قصيدة أنثى الضحك للرازحي 1/2
بقلم/ د.عبدالمنعم الشيباني
نشر منذ: 15 سنة و 8 أشهر و 15 يوماً
الجمعة 27 فبراير-شباط 2009 09:26 م

ما يميز الشاعر عبد الكريم الرازحي عن غيره من شعراء اليمن أسلوبه السهل والبسيط والتلقائي في كتابة القصيدة (السهل الممتنع)، يكتب شعراً سهلاً واضحاً بسيطاً وكلمات في متناول القارئ والمستمع لكن يمتنع الإتيان بمثلها...، يستعمل الرازحي كلمات سهلة ( غير شاعرية في كثير من المواضع) بمعنى أنها ليست من بحر الخيال العميق ولا الصور البعيدة ولا التحليق المجنح ، لكن هل تعلمون أن ( شاعرية الرازحي ) تكمن هنا ببساطة؟ يكتب قصيدة ( شوارعية)- المصطلح من إختراع الخباز الكاتب - فهي قصيدة ( شوارعية) لا ( شاعرية) وهنا تكمن عبقرية الشاعر الرازحي....

شوارعية لا شاعرية

أعني بشوارعية الأسلوب لدى الرازحي في كتابة القصيدة( نبض الشارع الشعبي العفوي التلقائي) ، شاعر يجمع نبضات( الشارع) ثم يصيغها بتعبير( الشاعر) فهو شاعر الشارع والشوارع ... إقرأ مثلاً قصيدته ( أربعاء الخراب ) كلمات وتعابير من قلب الشارع يعرفها صاحب العربية وأصحاب الورش والدكاكين والبسطاء والغلابة والناس الطيبون ، جمع انفعالات الغضب الشعبي المقهور وصبه قصيدةً على رأس الوثن الحكومي البليد ، نقطف من أربعاء الخراب ما يلي

صباح الغلاء

صباح التعب

صباح الشوارع

عامرة بالحشود

ومخنوقة بالجنود

صباح الشغب

صباح الهراوة والقبعات

صباح البنادق والراجمات

صباح الدروع في كل حي

تزين أحياءنا

صباح تقدم دبابة

صباح الحجارة يقذفه صبية

جائعون

بدون شنابل

صباح القنابل من كل نوع

مسيلة للدماء/ الدموع

صباح الجياع

أعينهم لافتات

ولادمع فيها

المآقي دم

والفصيلة جوع

صباح الشعوب تجوَّع

ليس لها الحق في أن تبوح

صباح الذين على الريق

هم يقتلون بدون صبوح

صباح الحفاة يظاهرون

أذا أبصروا جزمة هتفوا:

تسقط الأحذية

صباح الولاةِ والوزراء

يرتعدون في الأقبية

صباح الشباب

بلا عمل

وبلا أمل

أعلنوا الاحتجاج

صباح الشوارع مكسورة

بحطام الزجاج

صباح البرع

صباح الحكومة في القنوات

بالمنجزات تشيد

وجدوى الجرع

******

شاعرية عبد الكريم الرازحي في شوارعيته العفوية غير المتكلفة، يكتب شعراً سهلاً وما أسهل أن تقرأ للرازحي قصيدةً ولكن ما أصعب أن تأتي بمثلها، وقصيدته ( أنثى الضحك ) مثال آخر على تلقائية الشارع العفوي صاغها الشاعر بعبارات سهلة وبسيطة لكنها معبرة ومؤثرة وصادقة وتصويرية واقعية .. وللقصيدة شخصيتان رئيستان أو متكلمان هما الشاعر وصديقته (ابتسام) يمشيان يتحدثان في الشارع ويضحكان ويسخران من الناس ومن نفسيهما ومن الشعراء والنقاد بلغة ضاحكة مرتفعة بريئة لا صفراء ولا خضراء... كلمات القصيدة ترجمة عفوية لما دار بينه وبين ابتسام من ضحك وكلام ، فالشاعر هنا لا يتكلف صياغة اللفظة كما يفعل محمود درويش رحمه الله ، يعترف درويش أنه يقضي وقتاً طويلاً في تنميق وزخرفة القصيدة التي يكتبها حتى تبدو مقنعة بشاعريتها لكن الرازحي لا يفعل هذا ولا يعدل في الكلمات ولا ينمق ولا يزخرف، كلمات القصيدة بلغة ( الإنسان البسيط ) وهنا يكمن تأثيرها وشعبيتها وإقبال الناس عليها......

مهرجان القصيدة ومهرجان الضحك

الرازحي لا يخطط لكتابة قصيدة ( الإلياذة ) لأنه (شوارعي القصيدة) والقصيدة عنده مهرجان شعبي قد يكون ضاحكاً وقد يكون باكياً أو ساخراً ،مهرجان قصيدة ضاحكة من غير رقيب ومن غير تنميق أو تخطيط ومن غير مساحيق أو مكياج، تصل إلينا دائماً أشعاره مهرجاناً عفوياً شعبياً غير متعسف ولا متكلف،( مباشرة قلبية ) تؤثر في القارئ والمستمع من غير أي حاجة إلى واسطة من المفردات الثقيلة أو النحت اللغوي الرخامي، تعالوا نعش صدر القصيدة ( أنثى الضحك):-

ضحكنا كثيراً

ضحكنا إلى أن بلغنا تخوم البكاء

إلى أن تعبنا

من الضحك كدنا نموت

من الضحك متنا

نسينا مع الضحك شكل الكلام

<<<

في مهرجان الكلام

ضحكنا بدون رقيبٍ

بجدِّيةٍ لا تُطاقُ

جُبنا الشوارع

نمشي ونضحكُ

من كل شيءٍ

ومن أي شيءٍ

من الشعراء

من بعضهم

يحضر المهرجان

يجيء بصحبة نُقادهِ

ناقدُ عن يمينٍ

ناقدُ آخرُ عن يسارٍ

تصيح «ابتسام»:

«كيف تسيرُ بلا ناقدٍ؟

أيُّ رعبٍ

وأيُّ جنون؟»

وفي شارعٍ مثخنً بالزحام

تفجَّرت الضحكاتُ

تفجَّر مقَهىً على شارعين

تشظىَّ الزجاج من الضحكات

ومن قهقهاتِ «ابتسام»

لها ضحكةُ أصلها غامضُ

تتفرَّعُ مثل قرون الأيائلِ

أصداؤها،

صوتُ بعض المعادن حين تَجنُّ

وصوتُ جنون الرخام

***********

تجسيد لصورة الضحوك ابتسام

تعالوا نتأمل قوله " تصيح ابتسام" أي ناقد سيعترض على استعمال كلمة " تصيح" هنا بحجة أنها غير شاعرية وأنا أقول- ( أنا الخباز أعلاه)- بل هنا الشاعرية يا حضرة الناقد( الأعجم ).. ،( تصيح ابتسام ) لا نجد لفظة تعبر بتلقائية غير كلمة ( تصيح) لا نريد كلمة ( تقول) أو ( تثور ) مثلاً ولا غيرها..،ثم دعونا نتخيل شكل ابتسام (الجسد) كما صورها الشاعر ( أدعو الرسامين والفنانين متابعة هذا التجسيد ورسم صورة للشاعر الرازحي وابتسام كما صورتها القصيدة)....

الرازحي يمشي مع امرأة نا ضجة ( 34 سنة) طويلة وممتلئة وذات أرداف ثقيلة ، وفمها واسع ( لقف مفرووووط) وأسنان بيضاء ، ابتسام تضحك ببراءة وبصوت عالٍ ، يمران من شارع العشرين في صنعاء المؤدي إلى شارع هايل ،يسيران معاً جنباً إلى جنب ، وأن ضحكات ابتسام العالية دليل برائتها وثقتها بنفسها ودليل حيوية الأنثى الممتلئة تضحك فيتهشم زجاج المحل ولم تبال- من فرط ثقتها بنفسها- ما سيقوله الناس في الشارع...

ونواصل الحديث بإذن الله في الحلقة القادمة

abdulmonim2004@yahoo.com