كلنا يوسف القرضاوي
بقلم/ راشد الغنوشي
نشر منذ: 16 سنة و شهر و 26 يوماً
الأحد 21 سبتمبر-أيلول 2008 01:12 ص

المجتمعات كالأفراد تملك حاسة للدفاع عن الوجود، ولذلك يتملّكها الخوف والغضب حين ترى أسس اجتماعها ووحدتها يتسرب إليها الوهن ويتم اختراقها من قبل كيانات دخيلة، أيا كان نوع هذا الدخيل سنيا أم شيعيا.

هذا لا يعني دفع الأمر إلى نهاياته كما يفعل دعاة التكفير والتطرف، إذ يرفضون بشدة التنوع والتعدد داخل الإسلام، وكان من مفاخره وأسس حضارته التي لم تعرف -عموما- الحروب الدينية والتطهير العرقي، بل تعايشت في بيئة -كالعراق- كل الطوائف قبل أن تبتلى بالاحتلال, ودعاة التكفير لا يخلو منهم هذا الفريق أو ذاك.

فوجئنا في هذه الأيام المباركات بتصريحات سافلة صادرة عن وكالة أنباء إيرانية تدعى "مهر" تخطت كل الحدود والاعتبارات الأخلاقية والشرعية في تعاملها مع أهم رموز الإسلام المعاصر رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين العلامة المجاهد الشيخ يوسف القرضاوي، في تحد سافر للأمة وعلمائها قاطبة بمن فيهم علماء الشيعة الذين كانوا من بين علماء الإسلام الذين اختاروا بالإجماع الشيخ العلامة رئيسا لهم، بينما تم اختيار فضيلة الشيخ محمد علي التسخيري من علماء المذهب الإمامي أحد نوابه.

محرر الشؤون الدولية في الوكالة المسمى حسن زاده وفي تحد سافر سافل لم يتردد -حسبما تناقلته الصحف- في قذف العلامة القرضاوي بأقذع الشتائم والافتراءات، واصفا إياه بأنه "يتحدث نيابة عن الماسونية العالمية وحاخامات اليهود وأن لغته تتسم بالنفاق والدجل.. وهو ما أفقده وزنه بعدما تفوه بالكلمات البذيئة ضد شيعة آل رسول الله.. إن كلامه يصب في مصلحة الصهاينة وحاخامات اليهود الذين يحذرون من المد الشيعي بعد هزيمة الجيش الإسرائيلي في جنوب لبنان".

وبلغ بمحرر الوكالة الجموح والطفح الطائفي أن ذكر أنه في "مقابل انتصار الشيعة ممثلة بحزب الله على العدو الصهيوني، ولت الجيوش العربية السنية الأدبار مهزومة".

فماذا أتى الشيخ القرضاوي حتى يستحق كل هذه الصواعق والقذائف؟ هل كفر بالله ورسوله؟ هل تعاون مع جيوش الكفر وسهل عملها في احتلال بلاد إسلامية وأغراها بذلك وامتن به عليها؟ هل جعل دينا له يتعبد به ربه لعن أحب وأقرب الرجال والنساء إلى قلب صاحب الدعوة ممن مات وهو عنهم راض؟ وكيف يأتي القرضاوي شيئا من ذلك وهو رأس مذهب جمهور المسلمين الذين يترضّون عن كل صحب محمد وخاصة آل بيته عليه وعليهم صلوات ربي وسلامه؟

هل عرف القرضاوي بالولاء للحكام وقد كابد ما كابد من ظلمهم سجنا وتهجيرا؟ هل هو فعلا محل رضى حاخامات اليهود والمتنفذين الدوليين وهو الأشد عليهم بفتاواه وخطبه المحرضة على الصهيونية والداعمة للمقاومة حتى تنادت أقلام متصهينة بدعوة الأمين العام لمحاكمته في محكمة دولية بتهمة أنه منظّر للإرهاب، بناء على أنه من أفتى بالعمليات الاستشهادية ضد الاحتلال الصهيوني ومن أفتى بوجوب دعم حزب الله في لبنان، وكل ذلك فجر الأحقاد الصهيونية الامبريالية ضده، كما كشفت عنها الحملة الشعواء ضده خلال زيارته الأخيرة لبريطانيا منذ سنتين، بلغت حد مطالبة المجلس اليهودي المدعي العام باعتقاله, وقاد ذلك إلى حظر دخوله بريطانيا، سبيلا لمنعه من كل أوروبا بعدما مُنع منذ سنوات عديدة من دخول الولايات المتحدة.

كما أفتى بتحريم العدوان على إيران أو التعاون مع المعتدين عليها مدافعا عن حقها في تطوير مشروعها النووي. فكان القرضاوي ولا يزال صوت الأمة الذاب عن عقائدها، المدافع عن مظلوميها، الشادّ بأزر قوى المقاومة حيثما كانت، وذلك ما يفسر استهدافه المتواصل من طرف كل القوى المعادية للأمة ودينها، فكيف غاب كل ذلك عن محرر وكالة الأنباء؟

أوليس من التجني على هذا الرمز هذه المحاولة الفاشلة الرخيصة لتلويث هذه السيرة العطرة؟ فماذا أتى القرضاوي بالضبط حتى يوجه إليه كل هذا السيل من الاتهامات؟

جل ما في الأمر أن الشيخ في لقاء له صحفي مع جريدة "مصر اليوم" خلال زيارة له أخيرة إلى وطنه مصر، نبه إلى ظاهرة انزعج من تناميها في السنوات الأخيرة وما فتئ ينبه إلى خطرها على وحدة الأمة التي يتغنى بها الجميع بينما هذه الظاهرة تطعنها في الظهر، وهي ظاهرة التمدد المذهبي الشيعي في مناطق تتمتع بوحدة مذهبية سنية منذ مئات السنين مثل مناطق شمال أفريقيا بما فيها مصر.

فقد عبر الشيخ القرضاوي عن انزعاجه من تفشي هذه الظاهرة في مصر حيث تستغل بعض المراجع الإمامية بما يتوفر لديها من أموال طائلة ما تعيشه بلاد شمال أفريقيا من أوضاع فوضى وفقر وتصارع بين الحركة الإسلامية وبين أنظمة الحكم، بما شغل الأنظمة عن أداء واجبها في الدفاع عن أحد أهم أعمدة النظام العام، أعني الإسلام في صيغته التي أقرها جمهور الأمة. بل لم تكتف تلك الأنظمة السلطوية بكف أيدي المجتمع المدني ممثلا في الحركة الإسلامية عن القيام بذلك الواجب وإنما عمدت إلى تسهيل عمل أولئك الدعاة الشيعة المتخصصين والمدعومين بأموال طائلة تنحدر عليهم من جهات شعبية وربما رسمية، رغم أن المسؤولين في نظام الجمهورية ينكرون ذلك، حتى أن دبلوماسيا إيرانيا سابقا عمل في مصر ذكر لي أنه أجاب شيخ الأزهر السابق رحمه الله لمّا وجّه اليه تهمة نشر التشيع في مصر بقوله "وماذا تفعل إيران ببضعة مئات أو آلاف من المتشيعين المصريين إذا أخسرها ذلك سبعين مليون مصري هم يحبون إيران وآل بيت النبي"، دافعا بذلك كل علاقة لإيران الرسمية بنشر التشيع، وناسبا تلك الأعمال التبشيرية إلى مجاميع شيعية عربية مثل الشيرازيين.

وبصرف النظر عن مدى صحة ذلك، فالجدير بالتأكيد التنبيه إلى:

1- أنه غير مقبول بحال الأسلوب السافل الذي تحدث به محرر وكالة الأنباء الإيرانية عن العلامة القرضاوي لدرجة رميه بالعمالة لأعداء الإسلام وبالعداء لآل محمد عليه وعليهم السلام، بما يطرح السؤال عن مدى تمثيل محرر الوكالة المتعجرف للموقف الإيراني الرسمي؟

2- أما موقف علماء المذهب ولئن جاء ساخطا داعيا الشيخ على لسان الشيخ التسخيري إلى التراجع عن هذا الموقف حرصا على مبادئ الاتحاد الداعية إلى وحدة الأمة، فقد اتسم بقدر من الرصانة، فمن حق أهل كل مذهب أن لا يقبلوا وصم مذهبهم بالابتداع أو التشكيك في عقائدهم، حتى إن جاز ذلك في مجال الجدل المذهبي، وهو جانب ضعيف في التثقيف السني بسبب الثقة في النفس أننا الأمة، كما نبه الشيخ القرضاوي.

3- من حق الشيخ القرضاوي باعتباره رأس علماء السنة من موقعه التوجيهي ومسؤوليته أن ينبه إلى خطر ما يحصل من اختراقات في المجتمعات السنية الخالصة من قبل بعض دعاة التشيع، بما يؤسس في تلك المجتمعات لفتن مذهبية -هي في غنى عنها- من قبيل ما كانت هذه المجتمعات ذاتها في شمال أفريقيا ومصر خصوصا قد اكتوت بنارها أيام حكم الشيعة الإسماعيلية، فكانت سوابق دامية لا يتمنى أحد ولا في مصلحة أحد زرع بذورها مجددا، ولا تزال تكتوي بنارها بعض المجتمعات الإسلامية، وما يحدث في العراق شاهد لا يغري بتصدير ذلك النموذج إلى بلاد أخرى قد أراحها الله منه.

4- الشيخ القرضاوي عبر عن شعور عام في عالم السنة بالسخط على اختراقات -حتى وإن تكن محدودة- قد فتحها بعض دعاة التشيع في جسم الوحدة الوطنية لأكثر من قطر من الأقطار السنية، خصوصا تلك التي برئت من الصراعات المذهبية.

ولذلك فنحن في هذا الصدد كلنا قرضاويون. ومع أننا كثيرا ما ناصرنا الثورة الإسلامية في مواجهة ما تعرضت له ولا تزال من مخططات أعداء الإسلام، وتحملنا غير نادمين ضروبا من النكال جراء ذلك، كما دافعنا ونوهنا بالدور الايجابي للجمهورية في نصرة قضية فلسطين وهتفنا لبطولات حزب الله، فإننا أيضا كثيرا ما نبهنا عقلاء إخواننا الشيعة إلى خطر هذا المسلك على الوحدة الإسلامية.

ما قيمة أن يستقطبوا آحادا أو عشرات أو مئات وآلافا يقطعونهم عن نسيج مجتمعاتهم وكثير منهم نهازون، مقابل خسارتهم للملايين وزرع بذور التمزق في تلك المجتمعات.

5- من واجب الحريصين على وحدة الأمة التصدي لكل أسباب مخططات الأعداء الذين يواجهون تحدي الصعود الإسلامي. وعلى رأس تلك المخططات الرهان على ضرب الأمة بعضها ببعض، فمن حق بل من واجب أي غيور على دعوة الإسلام وبالخصوص إذا كان في مسؤولية بمستوى رأس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، مشفق على جهود المسلمين أن تضيع لهاثا وراء إستراتيجيات ليس من شأنها في المحصلة غير زرع بذور الفتن في المجتمعات الإسلامية.

6- إن الشجب لسياسة الاختراق المذهبي لا يقتصر على اتجاه واحد أو مذهب بل يشمل -في تقديرنا وفيما نعلمه من فكر القرضاوي- الجميع. إنه توجيه للدعاة من كل مذهب إسلامي أن لا تنصبّ جهودهم على الدعوة داخل البيت الإسلامي، صارفين جهودا طائلة داخل دار الإسلام من أجل نقل مسلم داخل دار الإسلام من غرفة إلى أخرى –مع ما يحدثه ذلك من تمزق في النسيج الاجتماعي- بدل الاتجاه إلى خارج دار الإسلام لتوسيع دائرة المذهب فتتسع دائرة الإسلام، علما بأنه من بين كل خمسة بشر هناك مسلم واحد –على اختلاف مذهبه- فلماذا لا تصرف الجهود في موضعها الطبيعي: دعوة مليارات البشر الذين يموت كل يوم معظمهم على الشرك بسبب تقصير المسلمين بكل مذاهبهم عن أداء الواجب الشرعي في إبلاغهم كلمة التوحيد؟ وذلك بدل نشر الفتن والصراعات داخل صفوف مجتمع سني أو آخر شيعي.

إنه جهد يقرب من العبث أيا كان مذهب القائم به. ولا يبدو أن الأمة التي قد سلخت 14 قرنا بهذا التنوع المذهبي أنه قد بقي أمامها من الزمن ما يكفي لنقلها إلى مذهب واحد. فلماذا تضيع الجهود في غير محلها؟

7- يجب التصدي بكل حزم لكل نزوعات التكفير أيا كان مأتاها. وللأسف فإن محرر الوكالة الإيرانية بدا أنه والغ في مستنقع التكفير والطائفية، إذ لم يجد تفسيرا لتنبيه القرضاوي بعد رميه بالعمالة للصهيونية والماسونية غير العداوة لبيت النبوة!

هل من تكفير أغلظ وأجلى من رمي جمهور المسلمين الذين يتعبدون الله بالحب والطاعة لله ولرسوله؟ "قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله"، ومحبة آل محمد فرع لمحبة الرسول "قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى"، وتلك عقيدة مشتركة بين كل المسلمين فلا مجال لادعاء فريق اختصاصه بها ونفيها عن الآخر.

والمشكل مع إخواننا الشيعة هو الغلو محبةً وكرهاً: محبة لأسرة النبوة تخرج عن حدود الشرع حتى تنسب لهم عصمة هي للأنبياء، بل حتى فعالية كونية هي اختصاص إلهي، وكرها لغالبية أصحاب رسول الله يجردهم من كل فضل شهد لهم به الكتاب والسنة ووقائع التاريخ. وذلك بعض ما عناه القرضاوي عندما نسب الابتداع إلى المذهب الشيعي، ولكنه أكد إيمانهم بعقائد الإسلام الكبرى بما يبقيهم داخل الدائرة الإسلامية، وهي عقيدة أهل السنة التي وسعت كل أهل القبلة الذين لم يسجل التاريخ عن حكامهم مهما بلغ انحرافهم أنهم صدوا عن الحج إلى بيت الله الحرام فرقة تنتسب إلى الإسلام.. قال تعالى "ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا"، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من استقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فهو مؤمن".

8- ولم يقل ولوغ المحرر في التكفير عن ولوغه في الطائفية، فحيث لا أحد منصفا ينكر الانتصار المدوي لحزب الله على عدو الأمة الصهيوني، ما مبرر نسبة هزائم الجيوش العربية إلى المذهب السني؟

ورغم أن الجيش المصري أنجز العبور فإن دعاة الحركة الإسلامية لم يعتبروا يوما هذه الأنظمة وجيوشها معبرة عن إرادة الأمة وعقائدها. وهل قلّت بطولة المقاومة الإسلامية في فلسطين والعراق وغيرها -وهي سنية- عن بطولة حزب الله.. الأمة بكل مذاهبها تبدع عندما تتخفف من رهق الدولة.

9- تكتسب الأقليات والطوائف مكانها في جسم الأمة -وهو كان ولا يزال سنيا- بقدر اعترافها بهذه الحقيقة بدل القفز فوقها، وبقدر انخراطها فكرا وممارسة في هموم الأمة والتنافس في خدمتها. وفي المقابل تنتصر الأمة بقدر ما تفتح الأغلبية صدرها للأقليات اعترافا بها واحتراما واستيعابا لها بدل الضيق بها, وفي ساحة خدمة الأمة ابتغاء وجه الله "فليتنافس المتنافسون".

* الجزيرة نت

مشاهدة المزيد