انتكاسة ثورة
بقلم/ سامي شرف بكير
نشر منذ: 15 سنة و 5 أشهر و 5 أيام
الأربعاء 22 يوليو-تموز 2009 06:36 م

يمكن القول بان الفترة الزمنية التي تمتد من اليوم الأول لاندلاع الثورة اليمنية المباركة - سبتمبر المجيد – و حتى أكتوبر 1977م بأنه مرحلة مخاض لميلاد مشروع وطني كبير لبناء اليمن الحديث على أسس وطنية تختزل أهداف الثورة اليمنية الخالدة و لهذا جاءت كثيرة الاضطرابات و التجاذبات السياسية . فبالإضافة إلى صراع قادة الثورة مع الملكيين و الذي احتدم في حصار السبعين يوما ، فقد كان ثمة صراع داخلي و تجاذب شديد بين قيادات الصف الأول للثورة، تذكيه اختلاف المرجعيات الفكرية و الأيديولوجية( القومية و الإسلامية ) لتلك القيادات زاد من ضراوتها اختراق القوى الموالية للملكين للنخبة من تلك القيادات. غير أن صراع القيادات هذا لم يشكل خطورة على الثورة الجمهورية .

فقد كان صراع حميد و تنافس مشروع لا يتعدى الثوابت الوطنية ،وتحت سقف الثورة المباركة يقوم على سعي كل طرف على الاستئثار بالسلطة و إقصاء الأخر، لينفرد بتقديم مشروع وطني يجسد تصوراته الخاصة لبناء الدولة على أسس وطنية منطلقاً من مرجعياته الأيديولوجية الفكرية لكنها ضمن الأطر التي رسمتها أهداف الثورة .. إلى أن جاءت مرحلة الجمهورية الثالثة بعد الانقلاب الأبيض الذي أطاح بالرئيس / عبد الرحمن الارياني بقيادة العقيد / إبراهيم الحمدي، ليضع حداً لتلك الصراعات ،و يعلن تبنيه حركة تصحيح ، مثلت بداية حقيقة لميلاد مشروع وطنيً لبناء اليمن الحديث، كدولة مؤسسات تلبي طموحات الشعب اليمني،ويجسد أهداف الثورة المباركة . استطاع من خلاها الرئيس الحمدي أن يؤسس قواعد دولة النظام و القانون و يرسم ملامح الدولة الحديثة في فترة زمنية قياسية ،خرجت فيها اليمن من عنق الزجاجة و تجاوزت حالة التردي و التدهور الذي وصلت إليه لتشهد ثورة تنموية ونجاحات عملاقة في كل المجالات. لكن التدخلات الإقليمية المعادية لنهضة اليمن لم يرق لها أن تشاهد اليمن يتطور و يتقدم بسرعة أسطورية نحو التنمية المستدامة، فبقيت تترصدها و تتحين الفرص للانقضاض عليها . حتى سنحت لها الفرصة يوم 11أكتوبر 1977م المشئوم،عندما اغتالت أيدي الغدر و الخيانة الشهيد / إبراهيم الحمدي و معه اغتالت مشروع اليمن الحديث و دولة المؤسسات و محتوي الثورة اليمنية الخالدة و آمال و تطلعات الشعب و مستقبله. بهذه الحادثة البشعة و الحادث الدنيء طويت صفحة وضاُءة، تعتبر ازهي مرحلة من تاريخ اليمن الحديث ما تزال ذكراها محفورة في أذهان الشعب حتى يومنا هذا.

بهذا الحادث بدأت اليمن مرحلة جديدة من أسوء مراحلها ، لكنها وبرغم أنها لم تتعدى8 شهور فقد مثلت مفترق طريق في مسيرة يمن الثورة و الجمهورية . فبالإضافة إلى السقوط المدوي لمشروع دول المؤسسات ، فقد شكلت هذه المرحلة ذروة التدخلات الإقليمية في شؤون اليمن، و تغلغل أدواتها في مفاصل الدولة كانت احد نتائجه إجراء أول تعديل بنيوي و محوري في بنية النظام الجمهوري نتج عنه ميلاد جمهورية مختلفة الشكل و المضمون عن الجمهوريات الثلاث السابقة ( تحويل مجلس قيادة الثورة إلى رئاسة الجمهورية ) ومعها بدا العد التنازلي لدولة النظام و المؤسسات وتغييب متعمد للثوابت الوطنية .

17 يوليو 1978م إلى 17 يوليو 2009م

تعد هذه الفترة امتداد طبيعي إن لم نقل نسخة طبق أصل لفترة حكم الشهيد الغشمي، بكل ما فيها من سمات و خصائص . بالرغم من أنها الأطول في تاريخ اليمن الحالي و الأكثر استقرار على الصعيد الأمني و السياسي ( باستثناء الثلاث السنوات الأول والسنوات الأخيرة ) إلا أن البلاد لم تشهد خلالها أي مبادرة وطنية إستراتيجية من شانها إحياء مشروع بناء دولة المؤسسات السابق، أو تبني ورعاية مشروع مماثل بنفس المعايير الوطنية، يعمل على درء بالبلاد من خطر التدهور والانحطاط والفساد وكل مظاهر الفوضى التي بدأت تتجه نحوها بخطى سريعة منذ بداية المرحلة .

فالرئيس الجديد المقدم/ علي عبد الله صالح أتى إلى السلطة واعتلى كرسي الحكم في ظل وضع متدهور على كل المستويات و لم يكن هناك رؤية واضحة لمستقبل البلاد و شكل النظام . فأبقي الوضع على ما كان عليه في عهد سلفه من تغييب متعمد لمشاريع وطنية من أجندة الحكم السياسية و تجاوز صارخ للثوابت الوطنية و أهداف الثورة في معالجة الأوضاع. و هذا يؤكد بان الرجل عند توليه مقاليد الأمور و تربعه على كرسي الحكم لم يكن في خلده أي مشروع وطني من هذا النوع و إنما كان يسكنه هاجس الانتقام لزميله احمد الغشمي . و هذه حقيقة أكدها المرحوم الشيخ / عبد الله حسين الأحمر في مقابلة خاصة مع قناة الجزيرة قبل أكثر من عامين . و لا ندري ما إذا كان قد أنهى مهمة الانتقام أم لا؟.

و في ظل غياب مشروع بناء الدولة الحديثة على أسس وطنية و ما تركه من فراغ جوهري في أجندة الرئيس السياسية لتحل محلها أجندة سرية تتصدر سلم أولوياتها رغبته في تقوية نفوذه و تعزيز بقاءه على كرسي الحكم إلى ما شاء الله . الأمر الذي احدث تغيير جذري في توجهات و استراتيجيات الدولة و مؤسساتها لتسير في اتجاه تمرير المشروع الجديد و ما يلزم ذلك من تسخير وحشد إمكانيات دولة بأسرها . مع الأخذ بعين الاعتبار ما قد ينتج عن ذلك من إشكاليات على الساحة السياسية إذا ما عارضت المشروع قوى وطنية شريفة . وهو ما عزز حاجة النظام إلى إيجاد مبررات شريعة و قانونية تسند هذا التوجه فسارع إلى ابتكار استراتجيات و آليات غير تقليدية تبدو في ظاهر منسجمة و متناغمة مع منظومة قيم و أهداف الثورة المجيدة و في باطنها تخدم قيم استهلاكية بحتة تصب في توطيد أركان الحكم و ضمان استمراره على حساب مشروع دولة المؤسسات .و ثمن ذلك كان ظهور مشاريع شخصية لأصحاب النفوذ في الجيش و المجتمع المدني تقوم على قاعدة تبادل المصالح , كسب الو لاءات , شراء الذمم و غيرها من مفردات المقايضة السياسية الذي انفرد بها هذا النظام ولم يتضمنها أي قاموس سياسي من قبل. بمعنى أخر أن هذا كله يعد انقلاب صريح على منظومة مبادئ و أهداف الثورة المجيدة و تجاوز واضح لأدبيات و أبجديات النظام الجمهوري شكلاً و مضموناً التي ظلت ماثلة أمام قادة اليمن و صناع السياسة خلال 16 سنة من عمر الثورة لتدخل بعدها مرحلة الاحتضار إن لم نقل مرحلة الموت السريري بعد أن طالتها أيادي الفساد و العبث و التحريف حتى أصبحت شعارات شكلية تبروز الخطابات الرسمية أو لتشغل حيز في الجزء العلوي من غلاف الصحف الحكومية مع الاحتفاظ بنسخة للحفظ في المتاحف الوطنية.

وبالنظر لما سبق ذكره , فقد جاء هذا النظام مسخاً ملامحه الرئيسية هلامية باهتة، و مضمون هزيل و بشع يرتشف عوامل بقاءه و استمراره من مستنقعات الفساد توأمة روحه و رديفه الشرعي الذي لازمه بحميمة مطلقة منذ أن رأى النور ينمو معه و يتطور يسنده وقت ضعفه و يكمله وقت قوته. فالفساد الذي كان يحتضر بعد أن أصابه الضعف و الوهن خلال فترة التصحيح عاد بقوة هذه المرة ليطل من نافذة تسخير المال العام لصالح تمرير الأجندة السرية للرئيس. وقد نال حظه من اهتمام ورعاية النظام حتى أصبح ثقافة شعبية و سنة يمنية خالصة بتشريعات و فلسفة خاصة به تتغلغل في عمق المجتمع يتفاخر من ارتاد طريقها و يلحق الخزي و العار و السخرية من عافها و تجنب السقوط و التردي في براثينها. في هذا السياق نستشف أن التحريف و التزييف قد طال منظومة القيم الإنسانية و الأخلاقية للمجتمع اليمني بأسره نتيجة مساعي النظام على شرعنة الفساد، و انحسار ثقافة الممنوع و المحذور من فقه النظام و تشريعاته . كما لم يكن مستغرباً لأحد أن يأتي احد رؤساء الحكومات المتتابعة و يعزز هذه الحقيقة و يؤكدها عندما امتدح الفساد و أعلى من شانه قائلاً(( الفساد ملح التنمية )) ليكون بذلك صاحب أول نظرية فساد في التاريخ و ربما حصل على براءة اختراع أو ربما منحته رئاسة الدولة وسام الثورة من الدرجة الأولى .غير أن ما أغفله هذا البطل الأسطوري أن ملحه المزعوم سبق التنمية الغير موجودة ، وأن كثرة الملح تفسد الطعم . و على هذا الأساس فان الفساد (ملح التنمية) قد افشل خطط التنمية و التهم كل شيء أمامه لتدخل البلاد عنق الزجاجة من جديدة تتخبط في دياجير الفقر و الجهل و المرض كما كان الحال عليه تحت حكم الإمامة .و الأنكى من ذلك أن أيادي الفساد قد طالت منجزات و مكتسبات الثورة و الجمهورية و الوحدة و التي ظلت عصية و موضع قداسة ردحاً من الزمن، فأفقدتها بريقها، و أطفأت القها، لتصبح مدعاة للحسرة و الندم , و إن أصر النظام على التغني بها و التغزل بمآثرها في المناسبات عساها تجود له بشيء يسير يرد له ماء الوجه، في ظل الإخفاقات المستمرة و التراجع الكبير والمخيف الذي تشهده البلاد.... كـ انحسار هيبة الدولة و تلاشي سلطة القانون مروراً بالتشوهات التي طالت الوحدة جراء عبث جنرالات النظام و تجار الحروب وصولاً إلى الديمقراطية و التعددية السياسية و تفريغ محتواها و تجيرها لحساب الحزب الحاكم وحده لا شريك له.الى جانب تضييق هامش حرية الصحافة و مضايقة الصحفيين و تهديدهم بالسجن و القتل و انتهاء بالانفلات الأمني و كثرة الحروب و الصراعات و انتشار ثقافة الاختطاف .

و فوق هذا و ذاك , فان مجريات الأحداث و معطيات الواقع وما ألت إليه الأوضاع في البلاد من حروب و صراعات متجددة في عمق الشمال، قابله انفلات امني مخيف و دعوات مناهضة للوحدة أججتها ثقافة الكراهية المنتشرة و النعرات المناطقية التي طفت إلى السطح بعد حرب صيف 94 م ، و أزمة سياسية عاصفة مستعصية تذكيها أزمة اقتصادية خانقة ... هي منجزات طبيعية و نتائج حتمية و تراكمات أفرزتها لسنوات طويلة مصفوفة متكاملة من السياسات الخاطئة التي دأب النظام على انتهاجها منذ البداية و استمر فيها بنوع من الإصرار و التصميم لتتوارثها الحكومات المتعاقبة، و كأنها قدر محتوم و فأل مشؤوم أصاب البلاد و العباد، صاغتها أيادي ساحر ماهر لا يقدر على فك رموزها إلا من حظي بعصا موسى أو من أوتي العلم و هو شهيد. فهي إلى جانب ذلك بدائية الشكل، ارتجالية المضمون، تفتقر إلى أساس منهجي و علمي و لا تجاري التحولات و المتغيرات على الساحتين الإقليمية و المحلية كما أنها لا تلبي تطلعات و أمال الشعب في تحقيق سبل العيش الكريم الناعم بالأمن و الأمان. 

فعلى الصعيد السياسي , عندما اخفق النظام في حل المشكلات و الأزمات السياسية التي عاصرها باستخدام حلول منهجية و إعمال مبدءا الحوار و التصالح و نشر ثقافة التسامح و تفعيل دور السلطة القضائية فاستبدلها بأساليب أخرى مشكوك في أساسها القانوني و الأخلاقي يغلب عليها طابع المراوغة و المناورة منها :حل الأزمات بالأزمات , ترحيل المشاكل العصية , استخدام الكروت الأمنية لتصفية الحسابات السياسية , استخدام طرف ضد طرف أخر مناوئ و الاستقواء به للتخلص من الخصوم السياسيين , استثمار الاختلافات الأيدلوجية و المذهبية للجماعات الإسلامية، و تقوية الولاءات للقبيلة و العشيرة، على حساب الولاء للوطن و ثورته... و معظمها لم تكن جزء من الحل بل كانت مشكلة بحد ذاتها لها تبعات سلبية، بتأثيرات بعيدة المدى يشمل أجيالا بعينها تفوق في أضرارها الفساد ... فهي تزيد الاحتقانات الطائفية, تبث روح الفرقة و الانقسام، و تضر بالنسيج الاجتماعي للمجتمع و تضعف الولاء للوطن .. وما يحدث في البلاد من الفتن و الصراعات إلا دليل قاطع لا يقبل الدحض و التفنيد ..

 و إذا كان هناك نجاح يحسب لهذا النظام! فانه قد نجح في إيجاد هوة سحيقة تفصل بين سياساته و ثقة و أمال الشعب من جهة، و بينه و بين الثوابت الوطنية و منظومة مبادئ و قيم الثورة و الجمهورية و الوحدة من جهة أخرى، بعد أن حولها إلى قيم استهلاكية قابلة للمقايضة و تخضع لمبدأ العرض و الطلب.