في ٢ ديسمبر ١٩٦٤، تقدم القاضي الشهيد محمد محمود الزبيري والمرحومان القاضي عبدالرحمن الأرياني والأستاذ أحمد محمد نعمان إلى المرحوم المشير عبدالله السلال رئيس الجمهورية حينها باستقالاتهم من مناصبهم الرسمية، وكانت الجمهورية الوليدة تخوض حربا ضروسا ضد أنصار الملكية في كل أنحاء اليمن الشمالي، والقوات المصرية تلقي بكل ثقلها العسكري والسياسي دعما للنظام الجمهوري الذي قام في ٢٦ سبتمبر ١٩٦٢.
لا يمكن التشكيك بولاء العظماء الثلاثة للنظام الجمهوري بل كانوا أول من نادى بقيامه وحشد الناس لدعمه، وكانوا أكبر من المواقع الرسمية التي لم تضف لرصيدهم الوطني، ولم يسعوا يوما لجعلها هدفا يتصارعون من أجلها ولا غاية يحققون من خلالها المكاسب الذاتية، بل كانوا هم الإضافة التاريخية للحكومة الشرعية المعترف بها والممثلة للأغلبية الساحقة من
الشعب اليمني، وكان حب اليمن أرضا وإنسانا وازدهاره وتحقيق السلام فيه لكل اليمنيين؛ جمهوريين وملكيين، هو شعارهم لذي قدموا حياتهم من أجله، وتقدم الثلاثة باستقالاتهم إلى المشير السلال لأسباب شرحوها في بيان مكتوب بعنوان «لهذا استقلنا».
كتب الراحلون «وإننا بعد تجربة العامين نجد أن الأخطاء قد تراكمت والمشاكل قد تفاقمت، والفساد قد انتشر واستشرى.. إن التذمر الشعبي قد تعمق واتسع وإن التشكك في الثورة والجمهورية قد تطور
واشتد حتى أصبح الشعب يعبر عن يأسه من الوضع لعجزه عن تحقيق الآمال الكبيرة التي أسرف المسؤولون في الوعود بها وعجزوا عن الوفاء بشيء منها».
لخص الثلاثة الأسباب بانعدام الانسجام الفكري والنفسي بين كبار المسؤولين وعدم توفر الثقة بينهم وانعدام وجود مخطط سياسي واقتصادي وثقافي واجتماعي وعسكري متفق عليه، وعدم توافر روح
الالتزام والانضباط والتقيد بالعمل في حدود الاختصاصات والحرص على عدم تجاوزها والنزوع إلى الفردية والارتجالية التي يتسم بها الكثير من التصرفات التي سببت الكثير من التناقضات.
أضاف الثلاثة في بيانهم «يا سيادة الرئيس لقد تقلبت بنا المناصب خمس مرات في خلال عامين، وكنا في كل مرة نألو على أنفسنا ألا نتحمل أي مسؤولية في وضع انعدمت فيه المقاييس وفقد فيه
النظام وامتهنت القوانين وشاعت الاختصاصات وألغي الفكر وأبعد الشباب المثقف بشتى التهم والمعاذير، ولكن حرصنا على وحدة الصف وجمع الكلمة أمام أعداء الثورة والخشية من أن يفسر ذلك
بالصراع على الكراسي، كل ذلك جعلنا نضغط على أعصابنا، ونضحي بكرامتنا، إيثاراً لمصلحة البلد وتعليلاً للنفس بإصلاح الأحوال، والتمكن من تصحيح الاوضاع»..
في النهاية قال الثلاثة «ولما خاب الأمل وانقطعت الحيل واختلت موازين القيم واعتبر طائفة من الناس أنفسهم رؤساء جمهورية غير مقيدين بقانون أو دستور، انتشرت الفوضى الإدارية وتناقضت الأوامر
ففقدت قيمتها، وعجزت السلطة التنفيذية عن تنفيذها ووضع حد لتناقضها، فسقطت هيبة الحكومة ورفضت أوامرها واضطربت الأحوال وضاعت الأموال وأصبح التدهور عاماً، واليأس مطبقاً، وبلغ الأمر
إلى الحد الذي أصبحت معه -نتيجة لذلك- وحدة الوطن مهددة بالتمزق والانقسام، فبات من الواجب علينا بعد كل هذه المدة وإزاء كل تلك التجارب والأسباب بات من المحتم علينا، عملاً بالصدق مع الله
ومع الشعب ومع أنفسنا وإخواننا وزملائنا في العمل والمسؤولية، أن نقدم استقالتنا إلى سيادتكم راجين قبولها وداعين لكل الإخوان المسؤولين بالتوفيق والعون في خدمة هذا البلد الطيب».
إن الحروب لا يمكنها تحقيق الانتصار بالمواجهات المسلحة ولكن برص الصفوف والتعامل الجاد والانفتاح على كل القوى التي تقف مساندة لإنهاء الانقلاب، لأن الخلاف معها ليس في الهدف النهائي
ولكن بأسلوب تحقيقه الذي لا يجب أن يكون عبر التشبث بالمناصب ومباهجها ومغانمها هو الغاية منه ولا يجوز تحول الصراع من نضال من أجل الوطن إلى تمسك بالمواقع التي نالها كثيرون ودفعتهم
إلى الواجهة دون استحقاق وطني الذي هو وحده في نظر الأغلبية الشعبية ما يعيق التوصل الى إحلال السلام في اليمن.
لا أدري إن كان القول «ما أشبه الليلة بالبارحة» دقيقا وينطبق على حال اليمن الآن لأنه من الصعب استنساخ رجال بحجم العظماء الثلاثة.