نشاط مكثف لهيئة رئاسة مجلس النواب.. ترتيبات لاستئناف انعقاد جلسات المجلس الجيش السوداني يلاحق قوات الدعم بتحرك سريع ....ويكشف عن عملية عسكرية شاملة لاستعادة السيطرة على الخرطوم.. تهريب الأموال بشوالات عبر المنافذ الرسمية.. البنك المركزي في عدن يعلّق الرئيس العليمي يتحدث عن دعم بريطاني جديد لقوات خفر السواحل اليمنية مقتل ثلاثة اشقاء برصاص قريب لهم في جريمة ثانية تشهدها محافظة عمران خلال يوم واحد توكل كرمان تسلم الأفغانية نيلا إبراهيمي جائزة السلام الدولية للأطفال 2024 أردوغان يحذر المنطقة والعالم من حرب كبيرة قادمة على الأبواب منتخبنا الوطني يصل البحرين للمشاركة في تصفيات كأس ديفيز للتنس وكلاء المحافظات غير المحررة يناقشون مستجدات الأوضاع ومستحقات المرحلة وتعزيز التنسيق وتوحيد الجهود انتشار مخيف لمرض السرطان في أحد المحافظات الواقعة تحت سيطرة مليشيا الحوثي .. مارب برس ينشر أرقام وإحصائيات رسمية
قبل أكثر من أربعين عاما تقريبا في بغداد تثاءب بعض الحضور في قاعة ملتقى المربد الشعري وأوشك آخرون على مغادرتها لمّا قام شاعر يمني كفيف - بشعره الأجعد وآثار الجدري تكسو وجهه- يعارض قصيدة الشاعر العباسي حبيب بن أوس الشهير بأبي تمام التي يقول في مطلعها:
السيف أصدق إنباءً من الكتب في حده الحد بين الجد واللعب
وأدهشت المفاجأة الجميع ووقف الحاضرون إعجاباً وفي القوم فطاحل الشعراء أمثال نزار والبياتي وغيرهم وسجل البردوني إبداعه بأحرف من نور وهو يخاطب أبا تمام بقوله:
(حبيب) وافيتٌ من صنعاء يحملني نسرٌ وخلف ضلوعي يلهثٌ العرب
وفي مثل هذا اليوم؛ الثلاثون من أغسطس عام 1999 توقف العرب عن اللهاث خلف ضلوع البردوني وتوقف قلبه عن الخفقان ليرحل في صمت بعد معاناة مع المرض، ولتفقد الساحة الثقافية اليمنية والعربية خلال فترة وجيزة بعد رحيل البياتي عملاقا آخر استطاع كما جاء في خبر نعيه أن يقهر الظلام، وأن يتحدى إعاقته ليصبح واحدا من رموز الأدب العربي المعاصر ومبدعيه، بل ذهب كثيرون إلى اعتباره "بشار بن برد" اليمن نشأة وإعاقة وسيرة حياة.
وصدمنا نحن الطلبة اليمنيين بتونس لوفاته مثلما صدم كل محبيه من شعراء ومثقفين ومهتمين بشؤون الأدب، ورغم المصاب الجلل؛ ظل عزاؤنا كبيرا في ذلك الكم المحترم من إنتاج الراحل الثقافي أدبا وشعرا ونقدا وتأليفاً.
ولا شك أن الكتابة عن شاعر كبير في وزن البردوني لها رجالها من المختصين والناقدين في الأدب – وهو شرف لا ندعيه – إلا أن وفاته يومها أعادت إلينا شجون ذكريات اللقاء الأول والأخير الذي جمعني بالشاعر الفقيد في تونس، وليس في اليمن، ومعه ذكرى قصة مقابلة صحفية ظلت عشر سنوات حبيسة الأدراج وبدا أنها لن تنشر قط!.
ففي ديسمبر 1990 حل البردوني ضيفاً على المؤتمر السابع عشر للشعراء والأدباء العرب المنعقد في تونس فكان وجوده فيها المناسبة الذهبية التي سعيت إلى اغتنامها حينما أردت الالتقاء وجهاً لوجه مع شاعر كبير عرفته والتقيته "عبر رواغ المصابيح" و "من أرض بلقيس" وفي "اليمن الجمهوري" وفي غيرها من مؤلفاته ودواوينه.
وفهم البردوني بفطنة الشاعر وإحساسه المرهف جمهوره يومذاك. ولما طلبوا منه إلقاء بعض من قصائده "هرب " إلى القصائد الخفيفة التي أدخلت السرور إلى قلوب الحاضرين وأضحكتهم وجعلتهم يصفقون بحرارة وصدق بعد موجة من القصائد الطويلة المليئة بالحماسة والغضب، حتى أن طفلا لأديبة تونسية معروفة تجاوز عمره حينها العاشرة بقليل فاجأني عندما سألته عمن أعجبه من الشعراء بقوله: الشاعر الأعمى!.
ولما حان وقت المقابلة؛ جلس الأديب عبدلله البردوني القرفصاء على الأرض في غرفته في الفندق بكل تواضع وجلستُ على الكرسي المقابل له فيما تنحى مرافقه جانبا يستمع بصمت.
وطيلة الحوار بيننا كنت أرقب هيئته وأتابع حركاته وسكناته وردود فعله على أسئلتي التي بدا بعضها مستفزا، ولا أنكر مقدار استمتاعي بأجوبته وهو يتحدث بجرأة ناقدة ولغة جميلة عن "أدباء من ورق" وعن الغياب الملحوظ للمثقف العربي ودوره في المجتمع مروراً بآرائه الخاصة عن الشعراء العرب عامة والتونسيين خاصة وخرجت من عنده وفي يدي كما اعتقدت صيد ثمين.
ولم أكن أعلم أن شتاء ديسمبر عام 1990 رغم حرارته بأزمة الخليج سيكون مجمدا لمقابلتي الصحفية اليتيمة التي أجريتها مع البردوني كصحفي متدرب في جريدة "الشروق" التونسية وطالب في السنة الثانية بمعهد الصحافة وعلوم الإخبار بتونس لما قررت الصحيفة تجميد صدور الملحق الثقافي الأسبوعي بفعل تداعي أحداث الخليج.
وعلى منوال "آخر حديث مع الراحل" الذي تطالعنا به الصحف عادة في مناسبات مماثلة، أجد أنني ربما أكون قد امتلكت الجرأة وتحدثت بالفعل من وحي الذاكرة عن آخر لقاء صحفي أجرته صحيفة تونسية مع فقيد اليمن الأديب عبدالله البردوني ولكنها لم تنشره، وعاد تاريخ إجرائه إلى ما قبل وفاة شاعرنا بعشر سنوات .. فقط!.
رحم الله البردوني إنسانا وشاعرا وأديبا. إنا لله وإنا إليه راجعون.
إضاءة*:
نشر هذا المقال - قبل تعديله الحالي - في صحيفة الشروق التونسية في سبتمبر1999 بعنوان" البردوني وقصة الحديث الذي لن ينشر" ، أما الحديث أو المقابلة فقدت رأت النور ونشرتها صحيفة 26 سبتمبر بتاريخ 31 أغسطس 2000.
* خبير إعلامي ومدرب