حسنا، أنا أبالغ بالطبع، ولكن خطرت عليّ هذه السانحة التي جعلتها عنوانا، عندما كنت أتحدث مع الصديق د. حميد الشجني، الخبير اليمني في مجال الطاقة والمياه ، الذي يُدرس في بريطانيا.
قال لي وقد كنا نتفق ونختلف حول أزمة اليمن الجارية إنه يخشى أن يأتي يوم على اليمن تتضاءل مأساته الحالية أمام مأساة أكبر هي العطش والجوع، فالماء بات شحيحا هناك، والحرب لا تزيد من المعاناة في صورة قطع المياه وتدمير البنية التحتية فقط، وإنما تمنع فرص الاستعداد ومنع هذه الكارثة قبل حصولها.
إذ لا توجد حكومة يمنية فعالة تخطط لذلك، ولا يستطيع المجتمع الدولي تقديم يد العون والخبرة، وهو عاجز أو غير راغب في إيصال المساعدات الإنسانية الضرورية في زمن الحرب، رغم كل التسهيلات التي توفرها المملكة العربية السعودية للمنظمات الدولية.
عرب كثيرون انتشروا في العالم، يتمنون لو يترك لهم المتحاربون والبيروقراطيون قطعة صغيرة من أرض أوطانهم، يطبقون عليها أفكارهم، وتجاربهم، ويحولون أحلامهم إلى حقائق
تمنى الشجني لو يستطيع أن يعيد السلام إلى قريته التي هجرها قبل عقدين، ويستقر بها، ويطبق أفكاره وما اكتنزه من خبرة في ترشيد استهلاك الماء وإعادة تدويره والبحث عن موارد جديدة له. تخيلنا معا كيف يمكن للقرية أن تزدهر، وتنتشر في أطرافها الحقول والمزارع، يتكاتف أهلها، ويتشاركون الرأي بعد يوم عمل، يجتمعون بحرية في المسجد أو بساحة القرية، يحتسون قهوتهم اليمنية، ويخططون للمستقبل، تنتعش التجارة، ويتوفر المال لسكانها، تتحسن حياتهم وبيوتهم، يذهب صغارهم إلى المدارس، خطط لمعامل للنساء، ينتجن سلعا فيبعنها في القرى المجاورة، وأبعد من ذلك.
كان واثقا من أنه يستطيع أن يحصل على دعم من دول ومنظمات عدة، تخيل لو ينشر ثقافة التطوع لخلق جيل من الشباب اليمنيين يعملون معه، ويكتسبون خبرة يمكن أن يعمموها بكل اليمن.
نظريا يستطيع الدكتور المقيم حاليا بأكسفورد أن يعود إلى صنعاء أو إلى عدن أو تعز، فهو محايد في الصراع، أو هكذا يعتقد، إذ لم يجرب ذلك على الأرض، ففي زمن الصراعات لا أحد يعترف بالحياد بالتالي لن يستطيع أحد أن يضمن له سلامته في "وطنه". كم هو مؤلم هذا الشعور!
يخشى أن يختطفه فريق هو أو أحد الباحثين معه أو أن يطمع زعيم سياسي فيما أنجزوه، أو أن يتهمهم أحمق متطرف بأنهم ينفذون مؤمراة سرية لجهة أجنبية فيستهدفهم بشره وغبائه.
عرب كثيرون مثل د. الشجني انتشروا في مدن أوربا والولايات المتحدة والعالم، خبراء ومتعلمون، أساتذة جامعة، رجال أعمال ناجحون حيث هم في مهاجرهم، ويحلمون مثله، ويتمنون لو يترك المتحاربون والبيروقراطيون والحكومات المركزية التي تريد أن يمر عبرها كل شيء، قطعة صغيرة من أرض أوطانهم، يتركونها لهم، يطبقون عليها أفكارهم، وتجاربهم، ويحولون أحلامهم إلى حقائق.
ولكن اتفقنا على أن هذا غير ممكن بدون سيادة الديمقراطية والقانون واللامركزية في بلاد العرب، حتى في البلاد المستقرة، لابد من المرور عبر بيروقراطية الدولة المركزية، وأن تحصل على شتى الموافقات الرسمية والأمنية من شتى الوزرات المعنية وغير المعنية، حتى تتراكم الأورق وتعطل المبادرة، ويرحل المواطن الخبير وأحلامه عائدا إلى بيته الإنجليزي فيكتفي بكتابة مقال عن "تعز التي ستموت عطشا بعد أن ماتت حربا".