الربيع العربي وتحولات الصورة
بقلم/ د. محمد جميح
نشر منذ: 12 سنة و 11 شهراً و 10 أيام
الأحد 27 نوفمبر-تشرين الثاني 2011 03:27 م

الشاشات هذه الأيام تتفجر صورا ودما وصراخا منضفرا مع اللون الأحمر المتدفق من جنبات شاشات ترشنا كل يوم بمزيد من الصور والعويل وأزيز الرصاص. الدم يقذف على وجوهنا ويرتطم بأعماقنا على شكل وجبات يومية منتظمة قادمة من البلاد الموبوءة بحمرة الجراح، وزرقة الجثث الخارجة من ثلاجات المشافي. دم قادم من اليمن، لون أحمر تفجرت به الشاشة الليبية، المشهد السوري يبدو في غاية السريالية وهو متسربل بذلك العصير الفاقع الحمرة، الذي يقدم لمصاصي الدماء في دمشق مع وجباتهم اليومية من جثث السوريين ودموعهم.

هذا الربيع العربي مشرب بالحمرة على غير عادة الربيع، وكأن هذا المشهد الطقوسي لا تصح صلاته إلا بالدم على رأي الحلاج. هل كل هذه الدماء هي الضريبة اللازمة للتغيير؟ هل هي همزة الوصل التي لا تتم انسيابية الكلام إلا بها؟ هل هي خلفية الصورة اللازمة لجلاء غموضها وإيصال دلالاتها؟ هل هذه الدماء هي الإمضاء المرسوم تحت اللوحة الفنية، لكي يشير إلى ملكية اللوحة لرسام واحد، أو لعدد من الرسامين منتمين إلى مدرسة فنية واحدة، وإن اختلفت طرائقهم ووسائلهم في إخراج لوحاتهم؟ هذا ربيع الصورة، الصورة المتحولة، الصورة المكتنزة، الصورة التي لا تقر في إطار واحد. الربيع نفسه هو صورة «المهدي المنتظر» لدى شعوب انتظرته طويلا على قوارع الطرقات، وأمام عتبات الكهوف والمغارات، ليملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا وظلما.

والربيع ذاته هو «الأعور الدجال» عند أنظمة لا ترى فيه إلا صورة عينه الجاحظة، التي تنبعث منها معاني الفوضى والخراب والدمار، العين التي يراقب بها الغرب دول الشرق العربي ليتدخل فيها ويسطو على ثرواتها، ويضع يده على مقدراتها، وكأن هذه الثروات كانت محفوظة ومصونة للشعوب للتنعم بها، دون أن يعبث بها العابثون من أبناء جلدتنا.

صور جديدة ضخت، صور قديمة تغيرت، صور تحولت في صيرورة عجيبة لعدسة الكاميرا التي لا تنفك تضخ مشاهد رامزة لهذا الربيع الذي يعد بحق ربيع الصورة بامتياز.

شيئا فشيئا بدأت الصورة تتغير. صورة العربي الثري، «الذي يطارد شقراوات الغرب، والعربي القاعدي، والعربي المتزمت الذي لا يحترم حقوق المرأة»، بدأت تتغير هنا في الغرب، والشيء ذاته حدث لصورة الغرب في العالم العربي. صورة «الغرب العدو، الغرب المستعمر، الغرب المؤيد لإسرائيل، والغرب الذي دمر العراق وأفغانستان»، بدأت بدورها تتغير لدى سكان بلاد ما بين الماءين.

صورة طبيب العيون الوديع الرقيق، المثقف العروبي تحولت بإخراج كاميرا تراجيدية إلى صورة جزار رهيب، يملك ساطورا ضخما يمتد من دمشق إلى حمص إلى حماه ودرعا، ساطور عجيب ركبت فيه نصال كثيرة، والطبيب الجزار يقصل به رقاب ضحاياه في لذة لا يحسده عليها إلا مصاصو الدماء في أفلام رعب هوليوود.

صورة أخرى قادمة من بيروت تغيرت كثيرا، المقاوم صاحب «الوعد الصادق» الذي ينتقي إطلالاته على الشاشة كما ينتقي عباراته، ولون ملابسه، هو كذلك تغيرت صورته، خرج من قبوه بالضاحية ليقول إن النظام السوري سيتجاوز المؤامرة. الصورة التي ارتفعت على أعمدة الشوارع وعلى أبواب السيارات تغيرت، اختلطت ألوانها العمياء بعد أن مزقتها اليد التي رفعتها على مشاجب ذاكرة لا تنسى. هذه الصورة الخارجة من قبو الضاحية الجنوبية تغيرت بشكل مثير، أصبحت ممجوجة بعد أن عراها الربيع العربي وذهب بكل الأقنعة التي غطت بشاعتها خلال الأعوام الماضية.

الصورة الإيرانية اهتزت كذلك، أصابها التحول، الصورة القادمة من طهران التي رأيناها في شكل نمطي تبتسم بهدوء، وتتحدث بثقة، رأيناها في حالة من الذعر والتخبط، يحدوها الأمل في أن يتجاوز نظامها في دمشق ثورة السوريين ويسحقها، فتخرج مشيدة به، ثم تنتابها حالة من الخوف من سقوط هذا النظام، فتخرج لتقول إنها تدعم تطلعات الشعب السوري، ظنا منها أننا ما زلنا مغفلين. مضحكة هذه الصورة الإيرانية حد السخرية، تسمع السوريين يهتفون «لا إيران ولا حزب الله»، ومع ذلك تحاول بتقية إيرانية أن تقول إنها صديقة أولئك الذين ترسل وسائل القتل والتعذيب والمراقبة والمال من أجل القضاء على ثورتهم.

الصورة العراقية لم تفلت بدورها من رتوش الربيع العربي، صورة في ظاهرها عربية عراقية، لكن الربيع كشف عن عمق إيراني في مدياتها، صورة مشوشة وملتبسة تنم عن هشاشة وضع صاحب الصورة. الصورة تحاول أن تظهر بملامح عربية، رغم أن الإمضاء أسفل اللوحة لرسام محترف وراء الستار، في بلاد ما وراء النهرين. سيد بغداد الجديد يحاول أن يعتمر جبة أبي جعفر المنصور، وينسى أن يطمس توقيع أبي مسلم الخراساني أسفل اللوحة.

وصورة أخرى قادمة من كهوف التاريخ، هذه المرة من اليمن، صورة تصرخ «الموت لأميركا، الموت لإسرائيل» - تسمع كلام الصورة وتتعجب لأن أميركا هي التي تدافع عنهم، وهي التي أوقفت الحرب عليهم في جولتها السادسة، ترى الصورة تصرخ بشعارات الجهاد ولا ترى عليها سيما المجاهدين، كأن لها نسبا بشبيحة النظام السوري. تحاول الصورة الحوثية أن تحاكي نظيرتها الإيرانية، فتقول إن ما يجري في سوريا مؤامرة غربية، بينما ما يجري في اليمن ثورة شعبية حسب تصريحات قائد الجوقة في ساحة التغيير في صنعاء. صاحب الصورة لا يزال يعيش في أسر مقولات الإمام عبد الله بن حمزة الذي جعل إمامته حقا إلهيا من الله لرسوله ثم لعلي إلى أن وصل هذا الحق إلى ابن حمزة نفسه، ويسري مع الزمان إلى إمام صعدة الجديد المنكفئ في أحد كهوف التاريخ. صورة مضحكة للغاية تتحدث عن الدولة المدنية الديمقراطية، وتحصر الحكم في البطنين. وما علينا إلا أن نصدق أن «الدولة المدنية» تنسجم تماما مع مقولات القرون الوسطى. مضحكة هذه الصورة وهي تحاول أن تخبئ عمامة ابن حمزة تحت ربطة عنق عصرية في تناقض مثير للسخرية، مضحكة وهي ترتبك أمام الربيع السوري، وتنكفئ يوما بعد آخر عن الربيع اليمني لتفتح جبهات جانبية في مناطق حجة والجوف وتطعن الثورة في ظهرها، مضحكة وهي ترفع شعار إسقاط النظام في صنعاء وتطعن الثورة في حجة والجوف، وتمارس سياسة التطهير المذهبي في صعدة.

شكرا للربيع العربي، لم تتفتح أزهاره بعد، لكنه أسقط القناع، وأزاح الستار عن صور متحولة في مشهد لا يكف عن التحول والإدهاش، في منطقة أصبحت مشهدا مكتنزا بالكثير من الدلالات والتحولات والدماء.