لا يمكن فصل عملية التهيئة الإعلامية للحوار الوطني، عن التهيئة في المجالات السياسية والأمنية والإدارية، والمعيشية المرتبطة بحياة الناس، خاصة ونحن نتحدث عن حوار وطني، وليس عن حوار فئوي أو نخبوي.
فقضايا التهيئة للحوار لا تزال حتى الآن محصورة على أخبار اللجنة الفنية للحوار، لأن الأوضاع العامة مستمرة في التفاقم، وحكومة الوفاق الحزبي - للأسف - لم تنجح في أن تخطو خطوات مهمة باتجاه معالجة قضايا المبعدين عن وظائفهم قسراً، ولم تعالج قضايا الاراضي والممتلكات المنهوبة في المحافظات الجنوبية والشرقية والتهامية، كما لم تعالج قضايا الفساد في مؤسسات الدولة ومصالحها، وإنما كرستها من خلال الممارسات الخاطئة، وإجراء بعض التغييرات بعناصر غير رشيدة وغير مؤهلة، ساهمت هي الأخرى في اتساع الهوة بين الدعوة للحوار وبين معاناة موظفي الدولة من مشاكل الفساد المالي والإداري.
الى جانب أن أجزاء من البلاد في حالة فوضى كما هو الحال في عدن وتعز، وصنعاء التي لا تزال مقسمة، وتتنازعها المليشيات المسلحة، وأيضا ما يجري في أبين و صعدة والجوف وأجزاء من عمران، التي لا تخضع لسيطرة الدولة، ولا تتعامل بأنظمتها وقوانينها – بحسب تصريحات مسئولين رسميين.
وجميع هذه المشاكل العالقة، هي - بالتأكيد - عوامل لا تساعد على التهيئة لانعقاد مؤتمر الحوار الوطني، فضلا عن عدم جاذبيتها لأن تقوم وسائل الإعلام بدورها في التهيئة له، وهو دور – إذا ما تحقق - سينعكس ايجابًا في تشجّع ودفع النخب السياسية والثقافية والعامة لأن تتفاعل مع موعد المؤتمر وقضاياه.
وحينما نتحدث عن الإعلام في ظل تفاعل أحداث الأعوام مابين 2010 - 2012 م ، فلا يمكن أن نغفل الدور الكبير الذي لعبه في تأجيج الأوضاع واشتعال الأزمة، فقد جسد – فعلًا - مفهوم تأثير وفعل الكلمة عند العرب القدامى التي يقول فيها الشاعر:
أَرَى خَلَلَ الرَّمادِ وَمِيضَ جَمْرٍ *** ويُوشِكُ أَنْ يكُونَ له ضِرامُ
فإِنْ لَمْ يُطْفِهِ عُقَلاءُ قَوْمٍ *** فإِنَّ وَقُودَهُ جُثَثٌ وهامُ
فإِنَّ النَّارَ بالعُودَيْنِ تُذْكَى *** وإِنَّ الحَرْبَ أَوَّلُها كَلامُ
خطوات ممهدة:
ورغم إيماننا بحرية الرأي والتعبير، وبأهمية الكلمة، ودورها في نقل معاناة وهموم أبناء المجتمع السياسية والاجتماعية والاقتصادية والإنسانية والمعيشية، وتصحيح الاختلالات، وفضح التجاوزات - أياً كان نوعها وحجمها - إلا أن الرسالة الإعلامية، هي أولا وأخيراً قيمة وطنية وأخلاقية، وبالتالي هي ملزمة بالعمل وفقا لأخلاقيات المهنة، التي تحددها ضوابط عدم تجاوز رسالتها.
وتبعا لمفهوم أخلاقيات وضوابط المهنة الإعلامية، يمكن للإعلام أن يلعب الدور الفاعل في التهيئة للحوار، باتباع خطوات أولية تمهد لخطاب إعلامي متزن يجمع ولا يُفّرق، وبما يساعد على تهيئة الأجواء السياسية والعامة للدخول في حوار وطني بنَّاء، وذلك من خلال:
- وقف الحملات الإعلامية المتبادلة بين الأحزاب والقوى السياسية.
- التزام وسائل الإعلام الحزبية والأهلية بأخلاقيات العمل الإعلامي، وإيقاف نشر وبث وإذاعة البرامج والتحقيقات والمواضيع التي تسهم في توتير الأجواء، وعرقلة مسيرة الحوار الوطني.
- التزام جميع وسائل الإعلام الرسمية، بالعمل بمهنية وحيادية تامة، والنأي بها عن الترويج للأفكار والآراء، التي تعبّر عن طرف دون آخر، وتتحمل مسئولية الانفتاح الموضوعي على الجميع باعتبارها ملكية عامة للمجتمع.
- تبنّي وسائل الإعلام الوطنية المرئية والمسموعة والمقروءة والإلكترونية، بث ونشر وإذاعة الأفكار والآراء التي تساعد على تقريب وجهات النظر السياسية، وتهيئ بإيجابية لانعقاد مؤتمر الحوار الوطني.
- التزام خطباء المساجد والوعّاظ والمرشدين بمنهجية معتدلة في توجيه وإرشاد الناس، والدعوة للألفة والمحبة، بما يساعد على تحقيق الوفاق السياسي والمجتمعي، ويسهم في إنجاح مؤتمر الحوار الوطني.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا، هو:
- هل يمكن لوسائل الاعلام أن تتبع منهج التهيئة المطلوبة للحوار، في ظل الوضع القائم؟؟
وقبل الإجابة على هذا السؤال.. لابد من الاجابة على أسئلة أخرى ذات صلة بحقيقة حرية الإعلام، وعلاقة الإعلامي بالسياسي، خاصة وأنه يتم - غالبا - تحميل وسائل الاعلام مسئولية تأجيج الأوضاع، وتأزيم العلاقات بين القوى والأحزاب السياسية، في وقت تكون فيه براء مما ينسب اليها من تهم التأجيج وإشعال الحرائق، لأن دور الاعلامي هو دور التابع للمتبوع، وهو بالتالي ينفذ توجهات ترسمها مقايل وغرف الساسة.
وعليه، فوسائل الاعلام لا يمكن أن تلعب الدور المطلوب منها في التهيئة للحوار الوطني إلاّ في حالة واحدة فقط، هي اتفاق السياسيين حول طبيعة التهدئة وشروطها، ليتم بالتالي رسم خطوط التهيئة للحوار.
سياسي بامتياز:
فالإعلام اليمني هو إعلام سياسي موجه بامتياز، فالحزبي منه ملتزم، ولا يقبل بالآخر ولا برأيه، والأهلي – إذا ما استثنينا البعض النادر- مرهون بمن يدفع أكثر، بينما الإعلام الرسمي يعيش حالة توهان وضياع، مشتتا بين توجهات وتوجيهات ورغبات حكومة الوفاق الحزبي المتناحرة، علاوة على أنه يفتقد الى رؤية واضحة، أو استراتيجية وطنية تحدد اتجاهات عمله في التنمية والبناء.
فبمراجعة الخطاب الاعلامي الحزبي والأهلي والرسمي، سنجد ببساطة أنه ليس أكثر من خطاب مماحكات سياسية، يفتقد في معظمه الى المهنية، ويكرس مفاهيم تتنافى مع قيم وأخلاقيات العمل الإعلامي، التي ترتكز بالضرورة على "قيم ومبادئ الأمانة، والعدالة، والنزاهة، والدقة والمصداقية، والمسئولية، والتفكير الأخلاقي، واحترام كرامة الانسان، وقيم وعادات المجتمع، الى جانب احترام علاقات العمل والزمالة"، وهي - للأسف - المبادئ التي نادراً ما نعثر عليها في وسائل إعلامنا اليمنية المعاصرة.
وبمتابعة سريعة وعاجلة لأداء بعض القنوات الفضائية اليمنية (مثلا)، التي بلغت مؤخراً (16) قناة فضائية، بين رسمية وأهلية وحزبية، سنستنتج بدون عناء أن أداءها ومحتواها لا يختلف كثيراً عن بعضه، فهي جميعا تنهل من معين واحد، وبؤس واحد، ومن معاناة واحدة رغم اختلاف المسميات وتمايز الشعارات.
فهذه القنوات الفضائية لا تتمحور رسالتها الاعلامية حول القضايا الوطنية المتمثلة في الحفاظ على السيادة الوطنية، والتنمية والاهتمام بالإنسان اليمني، وإحياء قيم الانتماء الوطني ونشر الثقافة الوطنية.. وإنما أهدافها الرئيسة تتمحور حول أشخاص وزعامات فردية، ليست شيئاً أمام الهم الوطني الكبير.
فقناة (المسيرة) - مثلا - وهي تتبع الحركة الحوثية، تكرس خطاب الاصطفاء، وتمجد عنصراً بعينه دون غيره من خلق الله، وقناة (سهيل) مشغولة بتجميد بيت الأحمر، والحديث عن نضالاتهم وبطولاتهم دون الآخرين من بني البشر، وقناة (اليمن اليوم)، وهي قناة تنتمي للرئيس السابق، متفرغة لتمجيد الزعيم، وابن الزعيم وأقرباء الزعيم، الذين ملأوا الدنيا بناءً وإنجازات.. !!!، وقناة (اليمن) قناة الدولة، تحولت من تمجيد "زعيم العرب"، ومحقق الوحدة، الى تمجيد الرئيس التوافقي وتكريس عبادة الفرد،.. وقس على هذا بالنسبة لبقية وسائل الاعلام المقروءة والمسموعة والمواقع الالكترونية، إلا من رحم ربي.
ومن هنا، نقول، وللأسف الشديد ، إنه لا يوجد في بلادنا خطاب إعلامي، يقوم على رؤى واتجاهات وطنية واضحة، تركز على الاهتمام بالتنمية المجتمعية، وإنما هناك إعلام فاقد للوعي ومشتت التوجه، بحاجة الى إعادة نظر في إطار إقرار استراتيجية إعلامية وطنية تركز على البناء المؤسسي.
وأعتقد بأن وزارة الإعلام، ومؤسسات الإعلام الرسمي، تتحمل مسئولية هذا الواقع المؤسف للعمل الإعلامي، وتتحمل مسئولية جزء كبير مما وصلنا اليه من فقدان الشباب والجيل الجديد للحس والانتماء الوطني، والولاء لقيم الوحدة، وتنامي مشاعر العِداء للوحدة اليمنية، وذلك لثلاثة أسباب رئيسة، هي:
1- غياب استراتيجية إعلامية وطنية، واستبدالها باستراتيجية (ما بدا بدينا عليه).. وبالتالي غاب الإعلام المواكب للأحداث والتطورات التي رافقت قيام دولة الوحدة، والتي كان يمكن أن تكون مقدمة لتحول اليمن الى دولة محورية في المنطقة، وهو نفس المنهج الذي يجرنا اليوم الى نتائج كارثية، لا تخدم مشروع بناء الدولة الذي ثار الشباب سلميا من أجله.
2- توجيه الخطاب الإعلامي الرسمي لخدمة الفرد وتمجيده، الأمر الذي حول إعلام الدولة - ولا يزال - إلى إعلام صنمي.
3- عدم إبراز قيم العدالة والمساواة، وعدم تقديم النموذج الوطني المنتج والأخذ بيده.
فمسئولية الاعلام الرسمي كبيرة، لأنه يمتلك إمكانات هائلة، وإذا ما قام بدوره على الوجه الأكمل، فستجاريه وسائل الإعلام الأخرى، لأنه - في ظل التغيير الذي ننشده - يجب أن يقدم الإعلام الرسمي المثال أو النموذج الأفضل.
ثلاث رسائل:
في ظل الحاجة لتفعيل دور الإعلام في القضايا الوطنية، ومنها مساهمته في التهيئة الوطنية للحوار، كما في التوعية بأهمية قضاياه لابد من أن تتكامل الجهود بين المؤسسات المختصة بالعمل الاعلامي.. ولذا أوجه هنا في ختام هذه الورقة، ثلاث رسائل لثلاثة أطراف، هي المعينة فعلا بمعالجة العمل الاعلامي.
الرسالة الأولى: إلى وزارة الإعلام
رغم أن وظيفة وزارة الإعلام - لا تزال - تنحصر في إصدار التراخيص، ورفع الدعاوى القضائية ضد حرية الرأي والتعبير، لكنها تظل هي المؤسسة الرسمية الأولى التنفيذية المختصة بالعمل الاعلامي، فهي تدير وسائل إعلام الدولة، التي هي ملك للمجتمع، ولذا فرسالتي اليها تتمثل في ضرورة أن تقوم بواجبها في توجيه العمل الاعلامي الرسمي، من خلال تحقيق:
1- الحيادية في العمل الإعلامي الرسمي، وعدم اقحامه في المماحكات السياسية والحزبية القائمة.
2- التحيز والاهتمام بقضايا المجتمع والدفاع عن مصالحه.
3- الانفتاح على كل الآراء، وإشراكها في تحليل مضامين الحياة السياسية والعامة، وعدم احتكارها لطرف دون آخر.
4- عدم تحويل مؤسسات الإعلام الرسمي الى أداة لصناعة الاصنام وعبادة الفرد.
الرسالة الثانية: الى مجلس الشورى
نصت الفقرة (و) من المادة (521) من الدستور على رعاية مجلس الشورى للصحافة، وهو ما فصّله القانون رقم (93) لسنة 2002 م بشأن لائحة المجلس في فصل خاص، بمعنى أن مجلس الشورى معني دستوريا وقانونيا برعاية وتنظيم وتطوير العمل الاعلامي.
ومن هنا، يتوجب على مجلس الشورى أن يلعب دوره في المساهمة في إنقاذ الاعلام من عثرته، للقيام بدوره، تجاه مختلف القضايا الوطنية، والعمل بالتنسيق مع مؤسسات الاعلام الرسمي والأهلي والحزبي والمستقل، على تحقيق التالي:
1- تبنّي إعداد ميثاق شرف إعلامي تتفق عليه جميع الأطراف، تكون فيه نقابة الصحفيين طرفا أساسًا ومهمًا.
2- وضع استراتيجية اعلامية تركز في اتجاهاتها العامة على التالي:
- غرس قيم الاخوة والمحبة والسلام والحوار.
- تكريس قيم الانتماء الوطني، والولاء للوحدة ورفض مفاهيم التشرذم والانقسام.
- إحياء وبث روح وقيم العدالة والمساواة، ورفض التعصبات المذهبية والعنصرية والقبلية.
- الاهتمام بالإنسان اليمني، وطرق تنشئته، باعتباره أهم ثروات الوطن ومدخراته، وهو المدخل الأساس للبناء والتنمية الحقيقية.
3- إنشاء مجلس أعلى للإعلام، يرعى تطوير العمل الاعلامي، يخضع لإشراف وتوجيه مجلس الشورى.
الرسالة الثالثة: الى الضمير الإعلامي:
الصحفي بحكم فطرته وتكوين الوعي الاخلاقي لديه، يمتلك من القيم الاخلاقية ما تمكنه من أن يلعب الدور المهني المطلوب منه كإنسان، وكوطني معني بالبناء الوطني، وبالتهدئة والحوار الوطني، والتمرد على التوجهات والتوجيهات السياسية والتمويلية المدمرة للتقارب والحوار.
ومن هنا، يمكن أن نعول الكثير على الضمير عند الصحفيين أنفسهم، لأن مهنة الصحافة، هي مهنة ضمير أولاً، وبيد الشرفاء من الصحفيين أن يفعلوا الكثير، وفقا للقيم الاخلاقية الكامنة في أعماقهم الانسانية.