بعد تهديد الحزب الحاكم في تركيا بالحلّ..إلى دعاة العلمانية ..ألا مِن مراجعة جسورة!
بقلم/ أ. د/أ.د.أحمد محمد الدغشي
نشر منذ: 16 سنة و 7 أشهر و يومين
الإثنين 14 إبريل-نيسان 2008 11:28 م

مأرب برس - خاص 

لا يزال صدى الخبر الذي تناقلته وكالات الأنباء يوم (3132008م) - بشأن خبر قبول المحكمة الدستورية في تركيا النظر في دعوى تقدّم بها النائب العام التركي تهدف إلى حلّ حزب العدالة والتنمية ، والحكم على رئيس الدولة عبد الله غول ورئيس الحكومة رجب طيب أردوجان بمنع مزاولة العمل السياسي خمس سنوات، بدعوى تهديد الحزب وقياداته للمبادئ العلمانية - لايزال في تصاعد مستمر، سواء على المستوى الداخلي أم الخارجي.

بطبيعة الحال تأتي هذه المحاولة في سلسلة محاولات العلمانية التركية إثناء حزب العدالة والتنمية هناك عن التقدّم نحو تطبيق مشروعه الحضاري، الذي لمس ثماره الطيبة المواطن التركي ، فأعاد ترشيحه مرة أخرى، على نحو فاق سابقتها، كما أقبل الشعب بأغلبيته نحو ترشيح غول رئيساً للدولة، رغم التوعّد العلماني الذي لا ينتهي، والذريعة هي ذاتها الخشية على المبادئ العلمانية، على خلفية سماح حزب العدالة الحاكم للمحجبات بدخول الجامعات،بعد أن كان ذلك من كبار المحرّمات( التابو) في العهد العلماني اللائكي . وإذا ظل الوضع على نحو ماهو عليه حالياً فلا يستبعد العلمانيون الأتراك أن يسمح حزب العدالة التركي الحاكم عما قريب للجنود والضباط والمنتمين إلى المؤسسة العسكرية أن يؤدوا شعيرة الصلاة على مرأى ومسمع من مسئوليهم وزملائهم في معسكراتهم، ومقار أعمالهم، في بلد يعدّ الأول بين البلدان العلمانية في العالم الإسلامي، بعد أن كان يسمى على مدى خمسة قرون مركز الخلافة الإسلامية!

المفارقة أننا تعودنا في (وطننا العربي الكبير) أن الحزب الحاكم عادة هو الذي يسعى لإلغاء أحزاب المعارضة، أو تهديده المستمر لها بالحل؛ إن هي أكثرت من التمرّد والخروج عن (بيت الطاعة)، بيد أن الحالة التركية تبدو معكوسة تماماً!! 

زرت تركيا قبل بضعة أشهر و حاولت تلمس مسلكيات الشباب الأتراك العامة الظاهرة، من حيث مراعاة التقاليد الإسلامية، ومظاهر التدّين، ناهيك عن أداء الشعائر، في بلد نخرت العلمانية فيه مايزيد عن ثلاثة أرباع قرن، بقوة( القانون)، وتحت مطرقة( المقدّس) العلماني!

 ومع أن الفترة لم تكن مواتية للخروج بتصوّر كافٍ، عن الوضع الجديد هناك، بيد أن الانطباع الأولي العام يجعل العين لاتخطئ ملاحظة عودة حميدة نحو الالتزام الديني على أكثر من صعيد، ولكن في صمت وذكاء، لاشك أنه قد أفاد من تجارب الماضي المرّة الدامغة للنموذج العلماني ومزايداته في الحرية والديمقراطية، مع أنه كان يتدخل في أخص خصوصيات المواطن هناك، ومنها (الحجاب)، وكان بعضنا يعتقد أن وصول العلمانية إلى هذا الدرك من الانحدار، سيدفع أصحابها إلى مراجعة جسورة لهذا المسار، سواء من علماني تركيا، أم ممن يدور في فلكهم من العلمانيين العرب والمسلمين، بيد أن بعض المفتونين بهذا النموذج يأبون إلا أن يصمّوا آذانهم، ويغلقوا أعينهم، ويتجاهلوا السقوط المروّع له على أكثر من صعيد، فكري وأخلاقي وسياسي، في أكبر بلد إسلامي ، تجرّع بهذا الداء ، ولا يزال .

قال لي زميل فلسطيني مقيم في استانبول جمعتني به مناسبة فعالية اللقاء – وهو واحد من ضحايا هذا النموذج كما اتضح لي من حديثه – "إن حزب العدالة والتنمية حزب غير صادق في شعاره الإسلامي". وآية ذلك عنده أن (المحجبات) لايزال محرّماً عليهن دخول الجامعة ، مستنكراً: لماذا لم يسارع الحزب إلى إصدار قرار فوري يقضي بالسماح لهن بذلك، عقب توليه زمام الأمور هناك؟ ومع أني أجبت عليه ببراءة: "إن ذلك أمر لا أشك أنه في أجندة الحزب، وقد نسمع به قريباً، ولكن من شأن جعل ذلك أولوية الأولويات- ولاسيما مع ما يعانيه المواطن التركي من أزمات متتابعة في المعيشة بصورة خاصة- أن يعجّل بتصديق الشائعات التي يروّج لها أصدقاء محاوري ، ولهذا تداعياته التي لا يعلم عواقبها إلا الله". وهاهو ذا قد جاء اليوم القريب الذي كان ينتظره كثيرون - وإن اختلفت الأهداف والنوايا- وهاهم غلاة العلمانيين الأتراك ، يجدون في ذلك ضالتهم، ومع يأسهم ، لكنهم لايزالون ، يحاولون – عبثاً- إعادة عجلة (التخلّف) العلماني إلى الوراء، وليت شعري : هل قرّت عينا محاوري الفلسطيني بعد ذلك الإجراء ؟!

حين فاز حزب العدالة والتنمية في المرة الأولى جاء من يقول لنا إن ذلك لم يتحقق إلا بفضل النموذج العلماني، وفي المرّة الثانية، رددوا الاسطوانة نفسها، أما حين فاز غول برئاسة الدولة- رغم كل التحدّيات والعوائق وما يعنيه فوزه من دق آخر مسمار في نعش العلمانية ودعاتها-؛ فقد صدّق بعض من كان يفترض أنهم من الوعي والحصافة بحيث يفترض أن لا ينطلي ذلك عليهم، فضلاً عن أن يقوموا بترديد ذلك الادعاء الفج، المتمثّل في أن (عظمة) النموذج العلماني هي التي منحت حزباً ذا مرجعية إسلامية فرصة المشاركة ، حتى وصل إلى الحكم! وصار رئيس الدولة من أعضائه.

 وحقاً فإن فينا فئات لا تفيد من تجارب الأمس القريب، فتلدغ من الجحر الواحد ألف مرّة! وإلا فماذا يعني نسيان هؤلاء المنجزات العلمانية (الكبرى) المتكررة في صورة قرارات الإلغاء لكل حزب يشتم منه رائحة خروج قيد شعرة عن لتعاليم صنم العلمانية الأكبر ( مصطفى كمال أتاترك)؟! وكيف لمتابع أن يتجاهل الضغط الشعبي العارم وغير المسبوق ، الدافع بحزب العدالة إلى الحكم سواء في الحكومة أم في رئاسة الدولة ، بما يعني أن أيّ وقوف ضدّ تلك الرغبة فإنه يعني دخولاً مباشرا في حرب خاسرة، مع عامة الشعب، بكل مستوياته، ومن ثم فالإقدام على ذلك انتحار سياسي مؤكّد.لكن السؤال الأهم هل سمح الفريق العلماني لحزب العدالة والتنمية بقناعة حقيقية؟ لا أقول إن ذلك أمر مشكوك فيه، بل إن كل الدلائل لتؤكّد أنه كان يتفادى ردّة الفعل الشعبية ليس أكثر، لكنه لايفتأ يحيك مؤامراته من وراء الستار، مستقوياً - في كل مرّة- بالمؤسسة العسكرية، بكل ما يحمله بعض قادتها من (دوغمائية) بـ (المقدّسات) العلمانية،وقناعة بـ(التابو) العلماني، وخطوطه الحمراء.

وما رفض أكبر مسئول عسكري حضور جلسة أداء القسم الدستوري لعبد الله غول- وفق التقاليد التركية- إلا دليل على مدى حنق العسكر، ورفضهم الضمني ، القبول بحكم حزب ذي مرجعية إسلامية، بوصف المؤسسة العسكرية حامية التعاليم الأتاتركية.

واليوم وبعد مرور بضعة أشهر فحسب يعود العلمانيون الأتراك إلى محاولة إعادة منهجهم المفضل في احتكار السلطة، وإقصاء الآخر، والذريعة حاضرة على الدوام ( تهديد المبادئ العلمانية التي قامت على أساسها الدولة التركية).

والحق أني لم أر قط ضحية يحتفي بجلاده كما يفعل العلمانيون الأتراك ،ويسعون لفرض مسلكهم في ذلك على المواطن التركي، داخل البلاد وخارجها، بكل وسيلة مشروعة أو غير مشروعة، هذا إذا كانوا لا يزالون يحملون قدراً- ولو قليلاً – من القيم الوطنية، فإذا تذكّرنا أن الخلافة العثمانية حكمت العالم الإسلامي قروناً مديدة، وكانت الند لأكبر القوى العظمى أوروبية ، وغير أوروبية، ورفعت من شأن الأتراك ، على مستوى العالم، بحيث كان يوضع للدولة العثمانية، وكل رعاياها – وفي مقدّمتهم الأتراك- ألف حساب، حتى جاء من وُصِف بمؤسس الدولة التركية الحديثة( مصطفى كمال أتاترك) فأعادهم إلى ذيل القافلة، إذا تذكرنا ذلك فإن حجم الفاجعة يبدو مهولاً مقارنة بما غدا عليه وضع تركيا بعد ذلك، مجرّد دولة قطرية، تتسول البوابة الأوروبية في كل حين، بغية قبولها في اتحادها ، وضمها للعضوية فيه، ويأتيهم الردّ الصريح من دول كبيرة بالاتحاد لتؤكّد تارة بأنه لا قبول لتركيا ، لكونها تنتمي إلى الدول الإسلامية، في حين أن الاتحاد الأوروبي نادٍ مسيحي خاص!! وتارة أخرى يخرج يوماً في بعض تلك الدول من المسئولين الكبار من يصفها - كما صرّح سيلفيو بيرلسكوني رئيس الحكومة الإيطالية الأسبق - بالدولة الظلامية، لكونها لاتزال غير خاضعة بالمطلق للنظام الغربي بحذافيره في مسألتي حريّة المرأة ، وحريّة الشواذ!! .

والسؤال الأكبر: من المتسبب في أن تتراجع تركيا إلى نهاية السلّم، أو ذيل القائمة؟ أليس هو ( أتاترك)؟ حريّ بمن جلب على شعبه وأمته ذلك العار، أن يقدّم للمحاكمة في حياته أو بعد هلاكه، بتهمة الخيانة الكبرى، حيث تسببت سياساته في  تراجعها من صدارة القيادة العالمية، إلى وضع التابع الذليل المتسوّل للقبول في النادي الأوروبي، فيأتيه الردّ من جنس الخيانة( عفواً هذا النادي مغلق على المسيحيين وحدهم)! ولعلهم نسوا أن يضيفوا" لامكان في نادينا للخونة وبائعي شعبهم و أمتهم"! 

إن المرء ليصاب بالذهول حين يجد صورة الخائن الأكبر وتماثيله تغطي مداخل مؤسسات الدولة التركية ومكاتب موظفيها، وشوارعها، ومطاراتها، وسفاراتها، ويعدّ نقده، أو التعرّض لسياساته ، في حياته، أو بعد هلاكه، إدانة لا تقبل التماس المعاذير،أو تخضع للتأويل! 

ألا مّن وقفة مراجعة جسورة!