|
تمر الذكرى السابعة لاغتيال القيادي اليمني البارز جار الله عمر- 28/12/2002- تاركة خلفها فراغا لم يستطع أن يشغله أحد, ويمنا تعيش أعوامها بأفضل مما سيأتي وليس بأفضل مما مضى.
معظمنا, إلّم يكن جميعنا, يتذكر الطريقة والأسلوب اللذان أزهقا روح جار الله عمر, بتلك الصورة التراجيدية التي كان التاريخ والمكان شاهدين عليها, ولست في صدد تذكر الرصاصة التي أطفأت واحدا من أعمدة النور في أرض اليمن التعيسة, لكني في صدد المواساة لواحدة من أهم محطات الذكريات, للجميع ومن أجل الجميع.
كان جار الله عقلية سياسية نوعية ومغايرة, له القدرة النادرة في التخطيط لأهداف إستراتيجية بعيدة المدى وفق رؤى خلاقة وعميقة تستطيع استقراء مجاهل المستقبل وتعقيدات الحاضر واستلهام الدروس من الماضي والنظر نحو الأمام بعين فاحصة وبحذر شديد.
وما زلت أتذكر صوت الـ"بي بي سي" عن مقتل الرجل "الذي يشار إليه بالبنان", وكان قتله حينها بدم بارد وبأسلوب بشع للغاية, تم المجاهرة به أمام عدسات النقل الفضائي المباشر, هذا الرجل الذي يشار إليه هو جار الله عمر الذي هندس اللقاء المشترك ولم يستطع خلفاؤه السير به بنفس الزخم الذي كان من المفترض أن يتمتع به. قتل الرجل وقتلت هندسته التي قيل إنها كانت تشكل خطرا ما.
ولا أستطيع اليوم أن أشير بالبنان لأي شخص سياسي بحجم ومستوى جار الله عمر, لكننا لم نستطع أن نحافظ على هذه المنارة؛ لأنا في يمن المليون عقيد, ويمن المليون حرب, ويمن الملايين والملايين التي ننفرد بها دون سوانا.
إننا نأتي لنقرأ تاريخ الرجل فنجد أنه التحق بصفوف حركة القوميين العرب عام 1960, وشارك في الدفاع عن العاصمة صنعاء أثناء حصار السبعين يوماً, كما كان من مؤسسي الحزب الديمقراطي الثوري اليمني وعضو في اللجنة المركزية للحزب في مؤتمره الأول عام 1968, ومن مؤسسي الحزب الاشتراكي اليمني في مؤتمره التأسيسي 14 أكتوبر 1978, وعضواً في المكتب السياسي للحزب الاشتراكي منذ مؤتمره الأول, وكان من أبرز الشخصيات التي شاركت في الحوارات السياسية بين الأحزاب اليمنية خلال الفترة الانتقالية 1990 ـ 1993, وتسنم وزارة الثقافة والسياحة 1993.
ويعد جار الله عمر من المساهمين الأساسيين في صياغة وثيقة العهد والاتفاق وأحد الموقعين عليها في عمان عام 1994, كما كان من أبرز الشخصيات التي حاولت منع قيام حرب صيف 1994, لولا أنها حدثت.
وقام الراحل في تأصيل نشاطه الحواري مع الأحزاب السياسية اليمنية من أجل ترسيخ العملية الديمقراطية وإزالة آثار حرب صيف 1994, وهو ما أدى إلى تأسيس مجلس التنسيق وأخيراً اللقاء المشترك الذي يضم عدداً من أحزاب المعارضة بينها حزب التجمع اليمني للإصلاح والاشتراكي اليمني الذي انتخب أميناً عاماً مساعداً له في دورته الثانية عام 2000.
وحين نأتي لنقرأ في سجله الأدبي, نجده عضوا في اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين, أسهم في كتابة تاريخ الثورة اليمنية من خلال مشاركته في الندوات وكتابة المقالات عن تاريخ الثورة اليمنية ومن خلال كتابه عن حصار السبعين يوماً الذي صدر في عام 1982.
واليوم, أضحينا, وعلى حين غرة, دون هذا الطود الذي تمر ذكرى اغتياله الكبيرة, والوطن اليمني لم يعرف معنى المعارضة الصحيحة ولا الحكم الرشيد, ولا العقلية الحكيمة التي ينسب إليها مثل "الحكمة اليمانية". تمر الذكرى مرورا حزينا, لم يأبه بها أحد لحجم الشواغل التي هي بحجم هذا الوطن. تمر كأن جار الله لم يكن يوما من الأيام طودا عظيما ولا فكرا نيرا, ولا كأنه إنسان لم يستطع إكمال حياته التي بدأها كما يستطيع أن يكملها الكثيرون, ولا كأن هذه الحياة اُنتزعت منه بدافع من هنا أو هناك.
لنتخيل, ما موقف جار الله مما يدور في صعدة, وما موقفه مما يجري في الجنوب, وما موقفه مما يجري داخل اللقاء المشترك, وما موقفه مما جرى مؤخرا وسيجري, من حرب معلنة, تواترت حولها التحليلات المخيفة, ضد تنظيم القاعدة؟.
ولا أقول إن هذا الرجل كان يملك عصا سحرية, ولكنه كان يملك الحكمة الكافية لأن تكون لها بصماتها الواضحة والمؤثرة والتي قد تؤدي إلى حل أو بعض الحلول, في هذه المشكلة أو تلك, وهذه الحكمة لا أقول أيضا إنها تأبى التواجد في عقول هامات يمنية كثيرة غيره, لكن هذه الهامات نفسها لا تجد من يحميها, ولا تستطيع أن تضع حكمتها في الدرب الصحيح.
فما أسهل الموت في أرضنا, بل ما أسهل إزهاق الأرواح, ومن أبسط الأشياء في اليمن أيضا أن يكلف أحد ما بقتل أحدا آخر, إما علنا بدافع المعتقد, وإما سرا كما جرت العادة.
لست راضيا أن يذهب جار الله عمر بهذه السهولة, ليس لأنه في هذا الحزب أو ذاك, فلم أعرف في تجربتي الصغيرة أي انتماء حزبي غير الانتماء الطبيعي لهذا الوطن, بل لأنه رجل متفان ومن العيار الثقيل, كما أنني لست راضيا أن تظل هذه اليمن تأكل أبناءها دون أي سبب, مع أنها لو كانت تعي حقا لمنعت تجار الحروب من بعض الوشايات, ولمنعت بعض الشطحات من عشق الجنون, ولو فعلت ذلك, لكان مثل هؤلاء أول العظماء الذين سيذودون عن أرضهم ووطنهم بوطنيتهم التي تشربوها مخلوطة بمعين الفكر الناضج والثقافة الحقة, ولكانوا حماة لها من أي انزلاق أو تآمر أو وشاية, لكنها ارتكبت ذلك لمكاسب فورية تنقضي بانقضاء رياح الشرق أو الشمال.
أنني اليوم وغير واحد, أسيفون لذاك الرحيل المفاجئ, والموت المر, والأسلوب الشنيع الذي تسلق إلى هذا الذي كان يشار إليه بالبنان, وليس لنا من أسفنا إلا مجرد الذكرى, لكن الراحل, ووفقا لصفاته الخلاقة, لم يكن ليرضى بهذا الحزن أو التباكي على أطلال الذكريات, بل إن نفسه المشعة ببريق التقدم تدعونا إلى البدائل الإيجابية في عصر لا قابلية فيه لغير الصالحين, وليس الأقوياء, علما أن الأقوياء استمدوا قوتهم الحقيقية من مبدأ الصلاح, في عالم التطور والحداثة لا عالم القرون الوسطى, والجاهلية.
وليس لي إلا دعوة كل القوى الوطنية والتقدمية إلى أن تحث خطاها لمزيد من العمل المنظم والسير في نهج الخطى الوطيدة التي كان الراحل يختطها كمبدأ سلس ومغاير وقادر على كسر الحواجز والدخول إلى خضم أي تنافس شريف, أو فليجعله شريفا, بشرف الهمة التي يحملها. مبدأ يضع اليمن نصب عينه, والوطن وجدانه النابض بالحياة الجميلة.
وليس لي إلا أن أشد على قوى الحداثة والتقدم, وهي متوارية عن الأنظار, على أن تكف عن تراجعها وتخفيها المهول لصالح القوى التقليدية في انهزام فضيع لم تشهده هذه القوى منذ أن نشأت, إذ لا يحتاج التقدم منها إلا اعتماد مبدأ الثبات, والعقلية النافذة, فالواقع, رغم الآلام, مؤهل لإعادة العجلة إلى دورانها الصحيح, وإعادة الروح إلى جسده المثخن بكل شيء, والواقع هنا لا يحتاج إلى تلك التضحيات الكبيرة التي أصبحت في متحف الذكريات, فالوقت تغير لصالح تضحيات أقل وإصرار أكبر, تقوم به نفوس تواقة للفجر, ومشرئبة نحو التغيير بالوسائل العصرية, وبعناصر الكفاح المتغيرة, والنضال غير المرئي, والصوت غير المسبب للضجيج.
nashwanalothmani@hotmail.com
في الإثنين 28 ديسمبر-كانون الأول 2009 09:28:06 م