ذلك الكائن المتسلّط
بقلم/ بروين حبيب
نشر منذ: 6 سنوات و شهرين
الإثنين 17 سبتمبر-أيلول 2018 08:08 م
 

تنتابه الحالة كلما جلس إلى نفسه ليكتب، يمقت الضجيج، وهذه نقطة مفروغ منها منذ بدأ يتعلُّم كتابة الأحرف، لكنّه يمقت النّاس أيضا، يرفع سماعة هاتف البيت، يغلق جوّاله، وإذا ما دقّ أحدهم بابه لا يفتح. ثمّة شيء في عقله الباطن، يقلب مشاعره تجاه الذين يحبهم، فيتمنى لو أنهم يتبخّرون ساعة تأتيه عفاريت الكتابة وتشتغل بمخه.. هذا حقه، وهو أبسط حقوقه ككاتب، لكن من حوله لا يفهمون.

يعيش الكاتب حالته الخاصّة، قبل أن يستسلم لهدير الكلمات في رأسه، ويعمل على نقلها على الورق، أو على جهازه، وإن كانت بعض المدن في العالم معروفة بمقاهي كتابها، الذين يحبون زواياهم الخاصة، ومناظر الشوارع والمارة أمامهم، فإن كتاب آخرين يحتاجون لعزلة كاملة حتى تمطر غيوم مواسم الكتابة، وهؤلاء هم الأصعب حظا، في مجتمعات لا تفهم جنون الكتاب وأهواءهم الغريبة، ولعلّ أسوأ الأوساط التي تدمر الشعراء والأدباء هي تلك التي يتزاحم فيها الجهل والغباء معا، ولا مفرّ منها أبدا، بحكم الظروف المفروضة عليهم. ما أصعب مواجهة البياض بالنسبة للكاتب، إنه العدو الأول والأقوى للكاتب، كون إيجاد تلك الكلمة السحرية التي تتبعها كلمات أخرى، قد تتطلب أياما، أو أشهرا، وأحيانا سنوات.

ولكن هذه الحرب التي يخوضها البعض في رؤوسهم لإيجاد المفاتيح اللغوية الضائعة منهم في كومة الأفكار، لم يعد يخوضها كتاب كثر في الغرب، كون الكتابة أصبحت مهنتهم اليومية، وهم ينكبون على الكتابة تحت الطلب، تماما كما كان تلاميذ المدارس يكتبون مواضيع التعبير، ووفقا لهيكل كلاسيكي قديم، يتكون من مقدمة ملغّمة بلغز، ومتن تسير وفقه الأحداث نحو فكّه، وخاتمة ترضي القارئ البسيط الذي لا يبحث عن جماليات اللغة، ولا عن عبقرية في البناء، ألم يشتهر باولو كويلو بالطريقة نفسها؟ وغيره كثر.ألم تبدأ الكتابة عندنا أيضا، بالخروج من تحت عباءة الأمزجة الغريبة للكُتَّاب، ألا يصدر بعض الكتاب كتابا كل سنة أو كل ستة أشهر أحيانا؟ ألم تصبح مهنة؟ حتى وإن كانت مداخيل الكِتَاب قليلة، ولا توفّر حياة كريمة لصاحبها، إلاّ أن البعض أصبح يكتب من أجل الحصول على جائزة تريحه، أو من أجل جذب الأضواء إليه باختيار موضوعات حساسة تخترق الممنوع؟ أليس كل هذا شبيه بتلك النقلة التي نشعر بها حين نقطع نهرا من ضفة إلى ضفّة؟

يبدو لي أن خلوة الوحي ما عادت ضرورية لكتَّاب اليوم، بعضهم يكتب في وسائل السّفر وكأنّ وحيه يسكن في الطائرات والقطارات، وإن كنت أعيش الحالة، لأن السفر جزء مستمر في حياتي، وأعرف معنى أن تهجم الفكرة عليّ فجأة حيثما أكون، لكن هذا ليس حالي وأنا أعكف على كتابة نص طويل. لطالما كتبت نصوصا شعرية قصيرة، تشبه حركة اقتطاف وردة، ولكنّي عاجزة تماما عن إتمام نص طويل بدأته منذ أكثر من سنة.. تتحوّل الكتابة إلى كائن مفترس، يهجم على كل شريك يحاول الاستحواذ على صاحبها، لدرجة أنّها تغيّر ظروف حياته، وتتحكّم فيه. الكتابة كائن متسلّط، غير متسامح، ولكنّه أيضا كائن جبان، مثل الطفل الذي يسيطر على أمّه فلا يعتقها، لا في وحدتها ولا خلال رفقتها للآخرين.

سلطة الكتابة تكمن في استحواذها الكامل على العقل، إن لم يستسلم لها هذا الأخير، تحوّلت إلى عامل مقلق، يعمل طيلة الوقت مثل نقرات عقارب السّاعة للتذكير بوجوده، لا شيء يتم بالموازاة، بدون ذلك الأزيز النّاعم المزعج الذي تصدره في آن في قاع الدماغ.

لا تفسير منطقي لتلك السلطة، أغلب الكتاب الذين دونوا تجاربهم تحدثوا عن أنفسهم العالقة في شباكها، مفتونون بممارسة القص والاشتغال باللغة في كل حقولها الإبداعية، بدون فهم السر في كل ذلك الإخلاص العجيب لها. يخون الرّجل حبيبته، لكنه لا يخون الكتابة! وحدها رفيقته الأبدية… وهذا الأمر نفهمه أكثر حين نرى النّساء أكثر من يتخلّى عن الكتابة بعد الزواج والإنجاب، إذ يتراجع الأدب، أمام اهتماماتها الجديدة، كونها تضع الرجل دائما قبل أي انشغالات أخرى، ثم حين يأتي الأولاد، تزيحه هو الآخر درجة! قليلات هنّ النّساء اللواتي عرفن كيف ينصفن الأدب وعائلاتهن، بتنظيم وقتهن، بحِيَلٍ مختلفة، تُظهر الكثير من التّقصير والفوضى في حياتهن.

يتحدّث روسو مثلا عن علاقته السيئة بالكتابة، فيصدمنا، حين يصفها بالخطأ، وهو يقصد تماما تلك اللحظة التي أمسك فيها القلم، بل يطلق اعترافا يهز النخبة إلى يومنا هذا، معلنا توقفه عن الكتابة بعد عشر سنوات من تقلّده ذلك «الفخر الأحمق» الذي وهبته إياه، بعد أن أدرك «أنّه فقد نفسه في تلك المغامرة» ، يأتي هذا الكلام في الكتاب العاشر من الاعترافات، حين روى رفضه لعرض ليعمل في جريدة، قائلا:» كنت أخطط لمغادرة الأدب بالكامل، وخاصة مهنة المؤلف. كل ما حدث لي جعلني أمقت رجال الأدب تماماً، وأشعر بالاشمئزاز منهم، وقد شعرت بأنه من المستحيل أن أمارس المهنة نفسها بدون أن أحتكّ بهم ويكون لديّ بعض الاتصالات معهم. عشت حياتي مختلطا بشعوب مختلفة من العالم، ولست ضد الحياة المختلطة، أنا بالكاد أرى المجتمع الذي لم يتم صنعه بعد، لهذا أنا مصمم على التخلي تماما عن هذا المجتمع العظيم، وتأليف الكتب، وتجارة الأدب، أريد أن أغلق على نفسي لبقية أيامي في فضاء ضيق وهادئ وسلمي أشعر بأنني ولدت من أجله».

اعترافات روسو الذي حقق شهرة كبيرة في زمانه، ولا أحد فاقه في ذلك غير فولتير، كانت صادمة فعلا، لكنّها أيضا الرّغبة الخفية التي لا يبوح بها أغلب الكتاب، بل يمكن استنباطها من متون أعمالهم. روسو نفسه، في لحظات مزاجية مغايرة قال إنه «محظوظ لأنه كاتب» ولا نعلم هل قال ذلك إرضاء لكبريائه الذاتي، أم احتراما لتلك الطبقة المحاطة بوهم التميُّز، التي ينتمي إليها؟ لقد حاصرته الأسئلة، كما حاصرت غيره، وهو بشكل ما يكون قد أدرك أن اللغة كائن متطور، لا يتوقف عن النمو، سواء توقف هو عن تعاطي الاشتغال بها أو لم يتوقف، فاللغة متى ما توفّر شخص واحد ستنبثق منه ليخاطب الكون حوله، وسيكتشف الأسماء وحده، ولسوف يعيد تشكيل دورتها بنفسه، وهو يحفر رموزها على المسطحات الصّلبة، محاولا ترك رسائل لبشر مثله، هو المدرك في أعماقه أنه ليس وحيدا، وأن تلك الأصوات الخارجة من أعماقه ليست سوى «لغة» لمخاطبة كل الأحياء حوله. لا لمجال لخلوة نهائية في اعتقادي، إنه شعور واهم تفرضه الحاجة لإنهاء القول. ولأنّ لكل «قول» عمرا زمنيا محدّدا، فإن اكتماله هو ما يولّد تلك السلطة، إنها هذه الحلقة الزمنية الكبيرة التي نعيش في داخلها ولم يصل العلم بعد لفك ألغازها، والكتابة التي هي نشاط بشري محض، تخضع لسلطة الزمن، ومن هنا تستمدُّ سلطتها.

لا تمسك القلم، لأنّك إن فعلت ستصبح عالقا في شباك الكتابة.

لا تتفوّه بكلمة، لأن كلمة واحدة لا تعيش لا يمكنها أن تعيش لوحدها.

٭ شاعرة وإعلامية من البحرين