دردشات إرهابية
بقلم/ د. محمد جميح
نشر منذ: 6 سنوات و 11 شهراً و 12 يوماً
الجمعة 01 ديسمبر-كانون الأول 2017 03:41 م
 

«الإرهاب»، تلك الكلمة الزئبقية التي لا يمكن الإمساك بها، لفظها يتزلج على اللسان، ومعناها ينسرب من صفحات القواميس الغائمة. إلى اليوم يرفض الأمريكيون تحديد مفهوم «الإرهاب» بتعريف «مانع جامع». الوضع الراهن للمفهوم مريح، مريح جداً، ليس للأمريكيين وحسب، ولكن للروس والإسرائيليين والإيرانيين ولكثير من الأنظمة القمعية في العالم.
يمكن للقاذفات بعيدة المدى الروسية – مثلاً- أن تدك المدن السورية على رؤوس أهلها، وبعدها تطل الجميلة ماريا زخاروفا لتقول للعالم كم هو خير ونبيل فلاديمير بوتين في قتاله المرير ضد الإرهابيين الأشرار في سوريا. يخيل لي أحياناً أن الدول لا توصف بالإرهاب، ليس لأنها لا تقتل المدنيين كما يفعل الإرهابيون، بل لأنها تختار الجميلات ناطقات رسميات في وزارات الخارجية، للتغطية على الأعمال الإرهابية. تذكروا أنه في الوقت الذي كانت واشنطن تمارس أعمالاً إرهابية بامتياز في العراق، كان العالم يتحدث عن أناقة كونداليزا رايس، وجمال ساقيها.
والآن، دعونا من ساقي «السوداء الجميلة» على حد تعبير المرحوم معمر القذافي، ولنركز على التساؤل: كيف يمكن – منطقياً- أن تكون أعمال تنظيم «الدولة» والقاعدة إرهاباً (وهي كذلك)، ولا يكون محو حلب والفلوجة من الخريطة عملاً إرهابياً؟ كيف يمكن أن نصف تفجير كنيسة أو مسجد على رؤوس المصلين بأنه إرهاب (وهو كذلك)، ولا نواصل الجرأة لوصف تفجير مدينة بأكملها على رؤوس سكانها بأنه عمل إرهابي؟
لو أن تحديد مفهوم الإرهاب يتم بعدد الضحايا من المدنيين، فإن حظ إرهابيي «القاعدة» الذين قتلوا أكثر من 3000 مدنياً في برجي مركز التجارة العالمي، يتضاءل أمام حظ من قتل مئات الآلاف، في العراق وأفغانستان، ثأراً لضحايا هجمات الحادي عشر من سبتمبر. ولو كان تحديد مفهوم الإرهاب يتم بناء على حجم الدمار لتضاءلت نسبة دمار برجين مقابل نسبة دمار بلدين، الأمر الذي يجعل المقارنة بين جورج بوش وأسامة بن لادن تميل لصالح الأخير بشكل قطعي. يبدو واضحاً هنا أن عدد الضحايا بين المدنيين، وحجم الدمار الهائل، ليس المعيار الذي يتم به تحديد ما إذا كان العمل إرهابياً أم لا، يبدو أن أشياء أخرى تحدد من هو الإرهابي ومن هو الذي يحارب الإرهاب! ربما كانت تلك «الأشياء الأخرى» تدور حول هويات الضحايا، أو هويات الإرهابيين، أو ربما كانت تلك الأشياء تدور حول أماكن العمليات الإرهابية، يدعم ذلك الافتراض كون وسائل الإعلام تحرص على تحديد ديانة أو هوية الإرهابي عندما ينتمي للمسلمين، ولكن هذه الوسائل تغفل الديانة أو الهوية عندما يكون الضحايا – لا الإرهابيين- من المسلمين، حتى لقد أضحى مألوفاً أن المجرم إذا كان مسلماً، فإن تلك الوسائل تهتم بخبر «الإرهابي المسلم»، أما إذا كان المجرم غير مسلم، فإن الميديا لا تهتم بـ»أفعال المجانين». هل يمكن بعد كل هذا الضخ المرعب للمواد الإعلامية والأكاديمية الملتبسة، والتضليل الكبير حول مصطلح ومفهوم «الإرهاب»، هل يمكن تحديد: من هو الإرهابي؟
هذه هي قضية القرن، هذا هو سؤال المليون الذي لن تجدي معه الخيارات الثلاثة، لا حذف إحدى الإجابات، لأن الإجابات المتبقية كثيرة، ولا الاستعانة بالجمهور، لأن الجمهور تاه في خضم حرب المفاهيم، وغسل الأدمغة، كما لا يمكن الاستعانة بصديق للإجابة على سؤال من مثل: من هو الإرهابي؟، لأن أياً من الأصدقاء لن يسعفك بالقول إن إسرائيل دولة إرهابية، على سبيل المثال.إن العقلية التي ترفض- حتى اليوم- تحديد مضمون معين لمصطلح «الإرهاب» لا تقل مكراً وسوءاً عن تلك التي ابتكرت «تنظيم الدولة» لضرب المسلمين من داخلهم، إنها هي التي تبرز ديانة «الإرهابي المسلم»، وتغفل عن ذكر ديانة «الضحايا المسلمين».
في أحد التجليات النادرة لوزير الخارجية الأمريكي السابق، جون كيري، أو لنقل في زلة لسان مبهرة، وفي لقاء مع وفد من المعارضة السورية، طلب الوفد من كيري أن يحدد ما هي المجاميع الإرهابية في سوريا، كي تكون المعارضة على علم بهذه المجاميع، وهنا فاجأ كيري- الديمقراطي جداً- مستمعيه بقوله: «كل من يقاتل الأمريكيين»؟ هذا- إذن- هو التوصيف الدقيق للإرهاب والإرهابيين. فالإرهاب هو قتال الأمريكيين عند كيري، وهو مواجهة الروس عند لافروف، أما طهران فإن الإرهابي لديها هو الذي يقف ضد مشاريعها لتفتيت الدول العربية، بنشر الفوضى والاقتتال الداخلي، وفي إسرائيل، تحظى حركة حماس وغيرها من حركات المقاومة الفلسطينية بتصنيفات إرهابية عالية، ولكم أن تضحكوا وأنتم تسمعون مليشيات الحوثي في اليمن توجه تهمة «الإرهاب» للرئيس عبدربه منصور هادي.
هذا أمر لم يعد خافياً على أحد، وهذه التوصيفات- بالمناسبة- ليست وليدة اللحظة التاريخية، بل إن فرنسا كانت تصم جبهة التحرير الوطني الجزائرية بالإرهاب، وإيطالياً نظرت لعمر المختار على أنه إرهابي، وهو شأن البريطانيين والسوفييت وقوى الاحتلال القديمة والحديثة، ولذا لم يقل المحتل عن نفسه إنه «محتل»، بل قال إنه «مستعمر»، جاء للبناء والتعمير، وقال عن أهل الأرض بأنهم إرهابيون بدائيون.
وهنا يمكن القول إن صغار اللصوص عندما يسرقون ثروات غيرهم، فإنهم لا يزيفون حقيقة كونهم لصوصاً مجرمين، لكن اللصوص الكبار عندما ينهبون ثروات شعوب العالم الثالث، فإنهم يبحثون عن المبرر الأخلاقي الذي يغطون به جرائمهم في السطو على ثروات الآخرين. ورقة التوت هذه اسمها اليوم «الإرهاب»، وهي الورقة التي تدثر بها جورج بوش في العراق وفلاديمير بوتين في سوريا، وبنيامين نتنياهو في غزة، وهي الورقة التي لا تكاد تستر عورات الإيرانيين في المنطقة، كما أنها الورقة أو القفازات التي تغطي بها الكثير من الأنظمة القمعية كفيها لإخفاء بصماتها على جلود ضحاياها في أقبية السجون الرهيبة.
وبناء على ذلك، فإن الحرب على الإرهاب لن تنتهي، ولن تُحسم، لسبب بسيط وهو أن العقلية الخارقة التي ابتكرت التنظيمات الإرهابية، وهندست أعمالها جعلت منها تنظيمات زئبقية، تذوب فجأة وتظهر فجأة، كأنها عفاريت يخرجها السحرة من القمقم متى أرادوا ويعيدونها إليه متى شاؤوا. إن هذه التنظيمات الإرهابية تشبه في هلاميتها مفهوم الإرهاب في ضبابيته، وقد تم تصميم هذه التنظيمات في التباسها، لتشبه المفهوم في زئبقيته، وذلك لكي تستمر هذه الحرب في استنزاف مقدرات العرب والمسلمين في حروب تبدأ ولا تنتهي.
ومن أغرب ما في هذه الحرب أن المسلمين فيها هم الإرهابيون في «أقفاص المحاكم»، وهم الضحايا على «مسارح العمليات»، وهذه إشارة مهمة إلى الطبيعة المراوغة لمن وضع مصطلحات الإرهاب، وصمم مضامين هذه المصطلحات، وهندس هيكلية هذه التنظيمات بصورة هلامية يتم فيها استنزاف الدماء والثروات، ويتم فيها تلبيس المسلمين بتهمة الإرهاب، وذبحهم على مذابحه غير المقدسة، في عالم كل شيء فيه مُسَيَّس، حتى «الحرب على الإرهاب».