حقل ألغام
بقلم/ باسم الشعبي
نشر منذ: 14 سنة و 7 أشهر و 18 يوماً
السبت 27 مارس - آذار 2010 11:15 ص

نبدي في الغالب تفاؤلاً تجاه مهنة الصحافة إلا أن ذلك سرعان ما يتلاشى لتكتشف أنك أمام حقل ألغام.. إنها حقاً مهنة المخاطر.. ودافع التفاؤل هو في أن تجد الصحافة الفرصة للانتقال من (الشغل الدكاكيني) إلى العمل المؤسسي الذي يضمن الصحفي في ظله حقوقه القانونية على الأقل.

إن من شأن ذلك تخفيف المعاناة فمن غير اللائق أن تحاصر الصحفي الألغام من كل اتجاه فلا يجد مفرا ولا منقذا.

لربما تشفى فيه البعض قائلا: "من قال له يكون صحفي" ومن بيده القدرة على مؤازرتك ولو (ببيان) يكتفي بالنظر إليك متأملا كما يفعل (المفكرون) أو الهائمون خارج الواقع والتاريخ قبل أن ينبري لاتخاذ موقف.. إنها مهنة المتاعب حصادها الحفر والألغام وليس الورود.

لا بأس فيما حصل.. فبالنسبة لنا في (أخبار عدن) فإن الحكمة القائلة: "الضربة التي لا تقصم الظهر تقويه" تنطبق تماما على أول استداعاء للنيابة بحق الصحيفة كما قال كثيرون اتصلوا متضامنين ومؤازرين رغم ما تحدثه الضربات الاستباقية من متاعب وارتباكات عند أول المشوار.

من الواجب القول إن سيل الاتصالات والرسائل التضامنية التي تلقيناها من الناس وهم في أغلبهم قراء ومتابعون خلال الأيام الماضية من داخل عدن وخارجها مجملها أشارت إلى الحكمة المذكورة آنفاً, وزادت أن أكدت وبحرص واهتمام كبيرين على أهمية الاستمرار في الخط والنهج الذي يعلي من شأن قضايا الناس ويدافع عنها بصدق ووضوح دائمين.. وإلا ما فائدة الصحافة ورسالتها.

ولو أن هناك متسعا لذكرنا كم الرسائل الواصلة وأصحابها, والأشخاص الذين زاروا مكتب الصحيفة ليعبروا عن تضامنهم مع هيئة تحريرها وكم الاتصالات التي شدت من أزر الصحيفة وعودها الطري ولم يخف البعض قلقهم تجاه تجربة صحفية ينظرون إليها بأمل وتفاؤل.. لا يسعنا إلا أن نشكر هؤلاء جميعا كما نشكر زملاء المهنة في المواقع الإخبارية والصحف السيارة الذين أكدوا من جديد أن الأسرة الصحفية "كلٌ لا يتجزأ".

وإذا ما عدنا قليلا إلى الوراء فلن نأتي بجديد إذا ما قلنا إن كثيرين أخذوا يشفقون على تجربتنا عند بدايتها، انطلاقا من إدراكهم حجم الضغوطات التي قد تواجه الصحيفة وهيئة تحريرها معللين ذلك بتوقيت صدورها.

الضغوطات حقيقة لا ننكرها فهي تتنزل دون توقف وما من مخرج إلا في التعايش وفي أحلك الظروف خلق تسوية مؤقتة معها.

المسألة لا يتخللها إكراه أو إغراء أو شيء من هذا القبيل وهي بالنسبة لطاقم الصحيفة أشبه بمغامرة وتحد, نعم تحد لربما فرض على صحفيين أو مهنيين كثر تطلعوا إلى النجاح من قبل في واقع يدركون مدى صعوبته وتعقيده, لكنه بكل تأكيد لا يشبه الواقع الذي بدأنا العمل فيه وما زلنا.

من تخريجات هذا الواقع (الزفت) رسالة لأحد القراء تقول: هناك كلام يتردد بأن صحيفتكم بديلة "للأيام" هل هذا صحيح؟. ثم يواصل: إذا نشرتم أخبار "الحراك" ماذا ستقول عنكم السلطة؟ وإذا نشرتم أخبار السلطة ماذا سيقول عنكم أصحاب "الحراك" لاسيما وأنتم تصدرون صحيفتكم من عدن عاصمة (الجنوب) على حد قول صاحب الرسالة.

لم يكن هذا القارئ بمفرده, فهناك أيضا زملاء نحترم وجهات نظرهم كانت لهم مواقف وآراء حملت بعضها أسئلة واستفسارات محرجة وبعضها الآخر بدا مقلقا ولاذعا.. لقد حاصرتنا (الاستجوابات) من هنا وهناك وما كانت تلك لتحضر دفعة واحدة قبل أن يطل المولود برأسه لنعرف أولا أهو ذكر أم أنثى، سليم أم سقيم لو أن ذلك يحدث في واقع غير واقعنا الرمادي هذا.

بدأنا العمل قبل ما يزيد على سبعة أشهر وحتى هذه المدة القصيرة ليست كافية في تقديري للوقوف على تقييم منطقي لتوجهات مشروع صحفي لا تزال هيئة تحريره تسعى جاهدة إلى أن تنأى به عن التجاذبات السياسية والمناطقية والحزبية الحادة والمستعرة.

ولولا أن الوضع القائم في البلاد قد وصل إلى ما وصل إليه من تعقيد سياسي وثقافي يثير القلق والتوجس لما علق البعض عند صدور كل عدد جديد: هذا عدد وحدوي وذاك انفصالي وهذا سلطوي ومتوازن, ونص نص.. وهكذا. وإذا كنا نقدر في هيئة تحرير الصحيفة مثل هكذا أحكام أو فلنقل تعليقات ونعدها نتاجا لحساسية المواقف والأوضاع وليست القناعات فهل بإمكان هؤلاء مبادلتنا التقدير نفسه في حال بدا ما يسوؤهم فعلا؟.

أحد الزملاء قال لي ذات يوم: "الله يعينك يا بن فضل" وظل يرددها في كل اتصال أو لقاء يجمعنا وعندما سألته على ماذا يعينني؟ قال: على الصحيفة والتوقيت السيئ الذي بدأتم فيه, ثم استغرق في لحظة تأمل ليعود قائلا: حراك يريد انفصال بالقوة.. وسلطة تريد وحدة بالقوة وما بينهما خاسر.

لقد استعان بهذه الكلمات بدلا من أن يقول مبروك على (رئاسة التحرير) أو بالتوفيق أو غيرها من الكلمات الباعثة للاطمئنان والتشجيع والتحفيز.. يبدو أن الوضع لم يساعده على قول غير ذلك ولا حرج عليه.

هذا لا يعني طبعا غياب رسائل الإشادة والإطراء.. لكن ذلك لم يكن كافيا لمنحك الشعور الذي يجنبك الإحساس بالسير على حقل من ألغام أو ارتداء حزام ناسف..! هذا هو حال الصحافة في بلادنا.. والسؤال هنا: هل صحيح أن إصدار (أخبار عدن) جاء في توقيت سيئ؟ وماذا لو أنها صدرت في وضع أحسن حالا، أقصد قبل بدء الحراك وإغلاق "الأيام" وإيقاف غيرها من الصحف؟ هل سيعفي ذلك طاقمها من المتاعب وعبء المسئولية؟ لا أعتقد أن هذا كان سيحدث، ولكن يمكن القول إنه كان سيكون أقل وطأة من زاوية مضاعفة المسئولية الآن تجاه الوطن والزملاء.

من حق القراء والمتابعين تحديد خياراتهم وتصنيفاتهم كما أنه ليس واجبا عليك كصحفي إرضاء جميع الناس أو إشباع رغباتهم.. لكننا في هيئة تحرير (أخبار عدن) نعتز بما قدمناه حتى الآن.. ولا أجد ضرورة في التأكيد على أننا لسنا بديلا لـ"الأيام" أو غيرها من الصحف لإدراكنا بأن لكل صحيفة شخصيتها وطابعها المستقل عن غيرها وما تمر به "الأيام" ورئيس تحريرها من محنة مستنكرة ومدانة نأمل أن تنفك في أقرب وقت وتعود الصحيفة لقرائها من جديد؛ لأنه لن يستطيع أحد تعويضهم ما فقدوه بغيابها كما لن يستطيع من يستسهل الأمر بما أوتي من إمكانيات في الحلول مكان صحيفة عمرها يزيد على نصف قرن.. إنه ضرب من خيال، لكن هذا لا يمنع من أن يشكل أي إصدار وليد إضافة جديدة ونوعية أو خلق حراك صحفي محمود بدافع التميز والإثراء.

وبالعودة إلى ما سبق، ففي الأفق لا يبدو أن هناك بصيص أمل يبدد حقول الألغام ويعمل على تسوية الأرضية أمام الجميع سياسيين وصحفيين كي يتمكنوا من السير بسلام واللعب من دون حذر وتوجس وترصد.. لكننا سنظل ننشد هذا الأمل دائما لأن به نحيا ونبقى.

*نقلا عن صحيفة "أخبار عدن".