الثالوث القاتل في صنعاء
بقلم/ د.مروان الغفوري
نشر منذ: 4 سنوات و 5 أشهر و 13 يوماً
الإثنين 18 مايو 2020 11:47 م
 
  1. قال باحثون ألمان، في دراسة نشرت بالأمس عبر دورية لانسيت، إنهم تعرفوا على المريض صفر. بحسب الباحثين فإن موظفة سافرت من شنغهاي إلى ميونيخ، في ال19 من يناير، للمساهمة في اجتماعات الشركة التي تدير هي فرعها في الصين. عانت السيدة من أعراض انفلونزا منذ وصولها، لكنها ربّطت الأمر بإرهاق السفر. حضرت الاجتماع الأول في غرفة مساحتها 12 متراً مربعاً، وجلس موظفان ألمانيان قبالتها، بينما جلس الثالث إلى جوارها. عادت السيدة في ال21 من يناير إلى شنغهاي وهناك اكتشفت إصابتها بالفيروس. أدركت السلطات هناك أن والديها، اللذين قدما من ووهان لزيارتها قبل سفرها، هما مصدر العدوى. أُبلغت الشركة الألمانية بالنتيجة فقامت بفحص الذين خالطوها. الشابان اللذان جلسا قبالتها لم يصابا، وجاءت النتيجة إيجابية بالنسبة للشخص الذي جلس إلى جوارها مباشرة. ضمن نماذج انتقال الفيروس بين موظفي الشركة، كما لاحظ الباحثون، أن أحد الموظفين جلس على طاولة طعام، معطياً ظهره لآخر على الطاولة المجاورة. طلب الأول من الثاني إعطاءه "الملاحة"، وكانت حركة المناولة تلك كافية لانتقال الفيروس بين الرجلين. من تلك البؤرة في ميونيخ خرج الوباء وقتل الناس وأنهك الاقتصاد وأحدث شرخاً في فكرة الأمن. ظهرت بؤر أخرى، بالطبع، وساهمت في صناعة الوباء، إلا أن بؤرة ميونيخ كانت هي الفاتحة.
  2. لا يحتاج الفيروس للكثير حتى يتمكن من الانتقال بين البشر. أمس التقى طه المتوكل بوفد من الأطباء، ويوم الثلاثاء الماضي بممثلي المستشفيات الخاصة في صنعاء. أخبرهم بوضوح: الوباء يوشك أن يخرج عن السيطرة. وأكد لهم أن حكومته لن تعلن عن الوباء لأن من شأن ذلك أن يصيب الناس بالخوف والهلع، وذلك من شأنه أن يهدّ مناعة الناس ويمكن الفيروس منهم. قال إن سياسة حكومته تعتمد على بث الطمأنينة لمساعدة الناس على مقاومة المرض. طلب من كل مستشفى سبعة عاملين: أربعة أطباء وثلاثة ممرضين. قال إنه سيرسلهم إلى مراكز عزل جديدة. أيضاً اعترف ب 1300 حالة مؤكدة وبـ 2000 حالة تنتظر النتيجة، وكشف عن قدرة حكومته المحدودة: نملك 20 ألف فحص فقط. يجري الحوثيون الفحص على الحالات التي تعاني من "الأعراض الشديدة". نعلم، من البيانات المتوفرة، أن تلك الفئة من المرضى لا تتجاوز ال 10%. تفضلوا بأنفسكم وقوموا بعملية حساب. على أن كل الأرقام التي ستصلكم لا علاقة لها بالحقيقة، فالناس لا يذهبون إلى المشافي خوفاً من المجهول والموت وخراب الدار.

 صنعاء مكشوفة أمام الوباء، وهو يتفشى بسرعة مذهلة. إصرار الحوثيين على إخفاء الحقيقة مجرد تكتيك لن يصمد كثيراً. ستة ملايين يسكنون العاصمة. تخبرنا الأرقام عن التالي: من حاصل قرابة 4 ملايين إصابة على مستوى العالم مات ثلث مليون!

  1. الطريق سالك أمام كورونا في صنعاء وما حولها. كورونا الخفيف الذي قفز من شخص إلى آخر أثناء مناولة ملاحة الطعام.

تخيلوا هذا الثالوث الرهيب:

[أ]: يرفض الحوثيون إطلاق الحقيقة، ويقدمون للناس حقيقة زائفة تقول إن الأرض نظيفة من الوباء. يركن الناس إلى ما تقوله السلطة فيقعون في الفخ، وينتقل الفيروس بسرعة أكبر. قال المتوكل للأطباء المحتجين: تريدون مني إعلان حالة طوارئ؟ حسناً ها أنا أعلن أمامكم حالة الطوارئ وأقول لكم إن الوباء خرج عن السيطرة. أما أمام العالم فلن نفعل.

[ب]: في مستشفى خاص في صنعاء جاءت فحوصات مريض إيجابية. عرف الحوثيون، من خلال المعمل المركزي، بالنتيجة فجاؤوا إلى المستشفى وقرروا إغلاقه. فحوصات المخالطين جاءت إيجابية في ثلاثة من طاقم المستشفى. بعد مناولات مطولة تخلى الحوثيون عن الفكرة وحصلوا على قيمتها نقداً. لم يكن ذلك فعلاً مفرداً، بل سياسة يتبعها الحوثيون. يهددون المستشفيات بالإغلاق إذا كشفت عن حالات مصابة بالفيروس، ثم يخوضون معها مساومات ذات طبيعة مالية. ماذا ستفعل المستشفيات؟ أجابني مسؤول رفيع في مستشفى معروف: توقفنا عن إرسال العينات إلى المعمل كي لا نعرض أنفسنا إلى الابتزاز. المستشفيات أيضاً تخلت عن التعامل مع "كورونا"، فهي الكلمة اللعنة. الحالات المحتملة ترسل إلى المنازل. قالت طبيبة تعمل في الطوارئ أن أربع حالات ماتت بعد وصولها إلى الطوارئ. فسرت الأمر كالتالي: يخشى الناس من فكرة إنهم ربما يكونون قد أصيبوا، يلجأون إلى وسائل تقليدية حتى تتدهور الحالة العامة. ساعة وصولهم يكونون قد دخلوا في صدمة التهابية وفشل في الرئة.

[3]: المرضى الذين يذهبون إلى المستشفيات يرفضون إجراء فحوصات كوفيد 19 [كورونا]. حتى إنهم أصبحوا ينكرون الأعراض التي يمكن أن تضعهم في دائرة الاشتباه. يتردد شعبياً أن الحوثيين يتخلصون من المرضى، أو أنهم يدفنونهم بشكل غير لائق، أو يخفونهم ويغلقون منازلهم ويحتجزون أسرهم. بالنسبة للكثيرين فإن هذه الأفعال لا تحتمل. يسمعون عن مستشفى الكويت بوصفها سجناً رهيباً يعج بالجثث والمرضى على الحافة، وبالرعب والوباء والميكروبات، وبسيارة مغطاة باللون الرمادي تخرج عشرات المرات في اليوم وتذهب إلى المقبرة. هذه هي الخيالات الشعبية الجارية، وليست من عندي.

إذن:

النظام يرفض الاعتراف بالوباء، وفقاً لحساباته الخاصة في الربح والخسارة.

المستشفى تخشى من إجراء الفحوصات الخاصة به، هرباً من الابتزاز والتهديد بالإغلاق.

والمرضى يرفضون القصة إجمالاً، من الأعراض إلى الفحص، خوفاً من المجهول ومن الفضيحة.

داخل هذا الثالوث ينتشر الوباء في العاصمة

  1. إقرار النظام بوجود الوباء أمر حاسم في طريق مواجهته. عليه أن يحدد طبيعة الوباء، حجمه، سرعة حركته، جغرافيته .. حتى يتسنى للإنسان المفرد أن يحدد مكانه داخل هذه الدوامة، ويكيّف تفاعلاته. فضلاً عن أن هناك قطاعاً كبيراً من الناس يؤمن بما تقوله السلطات، معتقداً أنها تأخذ المسؤولية على محمل الجد. ولئلا تحل الأسطورة محل الحقيقة، والوهم في موضع المعرفة. الكفاح ضد الأوبئة هي معادلة مركبة بالنسبة للزمن، وعلى المجتمع أن يراجع في كل مرحلة آليات كفاحه بالنسبة لدرجة الوباء. كل هذا يستدعي معرفة دقيقة بالمشكلة، وإحاطة شاملة بطبيعتها. لا يمكنك أن تواصل خوض مواجهة مع مشكلة تجهلها، ثم أنت لا تدري إلى متى، وما إذا كنت تسير في الطريق الصحيح. هذا الغموض يجعل معركتك فاشلة منذ البداية، وهو نصر مؤكد للوباء. هي معركة، هذا ما وصف به الوباء في كل مكان.
  2. شاهدنا كيف أن موظفة وحيدة جلست إلى جوار زميلها، ثم كادت أن تغير تاريخ البلاد بأكملها. أو على الأقل، كما يتردد، لقد غيرت تاريخ العادات. في هذه اللحظة ونحن نكتب يواصل الوباء الانتقال من شخص إلى آخر، ينقله الآلاف إلى الآلاف. لقد انهار المحور مبكراً: السلطة، المنظومة الطبية، المرضى. هذا ما لم يحدث في أي بلد في العالم، وستكون الصورة النهائية للوباء، بالنتيجة، مختلفة عن كل ما شاهدناه في أي مكان. الثلاثة يرفضون النظر إلى الحقيقة، ويبدلونها ب"التوكل". بين 10 إلى 20% سيتطلب إدخالهم المشافي، وهؤلاء سيكونون بالآلاف. مزودو الصحة يصابون على نحو متسارع، إذ على الأقل هناك 9 إصابات بين ممرضات مستشفى الكويت، وأرقام شبيهة في مراكز أخرى. توعد المتوكل الأطباء قائلا إنه يملك سجلاتهم وسيحضرهم للعمل بطريقته. سيذهبون مجردين من وسائل الحماية، وستكون النتائج وخيمة. ثمة إشارات على ذلك. يتصدى الحوثيون للوباء عن طريق الأطقم العسكرية. فالرجل الذي نقل من إب في حالة مزرية ثم مات في صنعاء، بسبب إصابته، ذهب الحوثيون إلى منازل أهله في إب وأغلقوها، وجعلوهم عبرة. لقد شاهد الناس هناك أي عار وخوف تجلبه الحمى والسعال. لن يفصحوا عن سعالهم بعد ذلك.
  3. نحن بحاجة إلى تأسيس منظومة موازية، طبية ولوجستية، تعمل مستقلة عن كل المنظومات السلطوية العابثة. شبكة ما، واسعة وكفؤة وتشمل الداخل والخارج، تعمل على مدار الساعة: لوجستياً، علميا، فنياً، ونفسياً. بالموازاة ثمة احتياج إلى منظومة حقيقة ذات مصداقية ومعقولية، تقع على كتفيها مهمة تبصير الناس بالكارثة خطوة بخطوة ..

خالص التقدير