سيّد ..التاريخ وقانون بلا روح!
بقلم/ د. عبد الله أبو الغيث
نشر منذ: 11 سنة و 9 أشهر و 19 يوماً
الجمعة 25 يناير-كانون الثاني 2013 06:39 م

في شهر أكتوبر من العام 1971م وصل إلى صنعاء برفقة حرمه المصون إلى ما يمكن تسميته آنذاك بمطار، وكان وضع المطار الترابي هو ما لفت انتباه دكتورنا العزيز بدرجة أساسية، أما السيدة حرمه فقد شد انتباهها شيء آخر أصابها بالرعب، وجعلها تطالبه بالعودة إلى مصر، عندما ظنت أن زوجها الفاضل قد أحضرها إلى بلد أهله جميعاً مصابون بمرض غريب ومفجع تراه لأول مرة في حياتها، هذا المرض يصيب الخدود ويجعلها تنتفخ بشكل عجيب ومقزز، ويبدو أنه صار وباء حتى أنه قد أصاب كل من وقعت عليه عيناها في المطار، ولم تستطع أن تتخيل نفسها وزوجها وقد أصيبوا بعدوى هذا المرض البشع.

ولعلكم قد أدركتم الآن بأن المرض الذي أرعب حرم مؤرخنا القدير لم يكن إلا رؤيتها لموظفي المطار وهم مخزنون للقات في خدودهم، في منظر لا يشاهد بشاعته إلا من يأتي من خارج ذلك المشهد.. المهم أن أستاذنا طمأن حرمه المصون وكشف لها سر انتفاخ الخدود؛ الأمر الذي جعلها تبتسم وتتخلى عن فكرة العودة، لتعيش إلى يومنا هذا في أرض اليمن، هذه البلاد التي شاركت زوجها المؤرخ الكبير حبها والهيام بها.

هذه القصة الطريفة والهادفة التي استفتحنا بها هذا المقال تحكي لنا اللحظات الأولى لوصول أستاذنا الدكتور سيد مصطفى سالم إلى مطار صنعاء، عندما قدم من مصر الكنانة معاراً من جامعة عين شمس للعمل في جامعة صنعاء الناشئة، وقد سمعتها من أستاذي الفاضل في إحدى محاضراته القيمة أثناء تتلمذي على يديه خلال دراستي الجامعية في قسم التاريخ (86 – 1990م)، وكان دائماً ما يربط لنا بين أحداث الماضي الذي ندرسه والحاضر الذي نعيشه، رغبة منه بتصحيح مسار حياتنا، عن طريق تخليصها من المظاهر السلبية والسيئة التي تفقدها بريقها الحضاري المتوارث من أقدم الأزمنة. وهي غاية نبيلة لدراسة التاريخ يصبح التاريخ بدونها قصص للتسلية أكثر منه علم يفيد الإنسان.

ورغم أن كل الأساتذة العرب الذين عملوا في الجامعات اليمنية كمعارين قد فضلوا العودة إلى بلدانهم، إلا أن أستاذنا البرفسور سيد سالم قد أصر على البقاء في اليمن بعد أن حصل على جنسيتها، حيث ظل يواصل عطاءه المدرار فيها إلى يومنا هذا، حباً في اليمن، رافضاً الفرص التي لاحت أمامه في دول أخرى وبعروض أكثر إغراءً.

ذلك أن أستاذنا القدير كان قد ارتبط علمياً وعاطفياً باليمن قبل أن يصل إليها، عندما خصص أبحاثه التي نال بها شهاداته العليا في ستينات القرن العشرين لتاريخها الحديث والمعاصر، في وقت كان الباحثون ما يزالون متخوفون من السير في هذا الدرب الصعب، حيث كانت رسالة الماجستير عن الحكم العثماني الأول لليمن، وأطروحة الدكتوراه عن تكوين اليمن الحديث بعد خروج العثمانيين منه عقب الحرب العالمية الأولى، ثم واصل أثناء وجوده في اليمن تأليف العديد من الكتب والأبحاث العلمية عن تاريخ اليمن.

اليوم وبعد أن تجاوز أستاذنا المعطاء سن السبعين أراد أن يتقاعد، لكنه فوجئ بأن القوانين اليمنية لا تسمح له بالتقاعد بمرتب كامل، لكونه لم يمر عليه خمسة وثلاثون عاماً منذ أن حصل على الجنسية اليمنية، حيث أصبح أستاذنا بين خيارين أمر من بعضهما: فإما أن يتقاعد بجزء من مرتبه وهو ما لا نرضاه لمثل هذه الهامة العلمية والقامة السامقة بعد خدمته لليمن لمدة تجاوزت الأربعين عاماً، أو أن يدفع للتأمينات ثمن السنوات المتبقية على اكتمال خدمته مبلغ مالي قدره ثمانية ملايين ريال وهو مالا تسمح به ظروف أستاذنا، لأن المرتب الذي كان يحصل عليه (يادوب) يكفيه لتوفير متطلبات ضرورات الحياة له ولأسرته الصغيرة.

ما كنت أريد أن أجرح أستاذي القدير بطرق هذا الموضوع عبر الصحافة لولا أن كل أبواب المسؤولين التي طرقناها لحل هذا الموضوع قد سدت أمامنا وأغلقت في وجوهنا كل الحلول، وهو ما دفعنا لتناول الموضوع هنا علّنا نجد في هذا البلد من ينظر إلى روح القوانين قبل أن يتشبث بنصوصها الجامدة.

ولا أحسب أن في ذلك خروج عن القوانين أو كسر لها، فذلك ما يحدث في كل البلدان المتقدمة التي تستثني العلماء القادمين من بلدان أخرى من كثير من الأنظمة والمتطلبات التي تطبقها على غيرهم، بغرض جذب أولئك العلماء للعمل لديها وحمل جنسيتها، فلماذا لا نتعامل نحن في اليمن مع البرفسور سيد سالم بناء على ذلك ونستثنيه من بعض متطلبات التقاعد، وإذا كنا لا نعتبر للعلم ميزة تجعلنا نستثني حامليه.. فعلى الأقل لنتعامل معه كلاعب كرة قدم نريد أن نكافئه لكونه فضل اللعب (لمنتخب) اليمن عبر هذه المدة الطويلة رغم الإغراءات التي كانت تلوّح له بها (منتخبات) البلدان الأخرى.

أما إن كانت وزارة المالية - التي رفضت توجيهات رئاسة الوزراء بخصم المبلغ المطلوب من ميزانية مجلس الوزراء لكون ذلك يتعارض مع القانون حسب إفادتها – لا تعرف إلا منطق الحساب والربح والخسارة، فنحن ندعوها هنا أن تجري عملية حسابية بسيطة تقدر بواسطتها المكافآت التي يستحقها البرفسور المؤرخ سيد سالم على أبحاثه وكتبه العديدة التي أنجزها، وكذلك مجهوداته الجبارة التي بذلها لتخريج أجيال من طلاب الدراسات الأولية والعليا في اليمن، وفي هذه الحالة أحسب أن الوزارة ستكون ملزمة بدفع ما سيفيض له فوق الثمانية المليون التي يطلبونها منه، لأنها بالكاد ستكفي مقابلاً لكتبه الثمانية التي ألفها عن تاريخ اليمن.. ذلك طبعاً إن احتسبناها بعقلية موظفينا في التأمينات والمالية المقللة من شأن العلم والعلماء.

ومن يدري فقد لا يطول انتظارنا لحل هذه المشكلة البسيطة التي جعلوا منها قضية عويصة مستعصية على الحل، بحيث لا ينشر مقالنا هذا إلا بعد أن يكون الرئيس هادي قد فاجأنا بالتوجيه بحلها، ذلك أن مستشاره الدكتور الإرياني كان حاضراً في قاعة الزعيم عبد الناصر في حفل التكريم الذي أقيم فيها لهذا العلم البارز والمؤرخ اللامع يوم الأربعاء المنصرم، وسمع من الجميع وهم يرددون بأن أفضل تكريم يمكن أن تقدمه اليمن له إنما يتمثل وقبل أي شيء آخر بتسوية تقاعده بمرتب كامل، بحيث نبادله الوفاء بالوفاء ..ونسأل من الله أن لا يخيب ظننا فيما توقعناه.