هوىً إسلامي وهوايات ليبرالية (1-2)
بقلم/ اسكندر شاهر
نشر منذ: 17 سنة و شهرين و 24 يوماً
الخميس 23 أغسطس-آب 2007 08:00 م

مأرب برس - خاص

قُدر لي أن أزور القاهرة في صيف العام 2000م ، وخيرُ ما قُدر لي فيها زيارة أوابدها الفرعونية الآسرة ، والتي منها –بلا شك- أهرامات الجيزة التي لا تزال شاهد على تلك العصور العجائبية ، ولكني وجدتُ خيراً منها أن ُقدر لي لقاء أهرامات بشرية حية هي بمثابة مشاريع لأهرامات حديثة لم يُسمح لها أن تنتقل من الاستعداد إلى الإعداد - وبعبارة فلسفية- من القوة إلى الفعل . فكلما تأهبت لذلك الانتقال هبت رياح التفخيخ ، تارة بديباجة "إسلاموية" وأخرى بلحن "ليبرالوي" ، وبين هذه وتلك نفحات السلطان المريض وتعويذات الوعاظ المشعوذين .

من الأهرامات الحية التي وُفقت إلى لقائها وزيارتها المفكر والكاتب الإسلامي جمال البنا الشقيق الأصغر للإمام الأخواني المؤسس حسن البنا .

وما كان لتلك الزيارة أن تتم لولا صحبة الصديق الناشط السياسي والمدني اليمني الأستاذ عبد الرقيب منصور والذي يحلو لي وصفه بـ "الموسوعة القاهرية" . فمثله يدل على الكنوز ، وليس كمثل غيره –وهم كثُر- تجدهم كما الغراب يدل على الخراب .

زرتُ المفكر البنا في منزله في حي بسيط من أحياء القاهرة وهو في حقيقة الأمر عبارة عن مكتبة عامة عامرة اتخذت شكلاً مصغراً . فمنذ دخول عتبته تلفحك نسائم الفكر الذي اختلط قديمه بحديثه وأصيله بمعاصره . بحيث يبدو الكتاب هو مالك تلك الشقة الحقيقي وهو ساكنها الفعلي .

استقبلنا الأستاذ المفكر جمال البنا ببساطة المصري وتواضع العالم وحياء الزاهد وكرم العربي ونقاء المؤمن .

أحاديث كثيرة تبادلناها وأفدنا منه الكثير وأتذكر أنه فاجأني –والمفاجأة هنا تعود لوقتها فلم أعد أقع تحت تأثير أية مفاجأة - برأيه المنفتح في مسألة "زواج المتعة" وقناعته بمشروعيتها من خلال ما تكتنفه من معالجات دنيوية ودينية في آن معاً وعديد قضايا أخرى مثيرة للجدل.

وربما النقاش في تلك المسألة التي كنت أبحثها في ذلك الوقت وغيرها قد هيأ المناسبة لأن يهديني الأستاذ البنا أحد كتبه وهو بعنوان "مسؤولية فشل الدولة الإسلامية في العصر الحديث" . وأعتز بهذا الكتاب الذي خصني فيه بإهدائه وتوقيعه واعتز بحضوره في مكتبتي التي تستحي لقلة ما ارتدت ، ومن المثير وغير المثير للدهشة هو أن هذا الكتاب مُنع ردحاً من الزمن ولا أدري إن كان السلطان قد فك أسره فيما بعد .

يناقش المؤلف في طيات كتابه أسباب سقوط الخلافة الإسلامية ودواعي فشل الدولة الإسلامية في العصر الحديث – وهي مناسبة جيدة أن نناقش الموضوع في هذه الأيام التي تم فيها إحياء الذكرى الـ 86 لسقوط الخلافة العثمانية ، من خلال ما يسمى بحزب التحرير الإسلامي – (مؤسس الحزب المتوفى "تقي الدين النبهاني" -1909- 1977-، وخليفته "عبد القديم زلوم") ، ولا أدري تحرير من ممن؟!- وأحسبه تحرير المسلمين من التخلف الذي هم فيه بالخلافة التي كانت سبب تخلفهم –وهذا لا يعني بالضرورة أني مع "الأتاتوركية الكمالية" ولكني بالتأكيد لست مع تخلف خلافات القمع والاستبداد والكبت والنكوص منذ انقلبت على عقبيها ، وأن تكون ثمة مأثرة للخلافة الأموية أو العباسية أو العثمانية لا يعني ذلك بأنها قد بيضت وجه الإسلام الذي حكمت باسمه وبامتداداته التاريخية والعقائدية وبإرث دولة المدينة التي شوهها الوعاظ المأجورون عبر التاريخ . وبالتالي لا ترقى لأن تكون مادة للاسترجاع التي يراهن عليها هؤلاء التحريريون الجدد والذين لم يستحوا حتى من مصطلحاتهم المهترئة ويريدون اليمن ولاية ولبنان ولاية والأردن وباكستان وغيرها لدولة افتراضية عدمية ربما يريدونها في أندونيسيا التي تجمّع فيها ما يقارب ال80 ألف نسمة لإحياء الخلافة الإسلامية ، فقد صُعب إحياؤها مجدداً في عاصمة الدولة العثمانية "الآستانه" ، فلن يكون من السهل على الإسلاميين الأتراك الذين حققوا فوزاً كاسحاً بمشروعهم العصري ذي الهوى الإسلامي والهوايات الليبرالية أن يُغامر بنجاحه بكل سهولة كما يفعل الإسلاميون العرب بأحزابهم وتجمعاتهم وحتى جمعياتهم الخيرية ، ولا يفوتني هنا التنويه إلى مشكلة "النِسب" التي نجدها تقفز في كل صغيرة وكبيرة في حياتنا خاصة التنظيرية منها فمثلاً يقول أحدهم "الليبراليون ملح الدنيا" ، وهذا لا يمنع بل يشجع آخراً ليقول : و"الإسلاميون ماء الحياة" ، ولا شك أننا بحاجة للملح والماء وتبقى المشكلة الحقيقية في "النسب" وعلى هذا المثال تقاس كثير من الطروحات الإشكالية التي تختصر علاجها كلمة "التوفيق" غير أن هذا العلاج من دون طبيب ماهر ومتمرس لن يجدي نفعاً وهذا ما يدفعنا مرة أخرى إلى قراءة التجربة التركية الحديثة التي تضعنا في هذا الجو برغم ضباية أجواء القرية الكونية وارتفاع درجة حرارة الأرض واتساع ثقب الأوزون ومقتل الزرقاوي وفوز المنتخب العراقي وخروج اليمنيين في "ثورة الجياع" في الداخل و(الخارج) ، واستقالة بلير وتوقف ساعة بيج بن ، و....إلخ .

يقول المفكر جمال البنا بعد أن يلفت إلى استبعاد التآمر الخارجي من أسباب فشل مشروع الدولة الإسلامية في العصر الحديث : "ولكنه فشل لأن إيمان ومشاركة القاعدة-وهو هنا لا يعني تنظيم "القاعدة" الإرهابي- ، وإنما البُنى القاعدية/الجمهور وإن كان يحمي المشروع من التآمر الخارجي إلا أنه لا يكفل بالضرورة النجاح للمشروع ، لأن من المحتمل أن لا يكون هذا الإيمان سليماً رشيداً" .

ثم يستعرض المؤلف أسباب الفشل بمناقشة عن أصولية الدولة الإسلامية وما طعن فيها وهذا بحث طويل لستُ بصدده الآن ، إلى أن يصل إلى أن "الإسلام في سلطنة آل عثمان كان رمزاً أكثر مما كان حقيقة" وأن "الدولة الإسلامية حقاً لم تدم سوى أربعين عاماً عشر منها دولة النبوة وثلاثون دولة الخلافة ، ولكن هذه المدة القصيرة كانت من القوة بحيث وضعت تقاليد وأرست أسساً وبنت نموذجاً لألف عام بنسب متفاوتة ، وظلت تتآكل مع الزمن حتى انعدمت كلية في العقود الأولى للقرن العشرين ، وكان إلغاء الخلافة الرسمي تحصيل حاصل" (1) .

والحال ان ذلك التآكل الذي كان يعتمل مع مرور الزمن هو أيضاً نتيجة لخطأ عضوي بنيوي داخل النظرية /الدولة الإسلامية ، جاء "الملك العضوض" ليبرزه في صورة مُباينة للخلافة الراشدية ، وهو ما اعتبر النموذج المنحرف عن مبادئ ومثل الدولة الإسلامية ، وأن الدولة ظلت مزدهرة في الانحراف –كدولة- تآكلت فيها مقومات الدولة الإسلامية ، ولكن الباقي كان يكفي لاستمرار "الدولة" استمراراً زمنياً دون أن يحمل الاستمرار شيئاً من التطور النوعي بقدر ما كان يُفاقم أسباب السقوط والانهيار الذي يُسجل كنهاية طبيعية وحتمية .

وهي الدولة التي يصفها المفكر د.محمد عابد الجابري بـ"دولة السياسية" في الإسلام ويقول:"حكم معاوية باسم (القبيلة) وليس باسم (العقيدة) فانفصل في شخصه (الأمير) عن (العالم) ، وامتد ذلك إلى أجهزة الدولة فصار (الأمراء) فريقاً و(العلماء) فريقاً آخر" (2).

توصل الأستاذ البنّا بعد عرضه لعدد من التجارب أو دعوات الدولة الإسلامية إلى أن الفشل يكمن في "عدم تقديم الرؤية السليمة للدولة الإسلامية التي تميزها عن غيرها وتتضمن مقومات النجاح" وما أراه مناسباً للانتقال إلى التجربة التركية الحديثة من استنتاجات المفكر البنا هو أن الفقهاء عالجوا الدولة من المنظور الفقهي –حفظ الدين بوصفه مقصد من مقاصد الشريعة- وليس من المنظور السياسي ، تدحرج هذا الفهم باتجاه انحساري وصولاً إلى "الفهم السائد في الدعوات الإسلامية المعاصرة للدولة الإسلامية ، أنها الدولة التي تقيم الصلوات وتقاوم الإلحاد والبدع التي يدخل فيها تبرج النساء وشيوع الفنون" هذا تاريخياً ، وأما من الناحية الأصولية هو أن "حفظ الدين لا يدخل في (الشريعة) ، ولكن في (العقيدة) ، لأن الشريعة إنما تخص المجالات السياسية والاجتماعية والاقتصادية ، وما يتصل بالناس وعلاقاتهم ببعضهم البعض" ، وفي الناحية العملية فإن الدولة هي أعجز الهيئات والمنظمات في مجال العقيدة/ماله علاقة بالله ، فما قامت العقائد بالسيف ولا تبقى بالسيف ، وإنما تقوم بالإيمان وتزدهر في مناخ الحرية وتبقى وتتأصل في النفوس بحكم صلاحيتها الموضوعية وأنها تمثل قيم الحب والخير والجمال والعدل والحرية والتعايش (3) .

وأحسب أن مسألة "إعادة إنتاج الأفكار والنظريات" ستكون بمثابة قطب رحى في هذا الموضوع الذي سأحاول أن آتي على ذكر أهم النقاط التي من المفيد ذكرها في إطار مناقشة التجربة التركية الحديثة وأعني تحديداً "حزب العدالة والتنمية" الذي وضعه انتصاره ونجاحاته الكبيرة في زمن قياسي في واجهة التجارب الحية التي تشخُص إليها الأنظار ويجتمع على مغازلتها والتغني بها "الإسلاميون" و"الليبراليون" في آن معاً وأستبعد منهما "الإسلامويون" بمن يمثلهم من سلفيي السنة والشيعة بتكفيرييهم وأصولييهم وإرهابييهم ومن لف لفهم ، كما أستبعد "الليبرالويون" الذين يقعون تحت تأثير الانبهار الأعمى بالتجارب الغربية وأولئك الذين ينطبق عليهم قول أبي نواس الحسن بن هانئ : "حفظت شيئاً وغابت عنك أشياءُ " .

ويرى الأستاذ جمال البنا أنه "من الأسباب التي أدت إلى العجز عن تقديم الرؤية المنشودة للدولة الإسلامية أن بعض الذين قدموا هذه الرؤية كانوا من الفقهاء الذين لم يكن أمامهم مفر من الالتزام بالتصور الفقهي" . ويلخص التحديات أمام الدولة الإسلامية بـ(كرامة الإنسان ، قضية الحرية، العدل ، المرأة ، الفنون والآداب) وهو في قضية المرأة وحجابها-على سبيل المثال-يقول :"إن الحديث المتكرر عن الحجاب والأهمية المزعومة التي تُعطى له هي من باب الطفولية الفكرية والتشنج الذهني وأنها من أكبر عوامل تخلف المجتمع الإسلامي وتشويه صورته" . والسؤال المطروح هنا .. هل يا ترى بعد أن يئس الأستاذ البنا وأنا معه في يأسه من الحركات والجماعات والأحزاب الإسلامية العربية ومن إمكان تبنيها مشروع دولة أو حزب يصل إلى سدة الحكم وينجح في ممارسة الحكم الممارسة العصرية الحديثة كما فعل حزب العدالة والتنمية التركي سنرزح تحت وطأة "الفراغ النظري المؤسسي إسلامياً عربياً" إلى أجل غير مسمى فيركن نشطاء الإسلام الحقيقيون إلى غلبة السلطان المفروض بالقوة ، أم أننا ربما نجد في التجربة التركية الحديثة مادةً لعزائنا وحائطاً لمبكانا وحسناء نتسابق إلى كسب ودها ومغازلتها ، هذا ما سنسبر بعضاً من أغواره في الحلقة المقبلة التي سنتابع فيها مع أستاذنا الكبير جمال البنا وقراءته الأخيرة لتجربة تركيا الحديثة ، والفوز الجديد لحزب العدالة والتنمية بهواه الإسلامي وهواياته الليبرالية .

(1) 
جمال البنا، مسؤولية فشل الدولة الإسلامية ، القاهرة، دار الطباعة الحديثة.

(2) 
د.محمد عابد الجابري ، العقل السياسي العربي،ط5،بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية،2004م.

(3) 
جمال البنا ،المرجع السابق.

* باحث وكاتب صحافي يمني

  eskandarsh@yahoo.com