جبال صنعاء تحتضن حضارات
بقلم/ الشرق الأوسط
نشر منذ: 15 سنة و 7 أشهر و 15 يوماً
الأربعاء 25 مارس - آذار 2009 06:49 ص
 
لا بد لزائر العاصمة اليمنية صنعاء من جولة في الجبال المحيطة بها ليتمكن من التماس روح المدينة وسرها. ولا يمكن لهذا الزائر عندما يقف على قمة أحد هذه الجبال، إلا أن يتخيل بلقيس ملكة سبأ وهي متنكرة في ثياب الرجال تهرب عبر الممرات التي نحتتها الطبيعة بين الصخور، لتنجو من الملك «عمرو بن أبرهة» الملقب بـ«ذي الأذعار» الذي حشد جنده وتوجه ناحية مملكة سبأ للاستيلاء عليها وعلى ملكتها. 

فالخصوصية التي حبت بها الطبيعة هذه الجبال جعلتها لا تشبه غيرها. إنها بكل بساطة جبال يمنية تعبق برائحة الأرض الطيبة وتجمع بين التشكيل الغرائبي لصخورها لتنفرج في بعض الأماكن وتصبح أشبه بشرفة واسعة تطل على الدنيا بأسرها، وتضيق في أماكن أخرى حتى تتحول إلى أخاديد وعرة وقاسية لا يعرف عابرها ما يتربص به خلف كل منعطف من انعطافاتها. أما التشكيل التاريخي لدورها وقصورها، فله حكاية أخرى. ذلك أن النزهة إلى هذه الجبال تكشف عن قلاع وتجمعات مدينية على قارعة الطريق تعود إلى غابر الأزمان وتحكي عن الحضارات القديمة التي عرفتها اليمن.

وحتى تكتمل عناصر الحكاية، تصطحبنا زميلتنا نبيهة إلى حصن «بيت بوس» الذي يقع على مسافة 7 كم إلى جنوب مدينة صنعاء، ويمتد مساحة كيلومتر مربع. يقال إن الحصن بني فوق حجر لقمان. كما يقال إن تحت هذا الحصن كنزاً أثرياً. ويقال إن اليهود دفنوا ذهبهم في أحد جدران المحفل. يقال الكثير. لكن الأكيد أن هذا الحصن والمنازل والأسواق المحيطة به تنبض بالحكايات والمتاهات. نقف على الرصيف الذي تم ترميمه على حساب السفارة الألمانية. نجد مجموعة من الفتية الأدلاء في انتظارنا. يقول أحدهم وهو يرفع نظره إلى الحصن على قمة الجبل: «فوق قرية المسلمين وتحت قرية اليهود». يشير بيده إلى عدة بيوت قرب نبع ماء وبحيرة صغيرة، ويضيف: «يحكون أن هناك نفقا كان يدخله المسلمون ليصلوا إلى النبع من دون أن يراهم أحد. وأنه عندما جاء الإمام يحيى وطلب من اليهود أن يرحلوا ويتنازلوا عن أملاكهم».

هنا لا بد من العودة إلى المراجع للبحث عن أصل هذا الحصن. نكتشف أن «بيت بوس» هي منطقة تعتبر من ضواحي صنعاء. سميت كذلك تيمنا بـ«اليهود الكبار» الذين بنوا المدينة وحصنوها وسوروها لحمايتها من الغزو. وتشير بعض المراجع إلى أن التسمية جاءت نسبة إلى يهودي يدعى بوس، هو أول من سكن هذه الجبال وبنى فيها البيوت التي تبلغ أكثر من 300 منزل متعددة الأدوار.

من الرصيف يبدو المشهد الفريد للبيوت وحصنها: جبل مرتفع تكسوه الخضرة وترتكز على قمته منازل متراصة، كأنها معلقة على حبال الزمن لتعكس خصوصية العمران اليمني بأدواره الممتدة ارتفاعا للأعلى.

عند مدخل الحصن شجرة عمرها 450 عاما ثمرها يشبه التين. اسمها «بالوجة». قال لنا الفتية إنها مباركة. ماذا في داخل القرية؟

يقول الفتى عيسى: «هناك مدقات ومطاحن وسوق ومدافن». ويضيف: «هنا كان الجبل قطعة صخر واحدة، لكن المسلمين الذين اعتصموا به خافوا من الهجوم عليهم، فنشروا الصخر وقسموا الجبل قسمين وصار الدخول إليهم يتم من جهة واحدة مضبوطة في حين يحتل الحصن موقعا استراتيجيا ويكشف امتدادا واسعا وصولا إلى السفح». نجول بين أزقة المدينة المهجورة. نقرأ مجموعة من الكتابات الإسلامية القديمة المحفورة على الصخر. يوضح لنا عيسى أن «أهل الحصن كانوا يعملون في الجلود والخزف والفخار. واليمنيون اكتسبوا المهارات اليدوية من اليهود الذين كانوا أمهر من صاغ الذهب».

تخبرنا نبيهة أن مجموعة ناشطين وناشطات من وزارتي الإعلام والسياحة حاولت الاهتمام بالمكان وتحويله مركزا سياحيا مزدهرا بعد تنظيفه وافتتاح استراحة والاستعانة بأدلاء من أبناء المنطقة مما يساهم في الحد من البطالة، لم يعجب الأمر وجهاء القبائل وبعض المتنافسين والمستفيدين. وتضيف بحسرة: «توقف المشروع». قبل مغادرتنا المكان، نلاحظ حضور مجموعة من الأجانب المحاطين برجال أمن. يقول عيسى: «جاءوا ليصوروا طيور البوم التي تحتل المكان ما أن يحل الظلام». ويضيف: «هنا خطفوا ثلاثة ألمان. رجل وامرأتين. الخاطفون طالبوا بإطلاق قريب لهم في السجن. وقد حصلوا على مرادهم».

ضاحية أخرى لا بد من زيارتها لتكتمل حكايات الجبال، هي ضاحية «وادي ظهر» حيث تقع «دار الحجر». أو قصر الإمام الذي يصنف ومن دون مبالغة كتحفة معمارية يمنية فريدة لا مثيل لها في العالم. وكما في «بيت بوس» لـ«دار الحجر» شجرة عملاقة تحميها. هي «التالوق» التي يصل محيط جذعها إلى أكثر من ثلاثة أمتار، ويزيد عمرها على 700 عام، وفقاً لتأكيد المرشدين السياحيين في القصر.

أهمية القصر الذي يتكون من سبعة أدوار، أنه شيد على صخرة عملاقة من الغرانيت، وهو ما يفسر تسميته بـ«دار الحجر» نسبة إلى الصخرة التي بني عليها.

المصادر التاريخية تشير إلى أن العالم والشاعر علي بن صالح العماري، هو الذي شيد هذا القصر أواخر القرن الثامن عشر الميلادي، بأمر من الإمام المنصور علي بن العباس، ليكون قصرا صيفيا له. وقد بناه على أنقاض قصر سبئي قديم، كان يعرف بحصن «ذو سيدان»، ويقول المشرفون على القصر، الذي تحول معلما سياحيا، إن الملحقات والإضافات التي بنيت في باحة القصر الواسعة، تمت بأمر من الإمام يحيى حميد الدين، بعد أن توارثه الأئمة والملوك الذين حكموا اليمن. ويتميز قصر «دار الحجر» باختلاف واجهاته الأربع، وتعدد المناظر البديعة المحيطة به، والتي تشاهَد من نوافذ الغرف والشرفات. حيث يظهر من كل نافذة أو شرفة منظر مغاير للوادي. الدار من الداخل تتكون من جناح خاص بالاستقبال في الدور الأول. وفي الدور الثاني الذي يتم الصعود إليه عبر سلم يبدو منحوتاً في الصخرة المبني عليها القصر، توجد ردهة تفضي إلى رواق مكشوف خارج الجسم الأساسي للدار، ولكنه متصل به وهو منحوت على حافة الصخرة، ليقود إلى كهوف منحوتة في الجانب الغربي منها، كانت تستخدم قبل الميلاد بثلاثة آلاف سنة كمدافن للموتى الذين كان يتم تحنيطهم في ذلك الوقت.

ولكن هذه الكهوف تحولت، في عهد الإمام يحيى حميد الدين الذي حكم اليمن هو وأبناؤه ابتداء من 1928 وحتى قيام الثورة اليمنية عام 1962 إلى أبراج مراقبة للحراسة الخاصة به. وهذا الجزء هو من بقايا القصر السبئي القديم.

مياه القصركانت تتوافر من بئر مخروطية تؤمن احتياجات سكانه. وقد شقت هذه البئر المكونة من قناتين في قلب الصخرة، حتى الوصول إلى باطن الأرض حيث توجد المياه السطحية. وتشير المعلومات إلى أن طول قناة البئر التي كانت تستخدم لسحب المياه 180 مترا، أما القناة الثانية وكانت خاصة بالتهوية فطولها 150 مترا فقط، وهي ذات مسار معوج، الأمر الذي جعلها تلتقي بقناة المياه بعد ما يقرب من 50 مترا.

من يزور «دار الحجر» لا يكتفي بالاطلاع على الفنون المعمارية للمكان وهي كثيرة وغنية ولا يستهان بها، إلا أن الأهم يبقى في التعرف على ثقافة الحياة التي كانت شائعة واستمرت حتى الستينات من القرن الماضي. فالوصول إلى جناح النساء يستوجب المرور بغرفة صغيرة مخصصة لـ«الدويدار»، وهو لفظ تركي كان يطلق على الخادم الصغير الذي لم يبلغ سن الرشد بعد، ويقوم بمهمة الخدمة وجلب الاحتياجات المتعلقة بالنساء؛ نظرا لأنه لم يكن يسمح لأي شخص من الحراسة بتجاوز ذلك «الدويدار» إلى الأعلى أو رؤية نساء القصر.

زيارة الجناح الخاص لوالدة الإمام، يرتبط بقسم آخر خاص بسكن الجواري والخادمات. وفي هذا القسم يقع المطبخ ومطاحن الحبوب المكونة من أحجار «الرحى». ومن سكن الجواري ممر يفضي إلى شرفة واسعة في الجانب الشرقي، تسمى «المصبانة»، وهي المكان المخصص لغسل الملابس ونشرها، وبالقرب من هذه الشرفة بركة صغيرة، تتجمع فيها مياه الأمطار لتستخدم في الغسل.

في الطابق الرابع تلفت النظر غرفة واسعة ومربعة الشكل وبداخلها خزنة تبدأ فتحتها من منتصف الجدار، ويتم الصعود إليها بواسطة سلم خشبي مبتكر، مكون من درجتين فقط، تسحبان إلى الخارج عند الصعود إلى الخزنة، ثم تغوصان في عمق الجدار لتكونا مخفيتين. هنا كان بيت مال الإمام.

المشربيات الخشبية التي تسمح بالرؤية من الداخل وتحجبها من الخارج تدل على الحرملك المخصص لاثنتين من زوجات الإمام. هما غالبا ليستا المقربتين. فالدور الخامس فيه غرفتا الزوجتين الأخريين، الأقرب ربما إلى قلب لإمام، لقربهما من مكان إقامته في الدور السادس. وتتوزع في زوايا عدة من دار الحجر الثلاجات الطبيعية المخصصة كأماكن لوضع الأواني الفخارية التي كانت تملأ بالمياه بغرض تبريدها، كون هذه الثلاجات تسمح بمرور الهواء عبرها من ثلاثة اتجاهات، في حين يغلق الجانب المتصل بالداخل في شكل نافذة.

متعة الجبال المحيطة بصنعاء لا تنتهي، وهي وإن بقيت حلوة، إلا أنها تمنح من يقوم بها «لسعة المغامرة». فقرب سد سعدان تقول لنا نبيهة: «من الأفضل الاكتفاء بالسد ومحيطه. ذلك أن التجول قد يكون محفوفا بالخطر. من هذه الجبال جاء الحوثيون واشتبكوا مع الجيش لدى محاولتهم احتلال صنعاء». لا تسأل عن التفاصيل. مكانها في غير هذه الصفحة.