه الطغياني.

لم تعد نظرة الكثير منا إلى أمريكا نظرة كراهية وحقد كما كان الأمر أيام جورج بوش، بالرغم من أن أوباما لم يبدأ عهده بعد، ولم نعرف خيره من شره.لكن مع ذلك، فإننا بدأنا بطريقة لاشعورية نقرن صورة أمريكا بصورة رئيسها الأسمر الجديد الوديع.لقد تناسينا فجأة صورة أمريكا جورج بوش البشعة، وبدأنا نحب أمريكا من جديد.كيف لا وهي محكومة من قبل رجل أسمر من طينة المقهورين والمضطهدين في العالم؟ وهو ما تبتغيه عملياً المؤسسة الأمريكية الحاكمة.لقد نجح العلاج النفسي الذي تبنته المؤسسة في البدء بتغيير صورة أمريكا وتحسينها بعدما كادت أن تنهار في عهد غير المأسوف عليه جورج بوش. بعبارة أخرى فإن اللعبة النفسية قد بدأت تؤتي ثمارها.وهو أمر يجب أن نتنبه إليه فوراً، خاصة وأن حكام أمريكا لا يهمهم في نهاية المطاف سوى مصالحهم ومصالح بلدهم، فقد يكونون مهتمين بتغيير نظرتنا إلى بلادهم لأغراضهم الخاصة، لكنهم لن يتراجعوا عن سياساتهم الأساسية في استغلالنا واضطهادنا واستعمارنا.فصورة الرئيس الأسود الطيب لن تكون سوى ستار يمارسون من وراءه ربما سياسات أكثر بشاعة ودناءة وسفالة في حقنا وحق الشعوب الأخرى. الفرق الوحيد هذه المرة أننا لن نتذمر كثيراً من البطش والجبروت الأمريكي لأنه يأتي على يدي رئيس أسمر طيب.

كم كان بعض المعلقين العرب على حق عندما تمنوا فوز ماكين وليس أوباما في الانتخابات الرئاسية الماضية من منطلق أن ماكين أمريكي أبيض واضح المعالم والقسمات، ولا يمكن أن تشك، ولو للحظة واحدة، في غطرسته ونواياه، فهو يمثل أمريكا الحقيقية، بينما يعطينا أوباما انطباعاً غير صادق بأن أمريكا قد تغيرت، وهي في الحقيقة لم تتغير، بل ارتدت قناعاً أسمر للخداع والتمويه، فيما يبقى وجهها الحقيقي هو الحاكم الفعلي من وراء القناع الأسود.