الحشاشون الجدد
بقلم/ د. محمد جميح
نشر منذ: 12 سنة و 10 أشهر و 14 يوماً
الثلاثاء 03 يناير-كانون الثاني 2012 05:42 م

يتفق قدر كبير من المؤرخين على أن حركة «الحشاشين» التي نشأت أولا في جبال الديلم، شمال إيران، وانتقلت إلى أجزاء من بلاد الشام، كانت حركة تنتسب إلى التشيع، وإن ضمت إليه أخلاطا من ثقافات بلاد ما وراء النهرين. وهي أول حركة تلجأ إلى العنف والاغتيال وترهيب الخصوم لتحقيق مآرب اقتصادية وسلطوية، وقد اشتد بطشها بخصومها السياسيين والعسكريين خلال الفترتين السلجوقية والأيوبية حتى قضى عليها الظاهر بيبرس. وقد كان عهدهم عهد فتن واضطرابات في بقاع كثيرة من العالم الإسلامي، وكان زعيمهم الحسن بن صباح يأمر باغتيال كل من يقف في طريقه أو يخاصمه، وهو مؤسس ومالك قلعة «الموت» في جنوب بحر قزوين. يقول الرحالة الإيطالي ماركو بولو، عن الحسن بن صباح، إنه كان يأمر أتباعه «أن يغتالوا من يريده شيخ الجبل من أعدائه، وجزاؤهم على ذلك الخلود في جنة الإمام.. حتى أصبح الناس يخشونهم، خاصة الحكام والوزراء» (نقلا عن كتاب «الإباضية» للدكتور صابر طعيمة).

وقد بلغت شهرة «الحشاشين» أن دخل اسمهم معظم اللغات الأوروبية، فلم يحل القرن الثالث عشر حتى كانت كلمة «حشاشين Assasin » قد دخلت معظم اللغات الأوروبية بمعنى «القاتل المحترف المأجور» حتى إن دانتي، في إشارة عابرة له في النشيد التاسع عشر من «الجحيم»، يشير إلى «الحشاش»، ويفسر فرانشسكو دابوتي، شارح دانتي، في القرن الرابع عشر مفردة «الحشاش» بقوله: «الحشاش هو الذي يقتل الآخرين مقابل أجر». ومن كلمة Assasin اشتق فعل assassinate في اللغة الإنجليزية، بمعنى «اغتال».

يقول برنارد لويس: «ومنذ ذلك الحين أصبحت كلمة حشاشين Assasin اسما شائعا في معظم اللغات الأوروبية، وتعني الذي يقتل خلسة أو غدرا، وغالبا ما تكون ضحيته شخصية عامة وهدفه التعصب (الديني) أو الجشع». («الحشاشون.. فرقة ثورية في تاريخ الإسلام»، ترجمة محمد العزب موسى ومنشورات مكتبة مدبولي). وعلى الرغم من الاختلاف في عقائد الحشاشين فإن الراجح أنهم تفرعوا عن خليط من العقائد الشيعية، مضافا إليه قدر غير قليل من ثقافات فارسية تميل إلى إضفاء القداسة على قادتهم الدينيين والسياسيين.

وقد أطلق على «الحشاشين» هذا الاسم نظرا لما كان شائعا عنهم من تعاطي الحشيش والاتجار فيه لتمويل عملياتهم التي يقومون بها حسب بعض المصادر التاريخية.

ويوصف أمير هذه الفرقة بأنه يسكن في مكان شديد التحصين ولا يدخل إليه أحد إلا عبر إجراءات معقدة حتى لا يعرف بالتحديد مكانه. ويشير برنارد لويس إلى طرائقهم في الاغتيالات السياسية بأن أميرهم إذا أغاظه أو أغضبه أمير من الأمراء فإنه لا يلبث أن يأمر واحدا أو جماعة منهم باغتياله، بأن يعطي خنجرا ويخرج المكلف بالاغتيال لأداء المهمة مهما كانت صعوبتها أو نتائجها. وقد اغتالوا بهذه الطريقة عددا كبيرا من الأمراء من المسلمين وبعض الصليبيين على الرغم من أن تركيزهم كان منصبا على قتل الأمراء المسلمين السنة من السلاجقة لأسباب طائفية شيعية وأخرى قومية فارسية، وثالثة مادية. وقد بلغت طاعتهم لسيدهم «شيخ الجبل» مضرب المثل، حتى إن شعراء التروبادور الإسبان كان يقول أحدهم لمحبوبته: «إنكِ تسيطرين عليَّ أكثر مما يسيطر أمير الحشاشين بسحره على تابعه الذي يبعثه لاغتيال أعدائه».

اللافت في الأمر أن هناك جماعات معاصرة تحاول استلهام منهج «الحشاشين» في التطرف والإرهاب والثورة على النظام القائم، والعنف الطائفي، بل والعلاقات الوثيقة مع شركات غسيل أموال المخدرات.

وقد ذكر تقرير نشرته صحيفة «نيويورك تايمز» مؤخرا أن دعوى قضائية مدنية تستهدف فرض عقوبات مالية على شركات أميركية ولبنانية تتهمها الحكومة الأميركية بأنها دعمت شبكة عالمية يسيطر عليها حزب الله؛ حيث قامت هذه الشركات بغسل مبالغ ضخمة من المال أشير إليها باسم «الأموال القذرة» ممثلة في عائدات تجارة مخدرات خاصة بعصابات كوكايين في أميركا الجنوبية. وليست هذه هي المرة الأولى التي يرد فيها اسم حزب الله مرتبطا بالاتجار بالمخدرات وليس مرتبطا بالله أو القيم أو المقاومة، وهي المفردات التي دأب الحزب على تكريسها إعلاميا في ذهن الجمهور العربي الذي أفاق مؤخرا من غفوته على وقع صرخات «المقاوم» حسن نصر الله وهو يستنفر لنجدة نظام زميله في الولاء لإيران بشار الأسد.

عشرات القصص هنا وهناك وردت عن حزب الله والحرس الثوري الإيراني مرتبطين بتجارة المخدرات في أماكن كثيرة في العالم في أفريقيا وأميركا اللاتينية وغيرهما. ومن القصص الطريفة التي ذاعت أنه في ثمانينات القرن العشرين، كان رئيس المحاكم الثورية الإيرانية، آية الله صادق خلخالي، معروفا بتشدده في إنزال العقوبات وتنفيذ أحكام الإعدام بحق تجار المخدرات الإيرانيين، لكن المفاجأة تمثلت في أن رئيس الجمهورية آنذاك حسن بني صدر قام بزيارة لمخازن المخدرات المصادرة ليجدها فارغة، وعندما سأل الرئيس خلخالي عنها أجاب ببساطة: «من أين تريدنا أن نأتي لك بالسلاح لكي تقاتل العراق؟». هذا فيما يبدو ما لجأ إليه حزب الله خلال تاريخ طويل من العلاقة بين الحزب وعدد من الشركات التي أسهمت في غسيل أموال المخدرات لصالح الحزب، خاصة بعد اشتداد الضغط المالي على الحزب نتيجة العقوبات الاقتصادية على إيران.

وتؤكد الكثير من التقارير والتصريحات التي نشرت خلال السنوات القليلة الماضية ضلوع حزب الله في الاتجار بالمخدرات، مستعينا بفئة كبيرة من المغتربين اللبنانيين الشيعة الموجودين في أميركا الجنوبية وأفريقيا بشكل رئيسي، وذلك لخدمة مصالحه وتسهيل عملياته لوجيستيا على الأقل. ففي ديسمبر (كانون الأول) 2006، قامت وزارة الخزانة الأميركية بإدراج المدعو صبحي فياض كـ«إرهابي مصنف» وهو من كبار مسؤولي حزب الله في منطقة الحدود الثلاثية (الأرجنتين والبرازيل وباراغواي)، وقد خدم كضابط اتصال بين السفارة الإيرانية ومؤيدين لحزب الله في تلك المنطقة. كما ألقي القبض على المدعو فايد بيضون، وهو شيعي من أنصار حزب الله، معروف باسم «ميغال غارسيا» في مطار ميامي الدولي، كان يعمل على تهريب كميات من الكوكايين يعود ريعها لصالح حزب الله. وفي مارس (آذار) 2009 أدلى الأدميرال جيمس ستافريدس بشهادة أمام لجنة القوات المسلحة في مجلس النواب الأميركي عن الخطر الذي يتهدد الولايات المتحدة جراء الصلة بين الاتجار غير المشروع بالمخدرات وحزب الله. وفي يونيو (حزيران) 2005، صدر تقرير مقتضب عن شرطة الإكوادور أنها فككت عصابة دولية للمخدرات وجمع الأموال تعمل لصالح حزب الله. وقالت الشرطة إن تلك العصابة كانت ترسل 70% من أرباحها لحزب الله. (تنشط حركة الاتجار بالمخدرات كذلك في جنوب العراق؛ حيث يقوم الحشاشون الجدد بإغراق السوق العراقية بها من إيران، كما تنشط في المنطقة الحدودية بين اليمن والسعودية بعد سيطرة الحوثيين على محافظة صعدة في اليمن، وهناك أنباء عن علاقات لمسؤولين ميدانيين في حركة الحوثي بكبار مهربي المخدرات هناك).

من خلال السرد المذكور تتضح أوجه التشابه بشكل كبير بين الحشاشين الجدد والقدماء، ذلك التشابه المتمثل في الارتباط الوثيق بإيران التي يرتبط بها اليوم الحشاشون الجدد في اليمن والعراق ولبنان، وكذا في استخدام أساليب الاغتيالات السياسية، ولعل جريمة اغتيال رئيس وزراء لبنان الأسبق رفيق الحريري مجرد مثال على عشرات الاغتيالات التي تمت في لبنان وغيره؛ حيث تتهم عناصر من حزب الله بتنفيذ الجريمة (نفذ الحوثيون كذلك عشرات الاغتيالات السياسية ضد مسؤولين وأعيان في محافظة صعدة وغيرها، والأمر ذاته طال خيرة أدمغة العراق العلمية والفكرية والسياسية في تشابه عجيب بين هذه الحركات الأصولية في التفكير وأساليب الأداء)، كما أن الإجراءات الأمنية التي يحيط بها أتباع زعيم حزب الله في لبنان تشبه إلى حد كبير الإجراءات المذكورة آنفا حول مقر «شيخ الجبل» في تاريخ الحشاشين (يحاول زعيم الحوثيين أن يسير على خطى زعيم حزب الله في التعمية والإجراءات الأمنية المتبعة لحمايته، كما أن زعيم فرق الموت في العراق قد اختبأ سنوات ليظهر في أحد سراديب قم).

ومن أوجه التشابه أن الحشاشين القدماء كانوا يعمدون إلى قتال الصليبيين في بعض الأحيان؛ وذلك للتغطية على هدفهم الحقيقي الكامن وراء تنظيمهم ألا وهو استهداف خصومهم من المسلمين سواء السلاجقة أو الأيوبيين، ويرفع القابعون في سراديب الضاحية الجنوبية والقابعون في كهوف الجبال في صعدة ومن ورائهم إيران شعار مقاومة «قوى الاستكبار العالمي الأميركي - الإسرائيلي» في الوقت الذي يقتلون فيه المسلمين الأبرياء في اليمن ولبنان والعراق في تشابه كبير بين أساليب هذه الحركات. وكما استعمل «الحشاشون القدماء» الإرهاب لتحقيق أهداف سياسية درج «الحشاشون الجدد» على المنوال ذاته بترويع الخصوم وإرهابهم، وإذا كان المؤرخون قد ذكروا أن «الناس كانوا يخشون الحشاشين قديما، خاصة الوزراء»، فيا ترى كم من الوزراء يخشون «الحشاشين الجدد» في بيروت وبغداد وغيرهما من المدن العربية؟ وقبل ذلك وبعده فإن تهمة الاتجار بالمخدرات تعتبر الجامع الرئيسي لهذه الجماعات التي يبدو أنها تعتمد عليها لتمويل العمليات الإرهابية التي تقوم بتنفيذها هنا وهناك.