* جهاد الخازن
كنت قرأت مقدمة الكتاب «أميركا والعالم: إغراء القوة ومداها» من تأليف أخينا غسان سلامة، وبعدها صفحات من الفصل الاول عندما توقفت، وانتقلت الى قائمة «المصادر والمراجع» في نهاية الكتاب، ووجدت امامي نحو 30 صفحة، وأكثر من 350 مصدراً ومرجعاً، كلها تقريباً أميركي باستثناء قلة فرنسية.
الكتاب وضع اصلاً بالفرنسية، وترجمه مصباح الصمد مع مراجعة المؤلف، وهو صادر عن «دار النهار»، وإن كان له من اطروحة كما يقول الدكتور سلامة فهي ان النظام العالمي رقعة شطرنج متعددة الأبعاد، الولايات المتحدة فيه قطب عسكري وحيد، الا انها ضمن ثنائي او ثلاثي اقتصادي، غير ان الهيمنة العسكرية بما تمتلك من امكانات ضخمة وانتشار تجعل الولايات المتحدة ذات قدرات حاسمة، وتلغي أي منافسة جادة للجبار الاميركي في المدى المنظور.
لا أدري لماذا وجدت نفسي وأنا أقرأ كتاباً يقدم للقارئ خلاصة الفكر العالمي الحديث في القرن العشرين قبل ان يسبر معه عناصر الدور الاميركي المتوقع في العقود الاولى من هذا القرن، إن لم يكن القرن كله، اعود بين حين وآخر الى نقد عمره اكثر من ألف سنة قرأته يوماً في كتب التراث العربية، فقد طُلب من عالم ان يقارن بين عالمين من معاصريه، فقال عن واحد ان علمه اكبر من عقله، وعن الثاني ان عقله اكبر من علمه.
غسان سلامة، الاستاذ في السوربون والوزير السابق، هو من ذلك النوع النادر من المفكرين في أي عصر، فهو يجمع العلم والعقل، فقراءته موسوعية، وتحليله عميق نافذ. وربما كنت أبالغ بطريقة لاشعورية، لأنني قرأت كتباً كثيرة يتوكأ عليها المؤلف، ولأنني اتفق معه في ما خلص اليه من ملاحظات وآراء.
الدكتور سلامة كان معجباً بالبراغماتية الاميركية التي تبتعد عن نقل الافكار المسبقة والنظريات الخرقاء، الا انه تعامل مع الاميركيين في العراق، وذهل لجهلهم بالمعطيات الأساسية للبلد المحتل ولقلة اهتمامهم بأن يعرفوا، ولما بدا من ان بعضهم مسكون بـ «رؤية شبه دينية» يرفض تعكيرها بتفاصيل تعارضها او تثبت عدم امكان تطبيقها.
إذا كان الرئيس يملك خطاً مفتوحاً مع «فوق»، فلا عجب ان تصاب ادارته بالصمم طالما انها تعمل بتفويض إلهي. فالأصوات المعارضة في الداخل تعرضت للحصار والتهميش، والتحذيرات الخارجية اعتبرت من مظاهر «كره أميركا»، وبلغ الصمم بالادارة انها رفضت تقارير اجهزة الاستخبارات الاميركية نفسها، واختارت الاعتماد على منشقين لا صدقية لهم، او شكلت اجهزة خاصة توفر لها تقارير تناسب قضية الحرب.
ثمة مادة تراكمية اصبحت توفر دليلاً قاطعاً تقبل به أي محكمة على ان ادارة بوش اعدت للحرب على العراق فور دخول الرئيس الجديد البيت الابيض وقبل ارهاب 11/9/2001. وكل ما فعل الارهاب هو انه اعطى الادارة الذريعة وسهل لها حشد تأييد للحرب بتخويف المواطنين، وارهاب المعارضين الذين بقوا على معارضتهم، وتقليص الحريات الاميركية بحجة حمايتها.
الصفحات عن وودرو ويلسون وشبح افكاره على السياسة الاميركية قراءة الزامية، فمع ان الناخبين الاميركيين نبذوا ويلسون سنة 1920، الا انه اكتسب مع مضي الوقت شيئاً من القداسة، فلا يكاد يوجد رئيس اميركي لا يعتبر انه «ويلسوني». غير ان الدكتور سلامة يقول ان «الويلسونية» اسطورة، فقد تدخل ويلسون في شؤون الدول الاخرى، واستبدل ديكتاتوراً بآخر في الفيليبين، ورفض المعارضة في الداخل فنفى اغلب معارضيه او سجنهم، وحاول اعادة تشكيل العالم تبعاً للقيم الاميركية. وهناك مقارنة معبرة بين مواقف ويلسون من نشر الديموقراطية ومواقف بوش، بما في ذلك استخدامها عذراً للمغامرات العسكرية التي يبررها ان اميركا «المدينة المشعة على الجبل» والمتسعة لتشمل كامل العالم.
إذا نزلنا من عالم غسان سلامة الفكري الى الشارع، فترجمة ما سبق هيمنة اميركية، اخطر ما فيها علينا ذلك التحالف الشيطاني مع اسرائيل على العرب والمسلمين، وليس على الفلسطينيين وحدهم.
القارئ سيجد «الولاية الحادية والخمسون في الاتحاد» في الفصل السابع من الكتاب الذي حمل عنوان «العدو الجديد»، وهو فصل يكتسب اهمية اضافية بالنظر الى الجدل الذي يلف العالم منذ نشر الصور الكاريكاتورية المسيئة الى النبي محمد (صلّى الله عليه وسلّم)، وردود الفعل الغاضبة والعنف رداً عليها.
الدكتور سلامة يقدم رؤساء عصابة المحافظين الجدد ويفضح فكرهم ويهدمه بهدوء اكاديمي ليس عندي مثله، فمرشد العصابة هو برنارد لويس الذي اصبح المرجع في الاسلام والمسلمين، مع ان اختصاصه الاصلي هو الامبراطورية العثمانية. ولن اسجل هنا اسماء اركان العصابة الذين جعلوا من الاسلام عدواً بعد الشيوعية، فهم يردون في ما اكتب يوماً بعد يوم، وكلهم يغذي زعم لويس ان هناك صراعاً مع الاسلام لم يبدأ امس، وانما منذ تأسيسه في القرن السابع الميلادي، وحتى اليوم من دون توقف.
اختار ان انقل باختصار شديد عناصر قراءة العصابة للعرب والمسلمين التي تشكل ارضية التوجه الامبراطوري الجديد. والدكتور سلامة يقدم ثمانية عناصر هي: اولاً ان المسلمين بعيدون من اجراء مقاربة عقلانية وسياسية للعالم، فهم مصابون بنوع من «الحنق» العضوي على الغرب، وثانياً هذا «الحنق» ليس جديداً وانما هو قديم قدم الاسلام وقائم على صراع حضارات، وثالثاً طالما ان المواجهة بهذا العمق، فليس من المجدي البحث عن اسبابها في ممارسات اميركا، ورابعاً هذه القراءة تستثني تركيا (لويس متعاطف معها الا ان حكومة نجم الدين اربكان الاصلاحية بخلفية اسلامية صدمته)، وخامساً انه لا يوجد رأي عام في بلدان العرب والمسلمين، وسادساً الانظمة العربية والاسلامية لا تفهم سوى لغة القوة سواء كانت دينية او علمانية، وسابعاً بما ان الانظمة أسيرة «شارع حانق»، فلا جدوى من التعامل معها، وثامناً اذا كان الحلفاء الاوروبيون لا يشاركون الولايات المتحدة هذه القراءة، فلأنهم اخطأوا في استقبال أقليات مسلمة في بلادهم.
الكتاب «أميركا والعالم» يستحق القراءة، قراءة كل صفحة بين دفتيه.
في الأحد 05 مارس - آذار 2006 11:34:21 ص