|
هي دعوة نقدمها من خلال هذه الدراسة للتسامح والتصالح مع ذواتنا أولاً، لأننا إذا استطتعنا تحقيق ذلك بصدق وتجرد، وترفعنا فوق أهوائنا الضيقة ومشاريعنا الصغيرة، عندها فقط سنكون قادرين على إتمام مشروع المصالحة الكبرى مع غيرنا، لأن نفوسنا ستكون قد تهيأت لتقبل الحقيقة، بغض النظر عن مصدرها، ومدى قربه أو بعده عنا، ورحم الله الإمام الشافعي عندما قال: رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب.
الدين وحياة الإنسان
تذكر موسوعة ويكيبيديا أنه لا يوجد تعريف محدد وثابت للدين، فهناك العديد من التعاريف له، وهي عادة ما تخضع لطبيعة إيمان الشخص الذي يضع التعريف، الأمر الذي يصعب عملية وضع تعريف للدين يرضي جميع الناس حسب الموسوعة. وبغض النظر عن التعريف الدقيق للدين فمن المعروف أن الدين يمثل للإنسان المخزون الذي يمده بالطاقة الروحية المتجددة، وعادة ما تهدف التعاليم الدينية إلى أن تكفل حياة حرة وكريمة لأتباعها، مع محاولة الوصول بهم إلى أعلى درجات الرقي والكمال.
وفيما يخص ديانة الإسلام فمع أنها تنطلق من كون "الدين عند الله الإسلام" إلا أنها قد كفلت بشكل واضح لا لبس فيه حرية العقيدة للجميع وفق مبدأ "فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر" و "لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي" طالما لم يقف الآخرين عائقاً أمام الدين الإسلامي أو يضطهدوا أتباعه. وكرامة الإنسان في نظر الشريعة الإسلامية مرتبطة بآدميته وتسبق ارتباطه بأي دين أو عقيدة "ولقد كرمنا بني آدم..." ، أي أن الإنسان في نظر الإسلام مكرم بذاته ولذاته، وأي انتهاك لكرامته في هذه الحالة –مهما كانت عقيدته الدينية- يعد انتهاك لشريعة الإسلام التي كفلت للبشر كرامتهم بصفتهم الإنسانية.
ومن البديهي القول أن الإنسان يميل فطرياً نحو التدين والارتباط بالخالق بطريقة لا شعورية، حيث تتضح تلك الحالة لدى الأنسان بصورة قوية عند تعرضه لضغوط الحياة ومصاعبها، وفي لحظات العناء من المرض والعجز والكوارث، فعادة ما تشخص جوارح الإنسان الذي يمر بتلك الظروف بصورة لا إرادية صوب العناية الإلهية طالبة معونتها، حتى إن كان أصحابها من الذين لا يلتزمون بأداء الفرائض الدينية، ويظهرون عدم اهتمامهم بالدين في الحالات الطبيعية لحياتهم.
ومن ذلك المنطلق -ونحن نتحدث عن مجتمعنا اليمني المسلم- قد لا نكون مبالغين إذا ما قلنا بأن معظم أبناء اليمن بمختلف تياراتهم السياسية ومذاهبهم الدينية لا يرفضون الإحتكام لشريعة الإسلام، التي يفترض بقوانين الدولة العصرية التي ينشدونها أن لا تتعارض مع ثوابتها العامة، لكن الرفض في حقيقة الأمر إنما يعد رفضاً للوصاية على الدين، وتقديم التفسيرات الشخصية للنصوص الدينية من قبل البعض على أنها هي الدين، وإعطاء البعض لأنفسهم حق القيام مقام الله في تنفيذ أحكام الدين، واعتبار أراءهم في المسائل الخلافية بأنها تمثل الوجهة الصحيحة للإسلام التي يتحتم على الجميع سلوكها.
ومثل هذا الرفض يمكن تفهمه انطلاقاً من فهم الفتاوي الدينية –بغض النظر عن مكانة أصحابها ومستوى علمهم بالشريعة- بأنها عبارة عن اجتهادات بشرية تحتمل الصواب والخطأ، وتنتفي عنها صفة القداسة، وتكون قابلة للرد والنقد والمراجعة، طالما لم تستند على نصوص قطعية غير قابلة للتأويل، ولم تحظى بالإجماع لدى علماء المسلمين، ويظل من حق أصحاب الفتاوي الدفاع عن أرائهم عن طريق مقارعة الحجة بالحجة، إنطلاقاً من المقاصد النبيلة لشريعة الإسلام، التي تستطيع مسايرة التطوارات في كل زمان ومكان. لأن اقتصار العملية الفقهية على تفسيرات حرفية للنصوص مقيدة بأسباب النزول لن تؤدي إلا لتقزيم الإسلام، وستجعل منه ديانة محلية محصورة في جزيرة العرب مكاناً والقرن الأول ألهجري زماناً. ونحن لا نقول هذا جزافاً، لكننا نستأنس باجتهادات شهدها عصر الخلفاء الراشدين على قربه من عصر الرسول (ص) في ظروف حياة الناس وزمنهم (كإسقاط عمر بن الخطاب للمؤلفة قلوبهم من مصارف الزكاة، عندما فهم أنها اصبحت تتعارض مع مصلحة الأمة، رغم النص الصريح عليها في القرآن الكريم)، فما بالك بعصرنا المتباعد زمنياً عن عصر الدعوة، والمتميز بتطوراته العلمية المذهلة، التي تتطلب إجتهادات ترقى بأصحابها إلى العصر الذي نعيشه، أما الإسلام فهو دين الله المتجدد والمواكب لكل تطورات حياة الإنسان في كل زمان ومكان؛ وهنا تكمن عظمته وإعجازه الحقيقي.
وفي كل الأحول يظل الإسلام حجة على المسلمين وليس العكس، ويظل باب الاجتهاد مفتوح لجميع أهل العلم كل في تخصصه، في مختلف العلوم الدينية والدنيوية، بعيداً عن الفهم الخاطئ والقاصر الذي يكرسه البعض بحصر الفتوى على علماء الشريعة في كل أمور الحياة من غير الرجوع إلى أهل الاختصاص فيها، كالسياسة والاقتصاد وغيرها من العلوم الإنسانية والتطبيقية الأخرى، التي لا تدخل ضمن اختصاصهم، ولها أهل الذكر المختصون بها. وإن كان ذلك لا يعني بأي حال من الأحوال منع علماء الشريعة من قول أرائهم الشخصية بخصوصها –مثلهم مثل غيرهم- من غير أن نرى الأصوات ترتفع محتجة عليهم، بل ومطالبة من الجهات التي ينتمون إليها تحديد موقف من مقولاتهم وإعلان الرفض الواضح لها.
إذاً نحن بحاجة ألى أن نرفض الإرهاب الفكري بكل أشكاله، سواء كان دعاته يريدون ممارسته باسم الدين أو المدنية لا فرق في ذلك، لأنه ليس من العيب أن نختلف فالاختلاف سنة الله في أرضه "ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين" لكن العيب أن نتمترس خلف أرائنا ، وندعي احتكار الحقيقة لأنفسنا، وفقاً للمنطق الفرعوني المقيت "ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد"، باختصار نحن بحاجة لأن نجلس في حوار هادئ مع بعضنا، هدفه الوصول للحق والحقيقة، وليس تحقيق النصر لذواتنا وطروحاتنا الآنية والأنانية، حوار يقوم على أساس مناقشة الأراء والأفكار والطروحات، وليس التصدي للافراد والجهات التي تطرحها، بناء على مواقف مسبقة من هذه الجهة أو تلك، بغض النظر عن إيجابية طرحها من عدمه.
بين الدولة الدينية والإسلامية والمدنية
من المعروف أن تعريف الدولة الدينية ارتبط في أذهان الدارسين والسياسيين بصفة عامة بالنموذج الذي شهدته القارة الأوروبية خلال تاريخها الوسيط، الذي أصبح يوصف في الأدبيات الأوربية بالعصور المظلمة، نتيجة لهيمنة الكنيسة المسيحية بالتحالف مع الإقطاع على مقاليد الأمور وشؤون الحياة العامة للناس، وفي مقدمتها الحياة السياسية، الأمر الذي جعل القارة الأوربية تغط في حياة الجهل والتخلف لقرون عديدة، امتدت حتى بداية عصر النهضة الأوربية الحديثة، التي تكاتفت فيها جهود علماء التنوير في أوروبا ، الذين استلهموا فكرة نهضتهم من عصور تاريخهم الكلاسيكي القديم (اليوناني الروماتي)، إلى جانب تأثرهم بعوامل النهضة العربية الإسلامية التي تعاصرت مع تاريخهم الوسيط.
إذاً من خلال النموذج الذي ساد في التاريخ الأوروبي الوسيط يمكننا تعريف الدولة الدينية بأنها الدولة التي تخضح لهيمنة رجال الدين، وتظفي على حكامها نوع من القداسة، وتعتبرهم ظل الله في أرضه، ولا يحق لأحد مسائلتهم، وتقوم بالحجر على العلم ومخترعاته، ولا تعترف بالتجارب العلمية المتحررة من الخرافة، باعتبار كل ذلك في نظرها يتعارض مع الدين الذي تقدم نفسها وصية عليه. وهذا ما جعل الدول الأوربية الحديثة التي قامت على أنقاض العصور الوسطى تجعل من مدنية الدولة منطلقاً لها.
وقد أدت المعاناة المريرة للشعوب الأوربية بسبب هيمنة الكنيسة الى أن توصف الدولة المدنية في بعض تعريفاتها لديهم بأنها دولة معادية للأديان. ومن بداهة القول بأن هذه التعريفات ليست بمثابة قوالب مقدسة يتحتم على كل من يصبوا لبناء دولة مدنية الأخذ بها، فهي مجرد اجتهادات لأصحابها، نتجت كردة فعل لمعاناة تاريخية قاهرة. ونستطيع القول أن ذلك التعريف المنادي بفصل الدين عن الدولة لم يستطع أن يرقى ليمثل واقعاً ملموساً في المجتمعات الغربية (الأوربية والأمريكية) حتى يومنا هذا، والشواهد على ذلك كثيرة، سنكتفي هنا بضرب أمثلة سريعة عليها، فهذا هو الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش الإبن يعتبر نفسه مكلف من قبل الرب لخوض حرب صليبية جديدة ضد المسلمين، ويعلن صراحة بأنه يذهب كل أحد لأداء القداس الديني في الكنيسة بصفته مسيحياً، رغم أنه يرأس دولة تحتوي على كل أديان العالم تقريباً. أما توني بلير رئيس وزراء بريطانيا السابق فهو حسب تصريحه لا ينام إلا والكتاب المقدس تحت وسادته.
بل إن الكثير من الدول الأوربية (المدنية العلمانية) لا تزال ترفض الإعتراف بالإسلام كديانة رسمية مثله مثل الديانتين المسيحية واليهودية، رغم أن عدد المسلمين فيها يبلغ مئات الآلاف، وسمعنا جميعاً المستشار الألماني الأسبق هلموت كول وهو يصرخ بأنه لا يمكن لتركيا المسلمة أن تصبح عضواً في الإتحاد الأوروبي لكونه نادي خاص بالدول المسيحية. وهاهي فرنساء وغيرها من الدول الأوروبية تمنع حجاب المرأة المسلمة بصفته شعاراً عنصرياً للمسلمين، بينما لا تشعر بنفس تلك الحساسية تجاه حجاب الراهبات المسيحيات، وأيضاً تجاه القلنسوة اليهودية رغم أن إرتدائها يأخذ بعداً دينياً لدى اليهود.
أخيراً هاهي دولة إسرائيل التي تسوقها وسائل الإعلام الغربية والصهيونية بأنها واحة للديموقراطية والمدنية في الشرق الأوسط تثبت في دستورها بأنها دولة يهودية، رغم أن 40% من سكانها هم من العرب المسلمين والمسيحيين، ومع ذلك يتم معاملتهم بصورة علنية ومفضوحة كمواطنيين من درجات دنيا، رغم كونهم يحملون الجنسية الإسرائيلية.
خلاصة القول إن مصطلح الدولة المدنية وغيره من المصطلحات السياسية يجب أن لا نأخذها كقالب إسمنتي جاهز من المجتمعات التي نشأت فيها، ويتحتم على المثقفين والمنظرين السياسيين في العالم العربي والإسلامي وهم يسوقون لهذه المصطلحات في مجتمعاتهم أن يقدموا بصحبتها الآليات التي تكيفها مع واقع مجتمعاتهم، لأنهم إذا لم يفعلوا ذلك سيولدون ضدها ثورات مضادة تودي بها إلى الفشل، لأنه لا يمكننا أن نغفل أبداً بأنه لكل مجتمع خصوصياته التي تميزه عن غيره من المجتمعات؛ متمثلة بعقيدتة الدينية وهويتة الاجتماعية وتراثه الحضاري وموروثه الثقافي، وهو ما تنبهت له المجتمعات الغربية، وتجلى في واقعها المعاش من خلال الأمثلة السابقة التي ضربناها وغيرها من الوقائع التي لا ينكرها إلا مكابر أو جاهل.
ما سبق يدعونا للقول بان على دعاة الدولة المدنية في الدول العربية والإسلامية عدم التحسس من إقترانها بالمرجعية الإسلامية، ونحن عندما نتحدث عن الدولة الإسلامية هنا لا نقصد الدولة الدينية التي سبق تعريفها لا من قريب أو بعيد، وذلك لكون الدولة الإسلامية –سواء من خلال تشريعاتها الفقهية أو واقعها التاريخي- لم تعرف نظام الحكم الديني الكهنوتي، فالدولة الإسلامية عبر تاريخها لم تكن إلا دولة مدنية صرفة، ويكفي للتدليل على ذلك بضرب أمثلة من عصرالخلفاء الراشدين، الذين قدموا انفسهم للأمة، وكذلك تعاملت الأمة معهم، بصفتهم بشر عاديين، يجتهدون، يصيبون ويخطئون، ومن حق الأمة محاسبتهم على أخطائهم.
فهذا أبو بكر الصديق (رضي) عنه يقول "وليت عليكم ولست بخيركم"، بينما يقول عمر بن الخطاب (رضي) "أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم" ، أما على بن أبي طالب (رضي) فيقدم نموذج عملي للمساواة مع أحد رعايا دولته من غير المسلمين، في نموذج لم نسمع أن التاريخ قد شهد له مثيلاً حتى يوم الناس هذا، بما في ذلك الأنظمة الغربية الحديثة التي تقدم كنماذج لمراعاة الحريات العامة وحقوق الإنسان، حيث أحتكم إلى القاضي مع يهودي خاصمه على درعه، ونزل إلى الأرض ليجلس إلى جانب اليهودي أمام القاضي، وطلب من القاضي أن ينادي اليهودي بكنيته مساواة له بالخليفة، وصدر الحكم في القضية لليهودي رغم تأكد القاضي من صدق أمير المؤمنين، لعدم وجود الأدلة ولعدم قبول شهادة إبني أمير المؤمنين لكونهما من أهله.
هذه هي الدولة الإسلامية التي نتحدث عنها، وهي التي يجب أن تطرأ إلى أذهاننا عندما نتحدث عن دولة إسلامية، وليست النماذج المعاصرة المشوهة التي تتدعي إسلامية دولها، مثل السعودية وإيران والسودان. وفي المقابل على دعاة الدولة الإسلامية أن لا يتحسسوا من مسمى الدولة المدنية نتيجة لتخوفات في نفوسهم سنحاول توضيحها في الفقرة القادمة.
مضمون الدولة العصرية والانشغال بصراع المصطلحات
يتضح جلياً من خلال السجالات التي تدور رحاها في اليمن والمنطقة العربية بين دعاة الدولة المدنية والدولة الإسلامية، بأنها تعتمد على تخوفات لا أساس لمعظمها، بل إنها في معظمها عبارة عن محاكمات يجريها كل طرف لنوايا الطرف الآخر، ولا يخفى أن العملية لا تعبر عن واقع معاش أكثر من إجترارها لمآسي الصراع الإيديولوجي، الذي شهدته المنطقة العربية خلال النصف الثاني من القرن العشرين بين القوى الإسلامية والمحافظة من جهة والقوى اليسارية والعلمانية من جهة أخرى. وفهمنا لهذه الجزئية سيساعد مختلف الأطراف على أن تتوقف عن اجترار مآسي الماضي، وتنطلق صوب التنافس من أجل كسب المستقبل، خصوصاً أن التغيرات التي يشهدها العالم بما فيها المنطقة العربية تؤكد لنا بأن عصر الإيديولوجيا قد ولى دون رجعة، مخلياً موقعه لعصر البرامج الانتخابية، القائمة على التنمية والشفافية والنزاهة وتقديم الخدمة المثلى للمجتمع، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.
تلك الحقيقة تحتم علينا عدم التوقف كثيراً عند المسميات والمصطلحات، لأن تسمية الدولة المدنية أو الإسلامية ينبغي أن لا تمثل لنا غاية بحد ذاتها، بل هي وسيلة لتكريس مضمون واقعي لدولة ديمقراطية عصرية متطورة، تسودها قيم المحبة والإخاء والعدالة والمساوة، دولة تعتمد المؤسسية في عملها، وتؤمن السلم والتكافل الاجتماعي والكرامة الإنسانية لمختلف أبنا شعبها، بغض النظر عن انتماءاتهم السياسية أو الجهوية أو الفئوية أو العمرية أو المذهبية والدينية، دولة توفر لأبنائها الحرية الهادفة بعيداً عن الجمود أوالانفلات، حتى تمكنهم من تفجير طاقاتهم الإبداعية صوب بناء مستقبل زاهر ومشرق لهم ولوطنهم ولأمتهم وللإنسانية الخيرة جمعاء، لكون الحرية والإبداع صنوان لاينفصمان. إذاً العبرة ليست في المسميات والمصطلحات، لكنها في النصوص الدستورية والقانونية التي سيتوافق عليها الجميع لما فيه مصلحة الجميع، فلسنا بدعة بين الأمم التي سبقتنا لذلك، ما جعلها تسير في مقدمة الركب، وتركت لنا ذيله نتحلق من حوله، ونتصارع عن المسمى المناسب له بغباء قل أن نجد له نظير.
بصراحة.. دعونا نقول بأن دعاة الدولة المدنية الرافضين لمسمى الدولة الإسلامية بحجة أنها دعوة لدولة دينية كهنوتيىة هم يعرفون بأن حجتهم هذه واهية، ولا تصمد أمام حقائق الشرع والتاريخ التي أشرنا إليها آنفاً، وكذلك قول بعضهم بأن بناء الدولة المدنية يجب أن يتضمن القضاء على القوى الدينية والقبلية، مع إدراكهم بأن مثل هذا القول لن يؤدي في حقيقة الأمر إلا للقضاء على فكرة الدولة المدنية في مهدها، لكون الدولة المدنية تقوم على احترام الرأي الآخر كمبدأ جوهري، وبما سيولده من تأليب لهذه القوى ضدها، فالقبيلة هي مكون أساسي من مجتمعنا اليمني، له إيجابياته وسلبياته، والسلبيات يتم تجاوزها بالعلم والتوعية وليس بالقضاء على أحد أو إقصائه. وكذلك هي الحال بالنسبة لمواقف دعاة الدولة الإسلامية من الدولة المدنية، حيث تتركز أبرز أعتراضاتهم في عدة نقاط أهمها: أن الدولة المدنية ستؤدي –بدعوى المساواة- أن يصل لرئاسة الدولة إمرأة أو غير مسلم، وإعطاء البرلمان الحق المطلق في التشريع الذي قد يصل به إلى حد إجازة الزواج المثلي كما هو حادث في بعض الدول الأوروبية، إلى جانب إلغاء بعض الحدود الشرعية.
وأنا هنا لن أناقش هذه الطروحات من وجهة نظر شرعية فهذا ليس إختصاصي، وسأتركه للمتنويرن من علماء الأمة، الذين ينطلقون في اجتهاداتهم من المقاصد والغايات النبيلة لشريعة الإسلام المتكيفة مع العصر، لكني هنا سأكتفي بطرح ملاحظات لمن يهمه الأمر راجياً تأملها بمصداقية وتجرد.
بالنسبة لتولي المرأة رئاسة الدولة أعتقد أن هناك علماء ثقات كالقرضاوي قد أجازوا ذلك على أساس أن الولاية العامة المقصود بها منصب الخليفة وليس زعماء الدول الإسلامية (الولايات سابقاً). أما رئاسة غير المسلم كأن يحكم اليمن يهودي مثلاً، فالسوأل الذي يطرأ في ذهني عندما أسمع مثل هذا الطرح ويتطلب الإجابة علية منا جميعاً، تري ما الذي سيدفع خمسة وعشرين مليون مسلم لينتخبوا رئيساً لهم من بين بضع مئات من اليهود يشاركونهم العيش على الأرض اليمنية، خصوصاً إن ضمنا اتخابات حرة ونزيهة؟!. أما التقنين للزواج المثلي، فالمعروف أن جموع الشعب هي من ستنتخب نواب البرلمان، أي أنهم سيمثلون صورة لقيم المجتمع وأخلاقة، وإذا وصلت بهم الأمور لتشريع مثل هذه القوانين، ساعتها سيتحتم علينا أن نراجع إسلامنا كمجتمع، لأنه سيكون مجرد صفة تثبت أمام أسمائنا في بطائق الهوية، ولعمري ما هذا بالدين الذي يريده الله لنا، ولا بإلإسلام الذي نرتضيه لأنفسنا، حتى إن ضمناه بنص دستوري. أما بخصوص العقوبات الشرعية، فأنا سأكتفي هنا بالاستدلال بما ورد في رؤية حزب الوسط المصري المتفرع عن جماعة الإخوان المسلمين، عن الدولة المدنية الإسلامية –وهي رؤية متقدمة تستحق أن تدرس من كل الأطراف- بأن الهدف من الحدود الشرعية لا يتمثل في العقوبات التي وردت فيها بقدر تمثله بردع أفراد المجتمع عن الجريمة، والحفاظ على قيم المجتمع وأمنه وأمانه، وأي وسيلة عقابية يتوافق عليها المجتمع لتحقيق هذا الهدف ففيها مصلحته، وحيثما وجدت المصلحة العامة فثمة شرع الله.
خلاصة القول: لندع المصطلحات ونتوافق على المضامين، فلا فرق مثلاً أن نقول شورى أو ديموقراطية، مادمنا سنؤسس لنظام سياسي يمتلك فيه المواطن حق انتخاب حكامه، عن طريق صندوق الاقتراع الحر والنزيه، ويمتلك حق مراقبتهم ومحاسبتهم، وحق سحب الثقة منهم في حال خيبوا ظنونه، ونكصوا عن تحقيق وعودهم وبرامجهم الانتخابة التي تم انتخابهم على أساسها، هذا هو الحكم الرشيد الذي نريد.. فبحق السماء سموه ما شئتم، ودعونا نعيش حياتنا بخير وسلام وأمان.
المسلمين بين الحفاظ على هويتهم ومعايشة الآخر
شئنا أم أبينا فإن الكثير من مواقفنا تجاه قضايا أوطاننا وأمتنا العربية والإسلامية صارت تنبني على أساس رؤيتنا لطبيعة العلاقة التي يجب أن تربطنا كعرب ومسلمين بالعالم الغربي، ونهدف في أكثر طروحاتنا إيصال رسائل لهم قبل إيصالها إلى شعوبنا وأمتنا العربية الإسلامية، وهي في كثير من الأحيان عبارة عن مواقف عاطفية تتراوح بين الإذعان الكامل أو الرفض المطلق. ومن بداهة القول أن موقفنا من الغرب يجب أن ينطلق من المصلحة العامة لأمتنا العربية والإسلامية، اسوة بهم، فهم يبنون علاقاتهم بالآخر على أساس مصالحهم التي تعد الثابت الوحيد لديهم، وفي ركابها تسير بقية العوامل بطريقة أو بأخرى.
وفي هذا الاطار لا مناص من القول أن التعامل مع الغرب أصبح من مسلمات الحياة بعد أن أصبح العالم في عصر العولمة عبارة عن غرفة كبيرة، وأصبحنا فيه من ضمن الأطراف المتلقية بحكم التخلف الاقتصادي والسياسي الذي تعيشه الدول العربية والإسلامية. لكن المفترض أن لا نسمح لهذا الاختلال في العلاقة -الذي يرجح كفة الطرف الغربي بحكم تفوقه السياسي والاقتصادي والعلمي والعسكري- أن يولد لدينا عقدة الشعور بالنقص، ويجعلنا نندفع بدون تروّ ودراسة صوب اتخاذ مواقف صادمة لعقيدتنا الدينية وهوياتنا الحضارية والثقافية، بغرض تحسين صورتنا لديهم، خصوصاً بعد أن صارت مفردة ) العربي ( و ) المسلم ( تعني لدى معظمهم -مع الأسف الشديد- الإرهابي والمتطرف.
وكذلك فإن تحسين صورتنا كمسلمين لدى الغرب يفترض أن لا تتمثل بخضوعنا للابتزاز السافر الذي صارت تمارسه الدوائر السياسية والاقتصادية والاعلامية الغربية ضد العرب والمسلمين، لكنه يكون بالعمل على إجلا الصورة المشرقة للدين الإسلامي وحضارة العرب الخالدة، فديننا الإسلامي في جوهره هو دين يعلي من قيم العقل ويلغي كل قيد على الفكر والإبداع، ويوم فهمه أجدادنا كذلك تمكنوا من بناء حضارة مشرقة سادت العالم في زمنها، بينما كانت أوروبا تغط في عصورها المظلمة، ويوم تخلينا عن تلك الروح الوثابة للإسلام وحولناه إلى مهاترات ومساجلات على سفاسف الأمور، من مثل حجم طول الثوب وقصره، والقدم التي يجب أن ندخل بها الحمام ، وجواز البول واقفاً من عدمه، وجواز بلع الريق للصائم..أقول عندما غرقنا في مثل هذه الأمور التي لا تقدم في الدين والحياة ولا تؤخر، هوينا إلى هوة سحيقة من التخلف والجهل.
إذاً نحن بحاجة كمسلمين - بجميع انتماءاتنا السياسية- أن نجتهد من خلال الإسلام وليس من خارجة، لأن العيب ليس في شريعة الإسلام ولكن في بعض أتباعها من ذوي النظرة القاصرة، الذين يريدون أن يسوقوا لنا الدين من وجهة نظرهم الضيقة، ولا يقل عنهم قصوراً بعض المتغربين من المسلمين الذين قد تجد أحدهم يحتج عليك عندما تجادله بآية قرآنية أو حديث شريف، لكنك تراه وقد انتفخت أوداجه وأحمر وجهه وهو يصرخ في وجهك ليثبت رأية أمامك بنص وارد في الأعلان العالمي لحقوق الإنسان، وهو يقدمه لك بطريقة يتوقع أنها ستخرسك، وكأنه قد أتى لك بشيئ مقدس لا يأتيه الباطل من بين يديه أو من خلفه.
دعونا نتفق أخيراً بأن آفة هذه الأمة إنما تتمثل في تطرف بعض أبنائها، سواء قبع ذلك التطرف في أقصى اليمين أو أقصي اليسار، وسيان أن يمارس ذلك التطرف والإقصاء للآخر واحتقارة باسم الدين أو باسم المدنية والحداثة، فالطرفان في حقيقة الأمر وجهان لعملة واحدة. إذاً المخرج الحقيقي لهذه الأمة هو في وسطيتها واعتدالها، ولعل الرؤية التي قدمها الأزهر الشريف للدولة الوطنية الديمقراطية في مصر- وتوشك أن تجمع القوى المصرية باطيافها السياسية والدينية عليها كمرجعية أساسية للتوافق فيما بينها- يمكننا في اليمن وغيرها من الأقطار العربية أن نعتمد عليها ونضيف إليها ما يناسب الخصوصية المحلية لكل مجتمع.
ختاماً: العدالة هي ضالتنا المفقودة التي ننشدها، لذلك دعونا نختتم هنا بما قاله الإمام أحمد بن حنبل، عندما اعتبر بأن الإمام الفاسق العادل خير للأمة من الإمام الصالح الضعيف، ذلك أن الأول فسقه لنفسه وعدله للمسلمين، بينما الثاني صلاحه لنفسه وضعفه للمسلمين. وكذلك قول الإمام بن تيمية: بأن الله ينصر الدولة العادلة وإن كانت كافرة ، ويذل الدولة الظالمة وإن كانت مسلمة..كان هذا قولهم في العصور الغابرة التي عاشوا فيها، فماذا سيكون قولنا ونحن نعيش في القرن الحادي والعشرين؟!.. وذلك هو بيت القصيد.
في الجمعة 09 ديسمبر-كانون الأول 2011 10:01:40 م