الشيخ / علي مبخوت لعرادة
بقلم/ مأرب برس
نشر منذ: 18 سنة و 8 أشهر و يومين
الأربعاء 08 مارس - آذار 2006 10:05 ص

الرجولة في اللغة تعني القوة والشجاعة والإقدام والنباهة والذكاء والتميز ، والرجال بهذا المعنى قليل قال الشاعر :

الناس ألف منهم كواحد     وواحد منهم كالألف إن أمر عنى

ولهذا فلم يكلف الله بحمل الرسالات والقيام بأعبائها إلى رجالاً ، قال الله تعالى : ( وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ) ، وقد جعل الله في أمة محمد صلى الله عليه وسلم رجالاً ذوو صفات نادرة وقدرات عالية في كل زمان ومكان ليكونوا قدوات يقتدي بهم ومنارات يهتدى بهديهم وأعلاماً تقتفى آثارهم ويستنار بآرائهم وفعالهم يقيم الله بهم الحجة وينير بهم طريق المحجة ولكل مقام مقال ولكل زمن رجال .

ومن أولئك الرجال الذين عايشتهم وعرفتهم عن قرب الوالد الكريم المرحوم الشيخ علي بن مبخوت بن عوض العراده عليه رحمة الله فقد كان يتمتع بصفات مميزة ونادرة يشهد له بها القريب والبعيد ممن عرفه وعاصره وجالسه وخالطه ، وليست تلك الصفات كلها مكتسبة بل أن معظمها كانت صفات جبلية فطرية أصيلة تحدرت إليه من آبائه وأجداده ونمت وترعرعت في بيئته النظيفة الصافية ، فالكرم والشجاعة والإقدام والصدق والنجدة والصبر وحب الخير للآخرين والعطف على الأيتام والأرامل والفقراء والمساكين وحماية الضعفاء ونصرة المظلوم ومقاومة الظلم والوقوف إلى جانب الحق والعدل بين الناس ، كل هذه الصفات وغيرها من الصفات الإيجابية التي كانت تشكل بيئة سائدة يتمتع بها غالبية معاصريه من أبناء قبيلة عبيده التي ينتمي إليها في محافظة مأرب لكنه رحمه الله قد نال منها الحظ الأكبر فقد تسنم ذروتها وتربع على قمتها يشهد له بذلك الجم الغفير ممن عر! فه من العلماء والأدباء والزعماء والمؤرخين والسياسيين الذين عاصروه وخالطوه فلم يكن رحمه الله يترك عالماً أو داعية أو شخصاً ذا مكانة عالية ورأي سديد يستطيع الوصول إليه إلا وصل إليه أو دعاه إلى منزله واستمع إليه وتعلم منه وناقشه في الأمور العامة والخاصة .

وقد كان للعلماء منزلة كبيرة في نفسه وقلبه يحب مجالستهم ومناصرتهم والوقوف إلى جانبهم بماله ونفسه ورجاله ولم يكن يقدم عليهم أحداً ولا يقدم على آرائهم رأي في غالب أموره وشئونه وكان يتواضع لهم ويجلهم ويعرف لهم قدرهم ويحتقر نفسه أمامهم ويدافع عنهم إذا أراد أحداً النيل منهم بقلمه أو لسانه أو يده حتى بادلوه الحب والتقدير والإجلال فكان عندهم في المقام الأعلى والقدر الأسنى ومنهم رؤساء جامعات وقادة حركات وزعماء مؤسسات في العالم العربي والإسلامي بل وفي أمريكا وأوروبا من عرفه منهم أحبه ومن رآه انجذب إليه وقدره وأجله .

ولحبه للعلم والعلماء وكثرة مجالسته لهم واستماعه إلى خطبهم ومواعظهم ومحاضراتهم فقد أحب الدعوة إلى الله وشغف بها وبذل وتحمل في سبيلها الكثير والكثير من الجهد والمال والحال والرجال ، وكان يعمل على تشجيع الدعاه والعلماء من خارج المنطقة للقدوم إليها والاستقرار فيها لنشر العلم وتعليم الناس أمور دينهم وله في ذلك باع طويل وجهد عظيم أعلى الله به مقامه ورفع به قدره ومنزلته .

وكان له اهتماماً كبيراً بتنمية المنطقة تعليمياً وتربوياً فهو حسب علمي أول من طالب الحكومة بنشر التعليم العام وتأسيس المدارس قبل أن تبسط الحكومة نفوذها على المناطق الشرقية ( الشمالية سابقاً ) في أوائل السبعينات من القرن الماضي ، وعمل على استقدام أول مسئول للتربية والتعليم في المحافظة هو الأستاذ / محمد صالح جبر في محافظة شبوه وكان مقر الإدارة في منزل الشيخ علي بن مبخوت حيث لم يكن هناك أي مبنى في المحافظة يصلح لهذه المهمة ، وكانت أول مدرسة نشأت في قرية الشيخ علي هي مدرسة الفاروق حيث أقام المبنى من الطين على حسابه الخاص بعد أن أوقف لها أرضية كافية من أملاكه الخاصة واستقدم لها أربعة من المدرسين على حسابه الخاص اثنان منهم من حملة الشهادة الجامعية على ندرتهم في ذلك الوقت .

وكان إذا التقى بالمسئولين أو قابل أحداً منهم لم يكن له أي طلب سوى التعليم لقناعته الراسخة بأن التعليم هو حجر الزاوية في تنمية الأرض والإنسان ، وقد سعى لإنشاء ومدرستين حديثتين وثلاثة مساجد على حساب المملكة العربية وذلك عند مقابلته للملك فيصل بن عبد العزيز رحمه الله وهما أول مدرستين حديثتين بنيتا في المنطقة في السبعينات في القرن الماضي .

ومن صفاته المميزة أنه كان يحب الإصلاح بين الناس ويجتهد في ذلك كثيراً ويقدر مسئوليته نحو مجتمعه حيث كان من الشخصيات الكبيرة وفي المرجعيات المعتبرة في هذا المجال وكان له دور كبير في هذا المجال ويحقق نتائج مقدرة كونه يتمتع بالصدق والإخلاص والصبر والقدرة على جمع الأطراف المتنازعة وتقريب وجهات نظرهم بعقله الراجح وحكمته وحنكته وحسن محاورته ومداورته ولم يدخل بين طرفين متنازعين مصلحاً أو محكماً إلا أصلح شأنهم وأنهى نزاعهم في غالب أحواله معلنين رضاهم وتقديرهم لصنيعه .

ومن الصفات التي كان يتميز بها أيضاً المحافظة على الصلاة المفروضة وبعض النوافل بشكل ملفت للنظر بخلاف الكثير من أقرانه الذين هم أقل انشغالاً منه بقضايا الناس ومشاكلهم ، فقد كان رحمه الله لا يؤدي الصلاة المفروضة إلا جماعة في المسجد ويكون أول الناس حضوراً في غالب أحواله ويتلو القرآن بصفة منتظمة ومرتبة ومتتالية بين كل أذان وإقامة إضافة إلى ورد الصباح والمساء من القرآن والأدعية المأثورة ولا يترك ذلك إلا لضرورة قاهرة . وكان ذلك يضفي عليه هيبة ورقة وتواضعاً وجمالاً ونوراً يتلألأ في وجهه ولم يغير من فعله هذا إلا حين أدركه الضعف وغلبه المرض وللعلم أنه قضى نحبه وهو يستعد لصلاة الفجر في القاهرة بتاريخ 10 / 12 / 1997م عن عمر ناهز الثمانين عاماً ، وقد كان يعاني من مرض ألم به كان سبباً في وفاته عليه رحمه الله .

ومن الصفات النادرة والمميزة عنايته ورعايته وزيارته للأيتام والأرامل والضعفاء والفقراء الذين يقطنون مرابع قبيلته سواء كانوا من الأقرباء أو من غيرهم فلا يترك أحداً منهم إلا يهتم به ويحوطهم برعايته وعطفه يقوم بذلك سراً وجهراً ليلاً ونهاراً ماشياً وراكباً بكل تواضع وحب ورغبة فيما عند الله من الأجر والثواب ويحرص أكثر على فعله هذا في المناسبات والأعياد فيجالسهم ويخالطهم ويتواضع لهم ويتباسط معهم ويتعرف على أحوالهم وأوضاعهم ويدخل السرور إلى نفوسهم وقلوبهم ويقابل كل حالة من أحوالهم بما يناسبها مما جعل تلك الفئات تشعر بأنه المسئول عنهم والقائم على شئونهم وقد ظهر ذلك جلياً بعد موته في شدة حزنهم عليه وكثرة دعواتهم له لأنهم فقدوا من كانوا يعتبرونه المرجع الأساس في كل شئونهم وأحوالهم ويدخرونه لكل مهماتهم وملماتهم .

وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر ..

وقد كان يتمتع بروح شفافة تدرك باطنها من ظاهرها لا يحتاج المتطلع لمعرفته وسبر غوره إلى جهد كبير وزمن طويل وذلك إذا لمس الشيخ صدق المتحدث إليه وحسن مقصده ولكنه إذا شم رائحة الكذب والغدر والنفاق كان أبعد من النجوم منالاً وأعلى من الجبال علواً وارتفاعاً لا ينال منه الغادر بغية ولا الكذاب منيته يعينه على ذلك رعاية ربانية وفراسة إيمانية وتجربة حياتية متمثلاً قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه : ( لست بالخب ولا الخب يخدعني ) .

وكان يحب النظر والجمال في ملابسه وزينته وسلاحه وهيئته ومسكنه ومأكله ومشربه ، فملابسه بيضاء كلها في كل أحواله وسلاحه وأدواته كلها مرتبة ونظيفة توحي بنفس حضارية وذوق رفيع وحس مرهف من الطراز الممتاز .

وكان يحب إنجاز الأعمال دون تأخير ويفي بالمواعيد في أوقاتها المحددة ويتألم كثيراً إذا تأخر عن موعده أو تأخر عنه الطرف الآخر .

ولا يحب النوم بعد الفجر ويكرهه بعد العصر ويحب القيلولة والنوم مبكراً ، وكان يقوم الليل ولا يترك ذلك إلا في حالة الاضطرار أو المرض .

وكان نسابة من الطراز الممتاز يخبرك عن معظم أفراد القبائل المجاورة عن أصولهم ومراجعهم ومدى قربهم وبعدهم من بعضهم البعض في أنسابهم وعن عاداتهم وصفاتهم وما يحدثه التزاوج من بعضهم البعض فيهم من صفات الضعف والقوة مثل الشجاعة والإقدام والكرم والجبن والبخل وسداد الرأي أو انعدامه وجمال الخلقة أو دمامتها وضعف الشخصية أو نبوغها وبروزها يعزو ذلك كله إلى سبب من الأسباب الوراثية المقبولة المبنية على المعرفة الدقيقة والتحليل النفسي العميق .

والحق يقال بأنه كان شخصية فريدة متميزة في معظم أموره وأحواله جالس الملوك والأمراء والرؤساء والزعماء والعلماء فأحبوه وأجلوه وعرفوا قدره وأنزلوه لديهم مكاناً رفيعاً وقدراً عظيماً .

وقد كان يتمتع بقدر كبير من العفة والنزاهة والعزة فلم يمد يده إلى أحد من الزعماء والملوك والرؤساء كما يمدها غيره ولم يذل نفسه عند أحد فما أعطوه بدون طلب منه أخذه بعزة نفس وما منعوه تركه غير متألم ولا غضبان وهذه الصفة جعلته حراً عزيزاً شجاعاً يقول الحق أينما كان لا يخاف في الله لومة لائم لا يشعر بأن لأحد عليه منه أو فضل إلا الله وحده لا شريك له يشهد له بذلك الكثير من قادة البلاد وزعمائها من بقي منهم حياً أو تبعه إلى ربه وعلى رأسهم فخامة الأخ رئيس الجمهورية علي عبد الله صالح والأستاذ عبد العزيز عبد الغني والدكتور عبد الكريم الأرياني الذين تعاقبوا أكثر من مرة على رئاسة الوزراء وتعرفوا من خلال مناصبهم على الكثير من المشايخ والأعيان والشخصيات المؤثرة والمرموقة .

وكان عندهم محل اعتزاز وتقدير لما يتمتع به من صفات نادرة ونفس عالية وذوق رفيع .

هذا غيض من فيض من حياة هذا العلم الشامخ والشخصية الفذة الذي كان له في كل مجال من مجالات الحياة مشاركة وأثر سياسي واجتماعي وتربوي تحتاج إلى من هو أقدر مني للكتابة عنها وبيان مكنونها ودررها رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته وجعل في ذريته خير خلف لخير سلف . وللشاعر عبد الله إبراهيم الضحوي قصيدة في رثاء الفقيد قالها أثناء حضوره للعزاء مع ثلة من الشخصيات اليمنية وهي تعبر عن بعض صفات المرحوم ،

وهذه بعض ابياته

  دعا الله الكريم علي العراده       فلباه على وفق الإراده
  دعاه إلى جنان الخلد مثوى       فكان ختامه حسن العباده
  توفي وهو يتوضأ لفجر       طهور الروح في ثوب الزهاده
  فيا ما نال من خير وفير       من الأزمان قد بسط امتداده
  وإكراماً له حقنت دماء       وهذا كان في الدنيا مراده
  فكم في الصلح قد حث المساعي       وكم في الصلح قد بذل اجتهاده
  وكم في الصلح من جهد ومال       سخى فيه وكم أجرى مداده
  فوا لهفي على شيخ مهيب         رفيع المجد من منذ الولاده
  نقي القلب محمود السجايا       برب الكون قد قوى اعتماده
  شمائله الحميدة ليس تحصى       كأن شرابه منها وزاده
  له في كل مكرمة مجال       تحق له التجلة والإشاده
  وتهواه المفاخر والمعالي         ويهواها فيها الرياده
  نأى عنا فأوحش كل ربع       وأضحى مأرب يبكي افتقاده
  فهذا الكون مكتئب حزين       يعاني من رؤى الخطب اشتداده
  وأمسى كل قلب في انتحاب       وقد سلب الأسى عنه رقاده
  مصاب وقعه وقع أليم       يكاد يهز في بلدي جماده
  وقد عم الأسى سهلاً ونجداً       وقد شمل الأسى شعباً وقاده
  عليه رحمة الرحمن تترى       وتسقي في الثرى أبداً مهاده
  وضمخ قبره المولى بعفو       ورضوان وموفور السعاده
  وصبراً آله الأعلين صبراً       فإن الكل مرتقب معاده
  ومن ثغر الحديدة قد وصلنا       وكل بالعزى أملا فؤاده
  لمبخوت ومبخوت منار       وبعد أبيه في يده القياده
  وتعزية لكل الأهل طراً         ب حب نحوهم ألقى قياده
  وصلى الله ربي كل حين       على المختار نبراس السعاده
  وآل حبهم فرض علينا       وهم للدين والإسلام زاده