يبقى التواضع إزاء السلطة الرئاسية قائماً، إلى أن يتربع من يحصل عليها ويجد نفسه أنه الآمر الناهي، تمتد سلطته الى حد غزو دولة شقيقة أو فك حبل مشنقة أو إرسال شركاء أو معارضين له الى السجن، أو الدخول في محور بغرض المصلحة أو الكيدية، أو فتح الأبواب أمام إيواء معارضين غرباء يوظف «استضافتهم» في مآرب كثيرة.. هذا عدا كل صغيرة وكبيرة تتصل بالحياة اليومية للناس. ونحن إذا تأمَّلْنا في المشهد الرئاسي العربي الذي هو جزء من المشهد الأرحب أي العالم الثالث، نجد أن القاعدة خلت من الاستثناء فلم يَقْنع احد من الرؤساء الجنرالات بالسنوات التي حددها الدستور ثابتاً كان هذا الدستور أو مؤقتاً، ولم يلتزم أحد بما تعهَّد به بعدما بات في السلطة على خلفية قوله بأنه عندما ستستقر الأمور سيسلِّم الأمانة الى أهل السياسة، مكتفياً بأنه «صحَّح» أو «أنقذ» أو «انصف» أو «حرر».. الخ. وحتى في لبنان الدولة التي لها دستور ثابت نجد أن مسـألة التمسك ما أمكن بالرئاسة، وعلى حساب ثوابت الحوار الدستورية شملت بعض أهل السياسة من المدنيين والجنرالين اللذين غادرا الثكنة وغرضهما «تأديب» السياسيين، فإذا بهما يسعيان الى البقاء الطويل في السلطة. وهذان الجنرالان هما قائد الجيش في الخمسينيات اللواء فؤاد شهاب، الذي كان لن يعُفَّ عن الرئاسة ولاية ثانية لو تأمَّن له سند سوري مثل الذي ناله الرئيس الحالي العماد اميل لحود قائد الجيش، وكان ناله من قبل الرئيس المدني الياس الهراوي الذي لولا الوجود السوري، لكان اصابه ما اصاب الرئيس الاول للبنان المستقل بشارة الخوري، فانتهى نادماً على انه ارتضى التجديد الذي اخذ من رصيد دوره الوطني السابق. ويصعب على المرء مثل حالنا الافتراض بأن متعة تمديد الولاية الرئاسية وبموجب تعديل دستوري للرئيس لحود تستحق مرارة هذا الذي يتعرض له يومياً من كلام في منتهى الخشونة، لكنه مع ذلك متمسك بالسلطة حتى الثانية الأخيرة من المدة المحددة.
وحتى بعد تعرُّض الهيبة الرئاسية الى صدمة بالغة القساوة كتلك التي اصابت الرئيس جمال عبد الناصر يوم 5 يونيو (حزيران) 1967، نجد أن الرئيس لا يتيح المجال لغيره وإن كانت الرواية الهيكلية تفيد أن عبد الناصر كان قرر بعد كارثة انفصال سورية عن مصر ترك منصب الرئاسة والعمل في صفوف الشعب. لكن الذي حدث هو أنه لم يترك وإنما خاض حرب اليمن لتثبيت الانقلاب الذي قام به عدد من الضباط برئاسة العقيد عبد الله السلال، وفي ظنه انه بهذا الدور يحتوي الصدمة السورية، مع ان الذي حدث هو أن اسرائيل استغلت الانشغال المصري السياسي والعسكري باليمن، ووجدت فيه خير مناسبة لتوجيه الضربة اللاحقة ضد مصر الناصرية يوم 5 يونيو 1967. وكان الاعتقاد السائد أن عبد الناصر سيتمسك بإعلانه من على شاشة التلفزيون وعبر الاذاعات المصرية يوم 9 يونيو قرار التنحي، إلاَّ انه عاد في اليوم التالي عن القرار تجاوباً مع «الارادة الشعبية» المتمثلة بمسيرات جابت شوارع القاهرة وتشبه في بعض منطلقاتها تلك التي جابت شوارع العاصمة اليمنية يوم 20 يونيو (حزيران) 2006 رافعة صور الرئيس علي عبد الله صالح، تطالبه بإعادة ترشيح نفسه لولاية رئاسية جديدة تمتد الى العام 2013، وجاءت رداً على إعلان الرئيس يوم 17 يوليو (تموز) 2006 انه لن يعيد ترشيح نفسه بعد انتهاء ولايته مكتفياً بالثمانية والعشرين عاماً التي أمضاها رئيساً للبلاد.
وهنا يستوقفنا ما حدث في الجلسة التي عقدها الحزب الحاكم يوم الاربعاء 21 يونيو (حزيران)، وكيف ان هذه الخطوة ايقظت في الذاكرة ما فعله (الاتحاد الاشتراكي) الحزب الحاكم في مصر لمجرد اعلان عبد الناصر عزمه على التنحي يوم 9 يونيو 1967. ففي الجلسة المشار اليها أوضح الرئيس علي عبد الله صالح للقياديين في حزبه، انه سيعلن خلال الجلسة في اليوم التالي قراراً نهائياً في موضوع ترشيح نفسه وطلب منهم عدم تسيير التظاهرات الشعبية الحزبية في الوقت نفسه مختصراً الرأي بأن قضية الترشيح للرئاسة «ينبغي أن لا تحدث من خلال التظاهرات». لكن حالة من الهرج سادت اجواء الاجتماع فغادر القاعة ثم عاد ليخاطب المؤتمر الحزبي قائلاً «ان السلطة مَغْرَم وليست مغنماً وسنضعها امام شعبنا ليتحمل مسؤوليته في اطار التبادل السلمي للسلطة. لقد انتهى عهد الانقلابات والمؤامرات والاستقواء بالخارج. لنحتكم جميعاً الى الشعب. فالحديث عن السلطة ليس مسرحية سياسية أو غزلاً سياسياً وأردت أن أضع الشعب اليمني أمام مسؤولية تاريخية بكل فئاته وقواه السياسية. وهذه ليست مسرحية ابداَ، وحسمها ينبغي ألاَّ يكون عبر التظاهرات والمسيرات. أنا لست مريضاً ولست عاجزاً عن تحمُّل المسؤولية وعندما أتحدث معكم عن عدم رغبتي في الترشح فذلك ليس مسرحية سياسية، بل من منطلق المسؤولية. ولقد ابلغتُ الى الأمين العام للمؤتمر وحذرتُ من اي مسرحية سياسية...».
جاء قرار الرئيس علي عبد الله صالح في توقيت مدروس. فليس في الساحة اليمنية فرسان للمنازلة. وساعد ترحيب الرئيس السابق لليمن الديمقراطي علي ناصر محمد وبعض السياسيين الجنوبيين من المعارضين على نشوء عصبية في الصف الشمالي، وذلك مع ذيوع تكهنات بأن علي ناصر محمد يمكن ان يكون الرئيس الخلَف عملاً بمبدأ التداول السلمي للسلطة، فضلاً عن ان اليمن التي توحدت تتيح للجنوبي كما للشمالي الترؤس. بل ان علي ناصر ذهب بعيداً في الترحيب حيث انه دعا يوم 22 يونيو خلال رعايته في بيروت ندوة عن قضايا الاصلاح والتنمية في اليمن الرئيس علي صالح الى تشكيل حكومة وحدة وطنية «لتهيئة الساحة السياسية اليمنية لانتخابات حرة ونزيهة...» ... الخ.
وهنا بدأت ملامح ضعف الرئيس امام مناشدات اتسمت بعض مفرداتها بـ«التوسل»، فقال مازجاً بين العزوف وبين التذكير بالإنجازات التي يستحق بسببها تجديد الرئاسة: «انا لست تاكسي يستأجرني (حزب المؤتمر) أو القوى السياسية الأخرى لصالحها لكي أُقلها إلى الفنادق. أنا أرعى مصالح الأمة التي وثقت بي منذ 28 عاماً. أنا لست مظلة لفساد حزب سياسي أو قوى معيَّنة ولست مظلة لأن يفسدوا على حساب سمعة علي عبد الله صالح وجهده وعرقه وسهره ليل نهار على مصالح هذه الأمة لا على مصالحي. انا لم أحبُس ولم أعدم احداً ولم استخدم القوة ضد أحد، وانا صاحب الشعار (الذي يستخدم القوة هو الجبان). وبعد الانقلاب الذي قام به الناصريون عام 1979 تم اعدام 22 من المسؤولين عنه بموجب احكام شرعية، إلاَّ انني قمت بإلغاء بعضها...».
يوم السبت 24 يونيو 2006 وعلى وقع مسيرة مليونية كتلك التي شهدتها شوارع بيروت في ظروف تجمع المأساة والتحدي، وقف الرئيس علي عبد الله صالح خطيباً في الجمع الغفير الذي تجمهر بالقرب من قصر الرئاسة قائلاً: «انني استجيب لمطالب جماهير الشعب التي جاءت مدفوعة بإرادتها واتراجع عن قراري رضوخاً لإرادة الشعب. سأكون جندياً معكم كما عرفتموني. ان المستقبل لن يكون مفروشاً بالورود على الإطلاق، وهنالك حاجة ملحة الى تضافر الجهود للعبور بالسفينة الى شاطئ الأمان...».
بعد ذلك رشَّح الرئيس علي عبد الله صالح نفسه لولاية رئاسية جديدة مدتها سبع سنوات. وكان يأمل ان يكون رئيس تزكية لكن احزاب المعارضة رشحت الاسلامي الجذور الحزبية وزير النفط السابق المستقل فيصل بن شملان للرئاسة. وكان ترشيح شخص آخر وصاحب سمعة طيبة مثل بن شملان بمثابة اختبار لقدرة المواطن اليمني على الاختيار: إما للرئيس الذي حقق الوحدة واتاح الفرصة امام انتساب قريب لليمن الى مجلس التعاون الخليجي وصديق استراتيجي لأميركا، وإما للوزير السابق بن شملان ابن الثانية والسبعين الذي يحظى باحترام واسع وخاصة في المحافظات الجنوبية بسبب مواقفه المعلنة ضد الفساد الحكومي، ولأنه كان بعد تعيينه وزيراً للنفط في الدولة الموحَّدة عام 1944 استقال بعد عام من تعيينه احتجاجاً على استشراء الفساد في القطاع النفطي.
عشية الانتخاب الذي جرى يوم الاربعاء 20 سبتمبر (ايلول) 2006 في حضور 349 مراقباً اوروبياً ودولياً وعربياً وجَّه علي عبد الله صالح سهماً جارحاً الى بن شملان من أقوى المنافسين الاربعة عارضاً على الجمهور صورة حارس لبن شملان، موضحاً انه ارهابي ومتهم بالتخطيط لضرب اهداف اميركية وفندق «موفنبيك» الذي يملكه رجل الاعمال السعودي الأمير الوليد بن طلال. وعشية الانتخاب طمأن بن شملان جمهوره المعارض بأنه سيفوز بنسبة سبعين في المئة، وسيهزم علي عبد الله صالح المترئس منذ 28 سنة.
وجاءت نتائج الفرز للعملية الانتخابية الحرة والهادئة تشير الى أن السبعين بالمئة حصل عليها علي عبد الله صالح وليس فيصل بن شملان، وتطرح حقيقة كثيرة الوضوح وهي انه لا تفضيل من جانب المواطن للمعارضة من المحيط الى الخليج. وهذه حالات معظم الرئاسات العربية وبالذات مصر والسودان وتونس، تؤكد ذلك حيث ان الرأي العام يفضل ما هو قائم على ما هو آت... ربما لأن المعارضة العربية تفتقر إلى مصداقية من واجبها تأمين الحصول عليها قبل خوض السباق وربما لأن الرئيس المرشح يخوض المعركة، وهو في سدة الرئاسة وبطبيعة الحال فإنه يصبح الفائز سلفاً.
في الخميس 05 أكتوبر-تشرين الأول 2006 11:29:12 ص