|
إن أعظم صفة ذات طابع آني تصف قدرة الله تبارك وتعالى في القرآن الكريم هي (العلم) بمختلف تقليباته اللغوية ، وارتبط العلم باللحظة الأولى من إيجاد الإنسان الخليفة في مختلف الرسالات السماوية ، كما أكد حبيبنا صلي الله عليه وسلم أن دورة حياة الإنسان إنما تقوم على التعلم و العلم فلا خير في الدنيا إلا في عالم ومتعلم ومحب لهما أي لدائرة العلم في ذاتها ولذاتها ، وهذه الصفة إن ارتبطت بالإيمان تحقق المقصود من الخلق دونما تقييد بجنس دون جنس : (اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد ) فالحكمة من الحياة تقوم على العلم في كل ضروبه ، وجميع الأمم القوية في وقتنا الحاضر إنما بلغت هذا الشأن بما سخرته من قدرات وإمكانات في تنمية العلم ومؤسساته المختلفة .
ولاشك أن الولايات المتحدة الأمريكية هي النموذج المثالي في هذا المسار ، واستطاعت امتلاك القوة التكنولوجية وآلياتها المتسارعة في التطور بما تنفقه من اهتمام ورعاية وجدية وموازنات على العلم والبحث العلمي .
ولذلك إن رام اليمانيون إلى بناء نهضتهم القادمة ، فلا بد من البدء بما يجب البدء به ، ولا يمكننا أن نبقى مجرد مستهلكين لمخرجات العلوم الغربية ، ولا أحد يمنعنا من الدخول في شراكة عالمية ، تمكننا تدريجياً من الخلق والإبداع في مختلف حقول العلوم والمعارف ، وهذا يعني التسليم بمعوقات نهوضنا الراهنة وحسن تشخيصها من قبل المؤسسات والهيئات الاختصاصية ، والعمل مع الدولة الوطنية المركزية على طرح الآليات لتجاوزها ، ثم العمل شيئاً فشيئاً على تكوين الخطوات الأولى في تطوير المجتمع نحو مجتمع المعرفة القائم على العلم والبحث العلمي (المبدع ) الذي يلبي حاجات الإنسان ، ولا يؤدي إلى إفساد بيئته وحياته ووجوده ، كما تفعل بعض المؤسسات الغربية .
وبناءً على ماسبق فإنني اقترحت سابقاً بناء تلك الشبكة المعلوماتية الوطنية العملاقة لربط كل اليمانيين بمشروع حضاري مشترك وتلبية كل أولوياتهم الأساسية عبر التواصل التفاعلي المباشر مع مؤسسات الدولة المركزية .
وأتوق في الأفكار الحالية أن أعيد تفعيل حياة الأيقونة اليمانية منذ ولادته حتى موته برؤية علمية آنية وتعاقبية ، أي علينا أن نغذي نظامنا التعليمي بأطوار تفاعلية منطقية تهيئ الإنسان اليماني منذ نعومة أظفاره للاندماج لاحقا في هموم النهضة اليمانية العظمى .
ولدي كثير من التصورات في كيفية بناء هذه الشبكة أو الدورة التعليمية ، في سبيل استبدال الآليات التقليدية الراهنة التي أثبتت فشلها الذريع في خلق تنمية بشرية مبدعة بحكم أن مضامين العلم والتعليم تبقى تراوح مكانها وتؤدي تدريجياً إلى مانسميه الآن بأشباه المتعلمين الذين يتخرجون من الجامعات دون كفاءات حقيقية ، ولا يجدون موقعهم في العمل والمجتمع ،مما يدفعهم دفعاً إلى تشكيل أنوية ثقيلة تزيد بلادنا ثقلاً وتخلفاً عن بقية الشعوب .
وأضع هنا هذه الأطوار العملية التي يجب أن تكون قائمة على مدخلات ومخرجات ومعالجات يتم تعقيدها وتفعيلها في الشبكة المعلوماتية نفسها :
فهناك اثنتا عشرة دورة ، يمكن توصيفها كالآتي (وبمراقبة مباشرة من الشبكة العنكبوتية الوطنية ) :
1 – طور الرعاية : تمتد من بدء تكون الجنين وحتى السنة الثالثة من عمره، وتتم العملية في البيت وبإشراف دور متخصصة لتوفير جميع اللوازم حتى نحصل على كائن صحي وسليم ومهيأ لتلقي الأدوار التالية في مجتمع النخبة اليمانية .
2 – طور التهيئة أو التنشئة : تمتد عامين كاملين أي خلال سن الرابعة والخامسة ، وتتم في دور وطنية متخصصة ، وتعمل فيها خبرات ذات كفاءات عالية ، ومنها يتعلم الطفل التفاعل والمشاركة والعطاء مع تقديم مختلف المهارات التي تقوي ملكاته المختلفة عقلياً ونفسياً .
3 – طور التلقين (المدرسة) : مدته أربع سنوات أي من السنة السادسة وحتى السنة التاسعة من عمره ، يتقن التلميذ فيها القراءة والكتابة ،ويتعلم جميع التطبيقات الخاصة بالشبكة المعلوماتية ، ويدرب على أهمية الخلق والإبداع في تحسين مستوى الحياة ، ويدرك عمليا أدواره في حماية البيئة .
4 – طور الإعداد (المدرسة) : مدته أربع سنوات أي من العاشرة وحتى الثالثة عشرة ، ويدرس فيها قواعد العلوم المختلفة من لغة ورياضيات وفيزياء وكيمياء وأحياء ومعلوماتية وغيرها من العلوم الإنسانية ، ويكون التلقين تفاعليا أي عبر المجموعات التواصلية وباستخدام الوسائط الشبكية ، وهذه المرحلة مرحلة جوهرية ومهمة ،لأنها تجذر في نفسه الرغبة في العلم والإبداع والانطلاق وتمكنه من تحديد اللون الذي يحبه مستقبلاً .
5 – طور الاكتشاف (المعهد) : مدتها سنتان أي من الرابعة عشرة وحتى الخامسة عشرة ،يتمكن الطالب فيها من معرفة العلم الذي بدأ في محبته في نطاق مجموعات علمية تشاركية مع القيام برحلات داخلية وخارجية ذات طبيعة استكشافية .
6 – طور التوجيه (المؤسسة): مدته سنتان ، أي من السادسة عشرة وحتى السابعة عشرة ، وهي مرحلة تخصصية وناضجة جداً ،يتم فيها تلقين الطالب بالأسس الجوهرية عن تخصصه المستقبلي ، وكيف يسهم هذا التخصص في بناء الإنسان والحياة كلاً حسب اختصاصه ، مع عقد لقاءات تشاركية في المجال نفسه داخلياً وخارجياً .
ويتم في هذا الحقل فرز الطلاب الذين يواصلون دراساتهم العليا في العلوم الصحيحة أو الإنسانية من الذين يكتفون بالمجالات التقنية والفنية والمهنية أي ميدان المهارات التطبيقية في الحياة ، وتتراوح دراساتهم من سنة إلى ثلاث سنوات بعد طور التوجيه ،ليصبحوا متخصصين في العلوم التطبيقية ذات الصلة باحتياجات الواقع نفسه .أما بقية الطلاب المتميزون فيتقدمون إلى مواصلة دراساتهم الطويلة المدى .
7 – طور الاختصاص (الجامعة): مدته أربع سنوات من سن (18 – 21 ) وهو تكوين متخصص وعميق في العلم المراد وتفرعاته المختلفة وما يربطه بغيره من العلوم ذات الصلة .
8 – طور التعمق (الأكاديمية): مدته ثلاث سنوات من سن (22- 24 ) ، ويتم فيه إعداد رسالة الدكتوراه التخصصية في إحدى الحقول الإبداعية للعلم المدروس ، شريطة أن تكون إضافة نوعية مميزة تؤدي إلى تطور العلم وإثرائه كماً وكيفاً .
9 – أطوار الترقي (العمل الأكاديمي ): وفيه ثلاث مراحل ، كل واحدة مدتها سنتان ، أي بمجموع وقدره ست سنوات كاملة من سن( 25- 30 ) ،
وهي كالآتي :
*المرحلة الأولى: تقديم ثلاثة بحوث تخصصية للحصول على درجة دكتور محاضر .
*المرحلة الثانية : تقديم خمسة بحوث تخصصية للحصول على درجة دكتور باحث .
*المرحلة الثالثة : تقديم سبعة بحوث تخصصية للحصول على درجة دكتور أستاذ .
10 – طور التبحر : يبدأ مع سن الواحد والثلاثين ويمتد بلا حدود حتى الموت ، وفيه ينجز الإنسان أعمالاً علمية أكثر قوة ودقة ولكنها متحررة ، ويمكن أن ترتبط بنيوياً مع العلوم الأخرى ، أي أن هذه المرحلة هي طور الشراكة المفتوحة بين العلوم والمعارف في سبيل تطور وتحسين حياة الإنسان وتوفير أقصى درجات الجدوى والرفاه في مواجهة احتمالات المستقبل ، وبناء شبكة علمية عملاقة بين جميع الدول والشعوب والمؤسسات العلمية ذات العلاقة بالعلم والبحث العلمي .
هذا تصور أولي أجده طموحاً و مميزاً للقفز بالمجتمع اليماني مستقبلاً ليحتل موقع الريادة و الصدارة في الحضارة البشرية ، مع العلم أننا نحتاج إلى عدة وزارات لتغطية هذه الأطوار :
* فالأولى تهتم بالطور ( 1 + 2 )
* والثانية تهتم بالطور ( 3 + 4 + 5 + 6 )
* الثالثة تهتم بالطور ( 7+8 )
* الرابعة تهتم بالأطوار ( 9+10+11+12 ) .
* الخامسة تشرف على تأهيل وإعداد الطلاب الذين يدرسون التخصصات التقنية والفنية والمهنية .
ولذلك فهذه الوزارات يعمل فيها صفوة العلماء من جميع الاختصاصات و تقع على عاتقهم مسؤولية الحفاظ على النهضة و حمايتها بأخلاقيات العلوم الإنسانية ، حتى لا نكرر أخطاء الحضارة الغربية التي حولت الإنسان إلى مجرد عبد للتكنولوجيا و حرمانه من الخصوصية و الاستقلالية عبر تسليط المعلومات ذات الطابع الإيدولوجي النفعي و الموجه في ضوء مصالح المؤسسات العملاقة العابرة للقارات ، بل و أمعنت في هتك أخلاقياته على حساب تغذية النزعة الاستهلاكية لمضاعفة أرباحها المادية ، و تنفيذ سياسات رأسمالية إسقاطية لتدمير أمن و استقرار بقية دول المعمورة و الإخلال بالتوازن البيئي و تهديد أمنه المعيشي و النفسي .
هذا إذا تصور مبدئي يحفظ لنا حقنا في منافسة الأمم والشعوب الراهنة في سبيل بناء نهضة يمانية عملاقة ومتطورة يعتمد على الجوانب الكيفية في توزيع الكوادر وعدم تعطيل اي إنسان من المشاركة في صنع يمن الحداثة والنمو والصدارة في عالم اليوم القائم على المعرفة والتكنولوجيا ومبادئ العلم في جميع الاختصاصات البشرية .
*أستاذ علم اللسانيات في جامعة صنعاء بكلية اللغات
*مندوب اليمن المساعد في منظمة _ اليونسكو _
في الإثنين 20 أغسطس-آب 2012 07:18:09 م