الجهاديون وربيع العرب وثوراته
بقلم/ متابعات
نشر منذ: 12 سنة و أسبوعين و 5 أيام
الإثنين 15 أكتوبر-تشرين الأول 2012 05:58 م

في إحدى رسائله (لعلها الأخيرة وجاءت بعد انطلاق مسيرة الربيع العربي) وقد وجدت في المنزل الذي اغتيل فيه، حث أسامة بن لادن مريديه على عدم الصدام مع الإسلاميين المنخرطين في ثورات الربيع العربي التي كال لها المديح وعدها "أهم أحداث تشهدها الأمة منذ قرون".

ربيع العرب انقسم إلى قسمين، الأول اعتمد سياسة النضال السلمي في مواجهة الطغيان كما في الحالة اليمنية والمصرية والتونسية، وحقق الانتصار في تونس ومصر، وبدرجة أقل في اليمن. أما الثاني فبدأ سلميا كما في الحالة الليبية، لكنه اصطدم بعنف النظام ودمويته، وهو ما اضطره إلى حمل السلاح وصولا إلى النجاح في التخلص من الطاغية ومنظومته، وهو ما تكرر في الثورة السورية التي دفعت عشرات الآلاف من الشهداء والجرحى والمعتقلين قبل أن تتحول إلى "العسكرة"، وإن بقي جزء من فعالياتها السلمية قائما ممثلا في المسيرات وبعض أشكال الاحتجاج الأخرى.

اليوم في تونس واليمن على وجه التحديد، وبدرجة أقل في ليبيا ومصر (تقوم حالة سيناء شاهدا)، وفي سوريا على نحو مختلف بعض الشيء، تنهض الحالة السلفية الجهادية، التي لا ينقص قادتها وعناصرها الإخلاص، تحديا للثورات العربية. هذا بشكل عام مع بعض التفصيلات التي تخص كل حالة على حدة.

مؤخرا جهر إسلاميو تونس في الحكم بشكواهم من العنف الذي تمارسه بعض المجموعات السلفية، الذي ينهض تحديا أمنيا لا يستهان به من جهة، فيما ينهض تحديا سياسيا من جهة أخرى، حيث يستخدمه العلمانيون واليساريون المتطرفون ذريعة للقول إنه لا بد من إبعاد الدين عن السياسة بشكل كامل، متهمين حركة النهضة بمنح غطاء لتلك المجموعات التي تمارس العنف. ولا ننسى أن العنف وعدم الاستقرار سيترك آثاره على مسيرة التنمية في البلاد التي تعاني الكثير على الصعيد الاقتصادي.

حين تكلم الشيخ راشد الغنوشي عن السلفيين لم يقصد قط السلفية تيارا فكريا كما كان واضحا من كلامه، وكما أوضح لاحقا، بل الجهاديين على وجه التحديد ومن يمارسون العنف منهم بشكل أكثر تحديدا (يمكن لكثيرين أن يتبنوا الفكر دون ممارسة العنف)، بدليل أن الحكومة التونسية لم تتردد في منح ترخيص لحزب سلفي، في الوقت الذي منحت فيه ترخيصا لحزب التحرير رغم إيمانه التقليدي بالفكر الانقلابي فيما يعرف بالنصرة، ورغم هجماته التي لا تتوقف على النهضة متهما إياها بالتخلي عن تطبيق الشريعة، فضلا عن التشكيك بولائها من حيث المبدأ (بيانات الحزب تشكك بالحالة الإسلامية المنخرطة في الثورات بشكل عام وتتهمها كما يفعل يساريون وقوميون بالتآمر مع أميركا).

والخلاصة أن أي دولة لا يمكن أن تقبل باستخدام العنف ضد المخالفين، وعلى هؤلاء الشبان أن ينخرطوا في الساحة السياسية ويقدموا طروحاتهم ويقنعوا الناس بها بالوسائل السلمية.

وفي حين يمكن القول إن قصة سيناء وجهادييها تبدو مختلفة بعض الشيء، فإنها تظل جزءا من السياق، وحيث ينبغي للمجموعات الجهادية أن تكف عن التورط في استخدام العنف ضد الجيش المصري هناك، الأمر الذي يستحق الكثير من الحوار بين الدولة وتلك المجموعات، مع تحسين شروط حياة الناس في منطقة سيناء، تلك التي تؤسس بقدر ما لنشوء فكر العنف.

الحالة اليمنية تشكل بدورها تحديا كبيرا للثورة اليمنية، ذلك أن النزيف الذي تتسبب فيه الصدامات بين تنظيم القاعدة والنظام الجديد ما زال يضر بمسار الثورة ويعيق تقدمها نحو تكريس دولة الحرية والتعددية، وهنا أيضا لا بد من الحوار من أجل التوصل إلى تفاهم ما. وإذا كانت الحوارات قد آتت أكلها في مراحل سابقة في اليمن ومصر وليبيا وأنتجت مراجعات معروفة، فليس مستبعدا أن تفضي حوارات مماثلة إلى نتيجة تحقن الدم وتحفظ مصالح البلاد والعباد.

في هذا السياق كان بن لادن في رسالة سبقت الثورات العربية قد ذهب هذا المذهب، فقد قال موجها كلامه لأبي بصير (ناصر الوحيشي)، "فالرأي عندي أن توسطوا كبار العلماء وشيوخ القبائل في السعي للاتفاق على هدنة منصفة تساعد على استقرار اليمن رغم علمنا أن علي عبد الله صالح قد لا يستطيع الموافقة على الهدنة". وفي رسالة أخرى قال إن "التصعيد في اليمن يستنزف جزءا كبيرا من طاقة المجاهدين، دون استنزاف رأس الكفر (أميركا) بشكل مباشر، ولذلك ضرر كبير على المجاهدين بشكل عام".

الحالة الليبية تحضر أيضا في السياق بهذا القدر أو ذاك، ففي حين وضعت أكثر المجموعات الإسلامية السلاح وانخرطت في العملية السياسية، ما زالت مجموعات أخرى تصر على الاستقواء بالسلاح، بل استخدامه أحيانا في المسار الذي تتبناه القاعدة، وهو ما قد يؤثر سلبا على مسيرة التعددية والبناء التي قطعت شوطا كبيرا، وقد يستخدم هذا اللون من النشاط ذريعة لتدخلات عسكرية أميركية كما هو الحال في اليمن. وفي هذا السياق سجّل أحد رموز الجهاديين (عبد الحكيم بلحاج) موقفا متقدما بالانحياز لحل التشكيلات العسكرية والانخراط في العمل السياسي (أسس حزب وطن). ففي مقابلة معه أجريت مؤخرا قال بلحاج بوضوح "نرفض المناداة بتطبيق الشريعة باستخدام السلاح أو التلويح باستخدامه، بعد انتصار ثورتنا نريد بناء دولة حضارية مدنية".

في رسالته التي رحب فيها بالثورات العربية، وكانت موجهة للشيخ محمود (عطية الله) قال أسامة بن لادن "حبذا أن نذكر إخواننا بأهمية التحلي بالمكث والأناة، ونحذرهم من الدخول في أي مصادمات مع الأحزاب المنتسبة للإسلام، ويغلب الظن أن أغلب المناطق ستقوم فيها حكومات على أنقاض الحكومات السابقة، ويترجح أن تلك الحكومات ستكون للأحزاب والجماعات الإسلامية كالإخوان ومن شابههم، وواجبنا في هذه الفترة أن نهتم بالدعوة بين المسلمين وكسب الأنصار ونشر الفهم الصحيح".

ما لا ينبغي أن يتجاهله أحد هو أن ثورات الربيع العربي، بما فيها تلك التي اضطرت لحمل السلاح ليست ثورات إسلامية بالمفهوم التقليدي القديم، وإنما هي ثورات هدفها الحرية والتعددية، وإسلاميوها يؤمنون بالتدرج في إقناع الناس ببرامجهم وصولا إلى إجماع على المرجعية الإسلامية للدولة والمجتمع، وهو ما قد يستغرق وقتا يصعب الجزم بمداه.

ليس بوسع أحد فرض الوصاية على الناس، وإذا كان ربنا يقول "لا إكراه في الدين"، "لست عليهم بمسيطر"، "أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين"، فمن باب أولى ألا يكون هناك إكراه في برامج الحكم الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي ينبغي أن تمر من خلال الأطر الشعبية، وضمن مرجعية الشعب، وهو ما لا يتعارض مع مرجعية الشريعة التي لا تتناقض بدورها مع مبدأ التدرج في تثبيت الحق.

السياسة الشرعية مصالح ومفاسد، وإذا كان الجهاديون قد توصلوا إلى خلاصات مهمة في مراجعاتهم الشهيرة (مصر وليبيا على وجه التحديد، ومع أنظمة فاسدة وتابعة في الآن نفسه)، فإن الجهاديين الجدد ليسوا استثناء، لا سيما أن أصل فكرتهم (في تنظيم القاعدة) هي العدو البعيد وليس القريب، وليس معقولا تحويل العنف ضد العدو البعيد إلى عنف داخلي، أو حتى استخدامه ضد العدو البعيد على نحو لا يأخذ في الاعتبار معادلة المصالح والمفاسد.

تبقى سوريا، وفيها يبدو من الضروري تذكير المقاتلين الإسلاميين الذين يشاركون في الثورة بكل ما ذكر آنفا، لأنها أيضا جزء من ربيع العرب المطالب بالحرية والتعددية وليست ثورة إسلامية بالمفهوم التقليدي كما أشير من قبل، بما يعني أنهم يساعدون شعبا مضطهدا مثلما حصل في أفغانستان دون الدخول في متاهة النزاع الداخلي.

ترشيد الحالة الجهادية ينبغي أن يتم من خلال الحوار مع قادتها ورموزها ومراجعها ومن يمولونها، ولا شك أن الأمة في حاجة لجميع أبنائها من شتى التيارات، ومنها التيار الجهادي الذي كانت له إسهامات مهمة في مقدمتها إفشال مشروع الغزو الأميركي للعراق الذي لو نجح لكانت الأمة هذه الأيام في وضع لا مثيل له من البؤس منذ قرون.

*الجزيرة نت