منهجية الخطاب الشرعي المقاوم
بقلم/ د. محمد معافى المهدلي
نشر منذ: 16 سنة و 6 أشهر و 12 يوماً
الأحد 27 إبريل-نيسان 2008 11:23 ص

لا شك أنّ الأمة في وضعها الراهن تعيش مرحلة استثنائية تاريخية صعبة وعصيبة، إنها مرحلة مقاومة و استقواء ومواجهة شاملة مع العدو، الذي يعيش في ديارها، ويتقلب في أوطانها، وينهب خيراتها، ويقتل ويدمر كل مقوماتها، وهذا بدوره يتطلب من رواد الأمة وعلمائها وقادتها ومثقفيها وساستها، خطاباً يتلاءم مع طبيعة هذه المرحلة، خطاب يقاوم هذا الواقع المر، ويوجد البدائل والحلول الشرعية المناسبة، ويجمع الجهود، ويوحد الصفوف، لمواجهة الفتن الخارجية، المحدقة بالأمة، والتي لا تفرق بين أحد وآخر، إنها منهجية شاملة، لكل أبناء الأمة، وشرائحها، علماء ومفكرين وقادة وساسة وتجارا.. للإسهام في درء المخاطر عن الأمة، من أبرز ملامح هذه المنهجية الشرعية .

1) الخطاب الإسلامي المقاوم خطاب رشيد وحكيم وأصيل، يقوم على أسس من ثقافة الأمة ودينها وهويتها، بمعنى أنه ليس خطاباً مستوردا، بل هو خطاب أصيل ينبع من هوية الأمة وتاريخها، وينبع من قضاياها ومشكلاتها الحقيقية، وخطاب ينفخ في الأمة روح الحياة والاستقواء والعظمة والعافية، لتتحرك وتنفض عنها غبار الذل والهوان والصغار، وتلك هي طبيعة الخطاب الإسلامي المقاوم الصادق عبر التاريخ، قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه بعد أن حمد الله وأثنى عليه يا أيها الناس إنكم تقرءون هذه الآية وتضعونها على غير مواضعها {عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم} وإنا سمعنا النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب" وقال عمرو عن هشيم كما في سنن الترمذي، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي ثم يقدرون على أن يغيروا ثم لا يغيروا إلا يوشك أن يعمهم الله منه بعقاب" .

 فالخطاب الإسلامي خطاب رشيد وحكيم، ولكنه لا يقبل الظلم ولا الضيم ولا البغي ولا الفساد ولا الإفساد في الأرض، بل هو يقاوم ويصحح المسار ويوجه الأمة إلى المقاومة وإلى أسباب النصر والتمكين، وفق سنن الله تعالى، ووفق قانون المدافعة، إنه خطاب يستخدم القوة في موضعها، والحلم والصبر والأناة في موضعها، وفي بعض الأحيان قد يتطلب الأمر الصمت وعدم التسرع وعدم العجلة، نظرا إلى العواقب والنتائج، ومما يروى في ذلك عن شيخ الإسلام ابن تيمية أنه مرّ ومعه جماعة من أصحابه بتترٍ يشربون الخمر، فهمّ بهم بعض من كان معه، لقتلهم، فأبى عليهم شيخ الإسلام ابن تيمية، وقال لهم، "دعوهم إنهم إن صحوا واستيقظوا قتلوا المسلمين" .

2) الخطاب الشرعي المقاوم يقوم على منهجية واضحة المعالم، محددة الوسائل والطرق، يقوم على المنبع الصافي كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ويقوم على الاعتماد بعد الله على سنن الحياة وقوانين التدافع، كما قال تعالى: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ }الحج40 .

بمعنى أنه يجب أن يعتمد الخطاب الشرعي المقاوم على أساس السنن الكونية وأن يُعمل جيدا في حركته قانون النصر والهزيمة، عبر التاريخ، فليس من الحكمة ولا من الدين ولا الديانة أن يكون الخطاب مبنيا على العواطف والمشاعر الحسنة والنوايا اللطيفة، دونما إعداد وترتيب وتنسيق وتنظيم، وجمع لكافة الأسباب المؤهلة للنصر والتمكين، قال تعالى: {إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً }الكهف84 . وقال تعالى: {فَأَتْبَعَ سَبَباً }الكهف85 .

فلله عز وجل سننا في النصر والهزيمة لم يستثن منها حتى النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ولا صحابته الكرام، سواء في فقه الدعوة ومنهجها، أو في المقاومة والجهاد، أو في الكسب والرزق، أو في البناء والإعداد، أو غيرها من ضروب الحياة، ذلك أن الشريعة مبنية على أساس الابتلاء والاختبار، قال تعالى: {وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ }الأنبياء35 .

إن من ضمن إشكاليات الخطاب الإسلامي المعاصر والمقاوم أنه يغفل الأسباب، في بعض الأحيان والأحوال، أو يُعمل الأسباب ويُغفل جانب التوكل والاعتماد على الله عز وجل، والحق بينهما، والشريعة قاضية بهما، أخذ بالأسباب واعتماد على المسبب سبحانه وتعالى .

3) يعتمد الخطاب الإسلامي على التجميع والحشد لكافة طاقات الأمة وإمكاناتها، بمعنى أنه يسعى ألا يستثني أحدا من المسلمين في ميدان المقاومة الشاملة، فهو بحاجة إلى المهندس وإلى العالم والمخترع، والمربي والطبيب..الخ ويكفيه من كل هؤلاء، الولاء العام للإسلام، والإخلاص الصادق لقضايا الأمة، في الجملة، بصرف النظر عن وجود بعض التقصير في الفهم أو الدعوة، أو السلوك، كما قال تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ }فاطر32، فقد يوجد في الصف الإسلامي الظالم لنفسه والمقتصد والمقصر، فلا يجوز أن يُستثن أحد من هؤلاء في ميدان النضال والكفاح، ولا يجوز أن يبعد أبو محجن الثقفي عن أي ميدان له فيه سابقة أو حذق ونفع عام للأمة، طالما والمعركة محتدمة والحاجة ماسة إلى كل الغيورين على الدين والأوطان .

4) الخطاب الإسلامي المقاوم يجب أن يكون خطاباً واعياً ومدركاً للواقع وظروفه وأحواله المتشابكة، وألا ينجر إلى الحفر والمطبات والانتكاسات والشباك التي ينصبها له الخصوم، بل هو خطاب شرعي رشيد واع يقوم على أساس السياسة الشرعية، وليس يعوزنا المثال على هذا، فتاريخنا الإسلامي مليئ بهذه النماذج الإسلامية الفذة، التي وعت الواقع ومتغيراته وظروفه، بدءاً بخطاب جعفر بن أبي طالب أمام نجاشي الحبشة، وإلى يوم الناس هذا، خطاب جعفر أمام النجاشي، الذي حقق فيه نصراً إسلامياً رائعاً عجز عنه دهاة وعباقرة قريش، وجعل الكفة تميل ميلاً عظيماً نحو نصرة الإسلام والمسلمين .

 فما أحوجنا إلى الخطاب المقاوم الرشيد الواعي، الذي يجيد اللعبة السياسية ويجيد فن المناورة والكر والفر، وتسجيل الأهداف والمواقف المشرقة، التي تعرّف برسالة الإسلام، وتكسب القلوب، وتكسب المتعاطفين، وتحول الأعداء إلى أصدقاء، والخصماء إلى معاونين ومساعدين لتحقيق المشروع الإسلامي الكبير .

 ذلك أن الإسلام بطبيعته خطاب إنساني عقلاني راق، وهو ما جعل أشد أعدائه ومناوئيه يعلنون إيمانهم به، وإسلامهم لله رب العالمين، رغم تاريخهم الطويل في الصراع معه .

 ومن الجدير بالذكر الإشارة في هذا المقام إلى القول بأنه يجب أن يستفيد الخطاب الإسلامي المقاوم من المتناقضات الدولية وأن يستفيد من سنن التدافع الإلهي، وأن يبحث عن الأصدقاء والعقلاء والمنصفين في العالم وهم كثر لنصرة القضايا الإسلامية، التي هي في الأساس قضايا إنسانية، لا يختلف عليها اثنان، ولا تنتطح فيها عنزتان، وفي تقديري أن مما يَنقص قضايانا الإسلامية، بدرجة كبيرة، لسان الفصيح، ولغة الحكيم، وحجة المحامي الأريب، وحنكة السياسي البارع .

 ومن هنا فيتعين على الخطاب الإسلامي المقاوم أن يعد الساسة الشرعيين الذين يفقهون الواقع ويفقهون الشرع، على غرار ما عليه حركة حماس في فلسطين، وهيئة علماء المسلمين في العراق، وغيرها من الحركات والدعوات الإسلامية الراشدة .

5) الخطاب الإسلامي خطاب شرعي في المنهج، عصري متطور في الوسائل والأساليب، متزن مرن، متكامل في الرؤية والتشخيص والعلاج، ذو بعد حضاري وإنساني، يفرق بين فقه الدولة وفقه الفرد والجماعة، فهو ليس خطاباً في غير عصره وزمانه، ولا هو متجاوز لهما، ولا فوق الواقع ولا دونه، بل يعتمد ماضي الأمة وحاضرها ويستشرف مستقبلها، في سبيل نهضة الأمة ويقظتها، قال تعالى: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ }البقرة134 .

6) الخطاب الإسلامي المقاوم خطاب يسخر كل الإمكانات والجهود والعلوم والفنون والطاقات لخدمة المشروع التحرري الكبير، بمعنى أنه ليس خطاباً تقليديا جامداً، بل هو منفتح غير منغلق، تفاعلي غير جامد، محاور غير استبدادي، ينتفع من كل خير وحكمة وعلم، لأجل مشروعه المنشود، يبني ويسدد ويصلح ويجمع ويوحد، ويصنع ويزرع ويؤلف ويشيد أسس الحياة الإسلامية المنشودة .

 هذه بعض النقاط كتبتها سائلا من الله تعالى أن ينفع بها كل قارئ وباحث، كما أسأله عز وجل أن يوحد الأمة ويجمع شتاتها، وأن يرزقها الرشد والراشدين، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

Moafa12@hotmail.com

المصدر: موقع الحملة العالمية لمقاومة العدوان