عوامل انتكاسة الثورة وضعف النهوض بالجمهورية 2
بقلم/ توفيق السامعي
نشر منذ: شهر و 10 أيام
الثلاثاء 08 أكتوبر-تشرين الأول 2024 06:13 م
  

إننا نسرد هذه الأمور ونفتش في ثناياها لتشخيص مكامن الخلل وتصحيحها في مسيرة بلادنا النضالية، والاستفادة منها، كما استفاد ثوار سبتمبر 62 من مراجعتهم خلل وأسباب فشل ثورة 48.

وهذه العوامل الداخلية لانتكاسة الثورة وأخطاء القيادة والثوار يمكن أن نجملها في التالي:

- الإذعان الكامل لكل الأوامر المصرية وتدخلهم في كل صغيرة وكبيرة وهم لا يعرفون طبيعة الشعب اليمني ولا طبيعة جغرافيتها وتركيبتها السكانية التي غذت الطائفية والمناطقية، وقادت تلك الأخطاء إلى استمرار الحروب واستنزاف الدم اليمني واستنزاف المال، حتى بدا السياسيون والعسكريون اليمنيون وكأنهم مجرد عاملين تابعين لتلك القيادة وقواتها

- التنافس والاختلافات الداخلية، وتصفية بعض قادات الثورة والضباط الأحرار والاقصاءات التي حدثت (اعتقالات، نفي، تطفيش) والإعدامات بدون محاكمة

- إنشاء تكتلات وتيارات جديدة داخل صفوف الثورة مثل تكتل المشايخ ومراكز قوى أخرى من قيادات عسكرية، وجعلهم هم أعضاء مجلس الشورى والذين دخلوا مطالبين فيما بعد بحصصهم في الحكومة (كان إنشاء هذا التكتل بإصرار من المصريين) على حساب دولة المؤسسات. 

وكذلك ظهرت تيارات ضمنية بين الحرس القديم (تيار 48)، والحرس الجديد (تيار ثورة 62)، وضمن هذه التيارات تكتلات أيضاً يدعم بعضها بعضاً.

- الأخطاء الطائفية والتكتلات المناطقية

- محاولة قطف الثمار قبل نضجها

- الانحراف بأهداف الثورة عن غاياتها

- ضعف العمل المؤسسي وعدم الترابط في قيادات الدولة والاعتماد على الانتهازيين وأصحاب المصالح والضعفاء في الفعل والرأي

- ضعف القيادة والإدارة

- الكسل والدعة والتراخي والركون إلى المكاسب الآنية التي تم تحقيقها وعدم التطلع إلى ما هو أوسع وتصحيح المسار والإبقاء على الحزم والعزم

- الاستئثار بالمكاسب والمناصب وتسخير الدولة لمصالح الأشخاص، وليس تسخير الأشخاص لمصالح الدولة

- عدم استجلاب الرأس المال الوطني وتخوفات التجار من المصادرة خاصة بعد إعلان البيضاني أن النظام الاقتصادي سيكون الاشتراكية

- الضعف الاقتصادي الذي فتح الباب على مصاريعها للاستقطابات والتدخلات الخارجية

- التفرد بالقرارات، طالما والحاكم مجلس وليس فرداً، بعد الاتفاق عليها، وكان يتم الاتفاق على بعضها ويتم إعلان وإمضاء عكسها، وإلا الأصل في القرار أن يكون له رأس واحد وحاسم من مصدر قرار واحد، الأهم فيه أن يكون عادلاً وإيجابياً وقوياً ونافذاً 

- عدم توفير مرتبات الجيش وضعفها في مقابل تدفق الأموال للمسلحين الإماميين، وهذا العامل كان دافعاً لانشقاق بعض الموظفين وترك البلاد برمتها، ومع ذلك كان الجيش في قمة التضحية والنضال، وخاصة صغار الضباط والمجندين؛ بسبب تعطش الجميع للثورة والدولة والجمهورية 

- تسريح ومصادرة أسلحة الجنوبيين المناصرين للثورة

- تسلل العناصر الإمامية لصفوف الثورة والنخر من داخلها

- عدم إرسال رسائل مطمئنة للجيران، وهذه من أهم أخطاء الثوار

- الحكم الجماعي من الأخطاء التي تعرقل القرارات وتمنع البت في اتخاذها؛ وكما قيل: لا يصلح سيفان في غمد، فما بالنا بسيوف متعددة ومتنافرة في غمد واحد! 

- عدم إيجاد مشروع متكامل لرؤية إدارة الدولة لا دستور ولا مؤسسات دستورية، ولا رابط فكري منسجم يضيء للدولة الطريق ويجمع القيادة والشعب حوله، وعلى الرغم من المناداة بدستور للدولة منذ بداية الأربعينيات، وقيام ثورة تسمى الثورة الدستورية عام 48، إلا أنه لم يتم إنشاء دستور للبلاد حتى وقت متأخر من عصرنا المعاصر في بداية سبعينيات القرن الماضي، ومع ذلك لم يتم السير على هداه من قبل السياسيين.

وهو ذات الأمر الذي نعاني منه اليوم في ثورتنا الجديدة ضد الإمامة الجديدة يتكرر بحذافيره، إن لم يكن أسوأ من السابق، خاصة مع تشتيت الصف الجمهوري إلى قوى وكنتونات مختلفة ومتنافرة، ولكل مكون غايته، وخطورة هذا الأخير أن لكل مكون ذراعاً عسكرية ومصادر تمويلية مستقلة تجعلها تؤسس لصراعات مستقبلية.

لقد كانت ذرائع بعض القبائل ضد الصف الجمهوري أننا ثرنا ضد نظام مستبد فردي لنجد أنفسنا من جديد مع نظام فردي مستبد ومستأثر بالقرار ولم نلمس تغييراً سوى بالأشخاص، حتى وإن كانت هذه الذرائع مجحفة وغير صحيح مقارنتها بالعهدين الإمامي والجمهوري، إلا أن لها بعض الوجاهة أيضاً وهم يرون بعض الثوار والضباط الأحرار يعدمون في الميادين ودون محاكمات، وجاء الجيش المصري ليطبق العرف العسكري الصارم والمعروف في مصر على قبائل وشعب لم يألف الانضباط العسكري ولا القوانين العسكرية ولا الانضباط الإداري، خاصة وأنه جرت تلك التصرفات قبل بناء المؤسسات بشكلها الحديث، وهو ما يصادم طبيعة الشعب اليمني، ودون الانتقال التدريجي به إلى أعراف وقوانين الجيوش الحديثة. 

ومع أن هذه الأخطاء هي التي كانت مبرراً لانقلاب القاضي الإرياني على السلال؛ إلا أنه لم يغير فيها شيئاً حين توليه الرئاسة لمدة سبع سنوات، وهي أطول فترة من فترة السلال، ثم كانت دافعاً لانقلاب إبراهيم الحمدي عليه عام 1974.

وسنجد نفس الأخطاء، وأخطاء أخرى، في جنوب الوطن لدى ثوار أكتوبر؛ غير أن هؤلاء تجاوزوا أكثر قليلاً عن ثوار الشمال في تصفية الرؤساء بعد الانقلاب عليهم دون محاكمات، ودون مبررات كافية لتصفيتهم خارج المحاكمة، وبطرق بشعة دون وضع أي اعتبار لنضالاتهم التاريخية وتضحيتهم من أجل الوطن.

 الأخطاء المذكورة آنفاً رافقت اليمنيين إلى اليوم، وربما تستمر إلى المستقبل، وهي التي تجدد الصراعات وتعمل على استمرار الحروب الداخلية والأزمات المختلفة، وستظل المشكلة الدائمة لليمن لن نخرج من مستنقعاتها مالم يتم عمل ثورة تصحيحية عليها والانتقال باليمن من العشوائية إلى دولة المؤسسات الفعلية، وهي بحاجة إلى عقلية راشدة وجبارة في نفس الوقت، ومشروع وطني جامع نابع من أرض الواقع الميداني، لا من الواقع الافتراضي وما تمليه الإملاءات غير الواقعية.

ولن نكون أعلم وأدرى من صانع البشر العارف بطبائعهم وهو يقول لنا: (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم)..

 

يبدو أن خلاف الإرياني مع عبدالغني مطهر وعلي محمد الأسودي وغيرهما قام على سوء النوايا؛ فالإرياني فهم أن عبدالغني مطهر من أنصار البيضاني خاصة فيما يتعلق بمنطق الطائفية والمناطقية؛ فقد تبادر إلى ذهنه أن عبدالغني مطهر مؤيد للجانب الطائفي الذي دعا له البيضاني، في خطاب له بعدن، فحمل ذلك في نفسه إلى أن أصبح رئيساً فأذاق عبدالغني مطهر ويلات المعتقل والإذلال والنفي بعد أن أفشل مطيع دماج مؤامرة اغتياله، ويبدو أنه أيضاً حسبه على تيار السلال الذي عمل الإرياني والعمري على تصفيته تماماً بعد أن أصبح رئيساً للجمهورية. مع أن عبدالغني مطهر كان لا يفرق بين صنعاني وذماري وتعزي، ومن أبرز ما قام به دعمه بقوة للعمري والضباط الأحرار من مختلف المناطق، وكذا دعمه للسلال وقد حسب عليه!  

فقد كان منحازاً للدولة ومؤسساتها حتى ولو كانت في أضعف حالاتها، وق رفض تصفية السلال والانقلاب عليه، وهذا برأيي هو أهم عامل لنقمة الإرياني والعمري عليه!

 

من يراجع الأحداث فقد بلغت ذروة الطائفية والمناطقية في عهد الإرياني والعمري؛ فقد صفي معظم رموز الثورة اغتيالاً واعتقالاً ونفياً، بعد انقلاب الخامس من نوفمبر عام 1967، وحتى إن لم يكن للإرياني يد فيها فقد كانت في عهد رئاسته، وعادة تتحمل القيادات وزر الأحداث لأنها في عهودهم خاصة إن لم ينكرها أو يعمل على تصحيحها.

 

فقد تم تصفية:

- الشيخ عبد القوي حاميم في 23 أغسطس 1965م على حدود مدينة الراهدة, بعد إتمامه لصلح قبلي، وعبدالغني مطهر يتهم الإرياني والعمري بالدعم والتخطيط لاغتياله. 

- عبدالرقيب عبدالوهاب (بطل حصار السبعين) الذي لم يكتفوا باغتياله بل وتشويه صورته، وتم استدراجه واغتياله بصنعاء في منزل علي سيف الخولاني عام 1968م وسحل جثته في شارع التحرير بصنعاء.

- محمد صالح فرحان الشميري أحد الثوار المناضلين الذين لعبوا أدواراً بطولية في الثورة وأحد قادة فك حصار السبعين وسقط شهيداً في مبنى قيادة سلاح المشاة بالعرضي بباب اليمن يوم الجمعة ٢٨ اغسطس ١٩٦٨م جراء فتنة الطائفية والمناطقية التي أثارها المناطقيون والطائفيون بقيادة العمري والخولاني في عهد رئاسة الإرياني الذي لم يبد اعتراضاً عليها كما ثارت ثورته على تغيير بعض المسؤولين في محافظة تعز واعتبرها طائفية مناطقية.

- عبدالعزيز الحروي قتل في العاصمة اللبنانية بيروت في ظروف غامضة في تاريخ: 4/8/1393هـ - 1/9/1973م، ثم نقل إلى مدينة صنعاء حيث دفن في مقبرة (الشهداء).

- محمد مهيوب الوحش أحد أبطال فك حصار السبعين، كان قائد فرقتي الصاعقة والمظلات أثناء الحصار، وكان أهم أهداف دعاة الفتنة الطائفية المناطقية، وبعد نجاته في أكثر من محاولة اغتيال، نصبوا له كميناً في ميدان التحرير بصنعاء وفِي شارع ٢٦ سبتمبر تحديداً عصر يوم ١-١١-١٩٦٨م..

- محافظ تعز الشيخ أحمد عبدربه العواضي، وهو أيضاً من أبطال فتح حصار السبعين، وذلك في تاريخ 2 مارس 1973م!

هؤلاء هم القادة الأبرز الذين تم اغتيالهم وهم أبطال فك حصار السبعين، ولكن هناك ضباط آخرون وجنود تم قتلهم في تلك الفترة، فكان جزاؤهم جزاء سنمار للأسف الشديد.

 

لقد كان من أسباب نقمة الإرياني والعمري على عبدالغني مطهر والأسودي وعبدالقوي حاميم اتهامهم بالانفصال والمناطقية ودعم السلال والقيادة المصرية، وأنهم من فريق السلال ومن المحسوبين بقوة على مصر، ويتضح من خلال سياق الأحداث خوف الإرياني والعمري من تثوير مطهر للناس عليهم في تعز، على الرغم من أن الإرياني، في موضع آخر، يثبت انحياز وتضامن عبدالغني مطهر والأسودي والشيخ محمد علي عثمان معهم، وذلك في الانسحاب من حكومة السلال، ونزول الجميع إلى تعز! ويقول: "وكان ضيق الأخيرين (مطهر والأسودي) من السلال هو الذي جرهما إلينا، وإن كانا من السائرين في ركاب ال ج.ع.م (الجمهورية العربية المتحدة).

أما السلال فقد كان يتهم النعمان والإرياني بموالاتهما لبريطانيا وأمريكا، ومرة بالملكية، وأن النعمان هو من يجرجر الإرياني وراءه، والحقيقة أن خلاف الفريقين هو رهن السلال القرار اليمني كله للقوات المصرية، وأن الحرس القديم (ثوار 48) الذين هم النعمان والزبيري والإرياني يريدون إنهاء هذه الهيمنة على القرارات والتدخل المباشر وإصلاح الوضع، وإنهاء الحرب بين الفريقين بالتفاهم مع الإماميين والسعودية.

 

وهكذا مضت الصراعات والاختلافات بين رؤوس الثورة وكبار البلد، وضاعت فرص كبيرة للوطن للخروج من كبوته، وجاء من بعدهم من سار على خطاهم في تلك الصراعات، إلا من بعض الإصلاحات البسيطة التي بدأ الحمدي بتصحيحها أدت إلى القضاء عليه برمته، وتم بعده إعادة الدوامة من جديد.

 

فإذا بني البناء على أرضية هشة ورخوة فلا بد لهذا البناء أن ينهار، وبشكل سريع، إذا لم يتم ترميمه وتأسيسه على أرضية صلبة يستطيع الإنسان اليمني البناء عليه حتى عنان السماء.

 

ما أشبه الليلة بالبارحة؛ فوضعنا الحالي يكاد يكون أسوأ من تمزق صف الثوار وخلافاتهم في ثورة سبتمبر، وإذا كانت الخلافات بين السابقين وهم ثلاث قوى منقسمة بذاتها؛ إمامية، ورئاسية موالية للداعم، ومعارضة لها وجود شعبي كبير من ثوار 48 كالزبيري والنعمان والإرياني وصبرة، وغيرهم، فإن المكونات في الساحة اليمنية اليوم قوى متعددة وأكثر من ذي قبل وأخطر كونها تمتلك أذرع مسلحة ومصادر تمويلية مستقلة؛ الإماميون الجدد، والانتقالي، وطارق، والشرعية، ناهيك عن قوى أخرى كامنة لم تتضح رؤيتها بعد (الصوفية والسلفية)، وكذلك مكونات حضرموت المختلفة.

 

ولئن كان مؤتمر خمر واحداً من الحلول السياسية للبلاد ولصمود الثورة، فإننا بحاجة اليوم إلى مؤتمر مماثل يخرج البلاد من هذه التشرذمات، غير أن أهم مأخذ عليه هو تعزيز سلطة المشايخ في إدارة الدولة وليس تعزيزاً للعمل المؤسسي، ولو اكتمل في هذا الجانب لكان من أهم المؤتمرات التي أقيمت ووجدت في اليمن منذ مئات السنين.

 

ويعتبر مؤتمر الحوار الوطني أشبه بمؤتمر خمر، ويصلح أن يكون مخرجاً مهماً من مخارج اليمن الحديث، وما زالت مخرجاته صالحة إلى اليوم حتى بعد هذه الصراعات المختلفة، مع بعض إصلاح جوانب الاختلالات التي طرأت بعد الانقلاب الحوثي على إثر مؤتمر الحوار الوطني.

 

... يتبع