ماذا تبقى من هيبة المقدسات ورجال الدين؟
بقلم/ دكتور/فيصل القاسم
نشر منذ: سنتين و 11 شهراً و 11 يوماً
السبت 20 نوفمبر-تشرين الثاني 2021 07:09 م
 

عودوا إلى الوراء عقدين من الزمان أو أكثر قليلاً وقارنوا الوضع في ذاك الزمان مع الوضع الآن، فسترون تغييرات وتحولات تاريخية لم تكن تخطر على بال ولم يكن يتوقعها كثيرون. والحديث هنا عن الرموز والمقدسات والأفكار والمظاهر الدينية حصراً، فقد تعرضت تلك «الأساطير» خلال فترة وجيزة لما يشبه الزلازل بالمفهوم الثقافي والديني والاجتماعي.

لقد احتلت العقل الجمعي لشعوب المنطقة وأسرته، لحقب طويلة، منظومة متناسقة من القيم والمفاهيم السلوكية والأساطير والمعتقدات وطبعت شخصيته بعض رموز وشخصيات كان مجرد الاقتراب منها يشكل مخاطرة كبرى لكنها تحولت اليوم لـ«دريئة» ومرمى سهام ونقطة تلاق وحقل رماية لشرائح شتى للنقد والمراجعة والتدقيق وحتى التجريح والتشهير، وزال الغطاء والستر الطهراني المقدس والعصمة عن كثير من الأساطير والمفاهيم الراسخة والروايات المتداولة، وباتت إعادة طرحها وتداولها في السوق والشارع الثقافي ضرباً من المحال.

وقد ساهمت مواقع التواصل مساهمة كبرى وفعالة في تحطيم الكثير من الرموز والأفكار والطواطم الدينية آخذين بالاعتبار الدور الذي لعبه ما يسمى بالربيع العربي الذي كان القشة التي قصمت ظهر الإسلام السياسي ودمرته وألـّبت عليه الملايين وحولت المجموعات الدينية التي كانت تتدثر بثوب الدين المقدس إلى نماذج للسخرية والإدانة والإرهاب.

هل كان أحد يستطيع أن يناقش رجل دين في مسجد أو في مكان عام أو حتى على شاشات التلفزيون أو بشكل شخصي؟ مستحيل. لقد كان الوعاظ والشيوخ يتمتعون بقدسية عز نظيرها، وكان الناس يتباركون بمجرد لمس شخصية دينية أو السلام عليها أو حتى مشاهدتها على الشاشات. لم يكن أحد ليتجرأ على أكثر من توجيه الأسئلة لها بكثير من الخشوع والخوف والوجل على أمل أن يحصل على إجاباتها «المقدسة» التي لا يأتيها الباطل من خلفها أو من بين يديها. لقد كانت فتاوى وتحليلات وشروحات رجال الدين والخطباء أشبه بالطابو الديني الذي يجب أن تتقبله بكل خنوع وورع وإجلال. وأتذكر قبل حوالي عقدين ونصف من الزمان كيف كان الوضع عندما بدأ البعض يفكر بتقديم برامج تجمع بين رجال الدين والعلمانيين أو الملاحدة. لقد شعر كل من حاول أن يدخل هذا المجال الشائك بأنه دخل حقل ألغام مرعباً، لأن مجرد التفكير باستضافة علمانيين كان بمثابة خطيئة كبرى، فكيف إذا دعوهم لمواجهة رجال دين؟ وأتذكر وقتها كيف قامت الدنيا ولم تقعد لمجرد أن بعض البرامج التلفزيونية استضافت علمانياً أو علمانية لمناقشة قضايا دينية، فقد كان ذلك عملاً فدائياً بامتياز لأي إعلامي لأنك تكون بذلك قد دخلت في المحظور والممنوع، لكن المهمة الأكبر في أي عمل خطير هو أن تعلق الجرس، وبعدها يبدأ الآخرون بالتخلص من مخاوفهم شيئاً فشيئاً. وهذا ما حصل بالضبط إلى أن أصبح التصدي لرجال الدين وفضحهم، و«شرشحتهم» على الملأ، وحتى إهانتهم إعلامياً أسهل من شرب الماء على مواقع التواصل وحتى في الفضائيات العربية.

ولو نظرتم الآن إلى الكثير من الشخصيات والجماعات التي كانت تحمي نفسها بأثوابها وشعاراتها ومظاهرها الدينية، وكيف كان الناس يرتعبون لمجرد أنها طالتهم بكلمة، وقارنتم الوضع بما يحدث لها اليوم لعرفتم مدى التغيير الذي حصل خلال فترة وجيزة، وهو عمل جبار ومرعب وخطير، وتحول نوعي في المواقف والمزاج والرأي العام لا يمكن تجاوزه، خاصة أن للرموز المقدسة في الثقافة العربية مكانة لا يمكن أن تجدها في أي ثقافة أخرى إلا ربما عند رجال الدين والكنيسة في القرون الوسطى قبل أن يأتي عصر التنوير وينقلب عليها المجتمع بفضل الأفكار التنويرية الجديدة وبداية العصر الصناعي.

انظروا إلى بعض الشخصيات الدينية التي كانت تحظى بشعبية هائلة في الأوساط الشعبية قبل عشرين عاماً، وكيف صارت الآن محاصرة ومنبوذة وهدفاً للتجريح والتقريع والإساءة في مواقع التواصل ووسائل الإعلام الرسمية حتى. لقد صار مجرد ذكر اسمها من قبل البعض تهمة خطيرة، فبدأ الناس يبتعدون عنها شيئاً فشيئاً بعد أن لعبت ماكينة الشيطنة الإعلامية والسياسية لعبتها الخطيرة ونجحت فيها نجاحاً باهراً.

انظروا إلى كلمة «جهاد» أو «مجاهد» اليوم. هل مازالت تتمتع بتلك القدسية والهيبة والهالة المعهودة، أم إنها صارت صنواً للإرهاب والإرهابي، وخاصة بعد ما يسمى الربيع العربي بعدما تعرض مفهوم الجهاد للكثير من النقد والتجريح وحتى التشهير والتشكيك والمطالبة بإعادة النظر بالمفهوم، كلياً، الذي ربطه كثيرون بنشوء الإرهاب وتعاظم ظاهرة الإسلاموفوبيا التي باتت تهدد المسلمين وحياتهم واستمرارهم بالغرب كنتيجة حتمية للكثير من المفاهيم السائدة والقائمة وخاصة بعد هجوم 11/09 الإرهابي الكبير.

وكنتيجة لتعاظم النقد للخرافات والأساطير، وبعض الشعوذات التي دخلت العقل الجمعي وباتت جزءاً لا يتجزأ منه، وقد اكتمل النُقُل بالزعرور، كما يقول المثل الشعبي، فقد بدأت السعودية، نفسها، معقل الإسلام الأول في العالم، ومهد رسالته، بملاحقة رجال الدين وإيداعهم السجون بعد أن بدأ عهد الانفتاح والانشراح واستبدال هيئة الأمر بالمعروف بهيئة الترفيه.

ما الذي حصل بالضبط؟ ماذا بعد سقوط أهم أسلحة وأدوات الأنظمة العربية وهي ترويج الجهل والأساطير والخرافات الدينية والتلطي وراء رموز دينية استخدمتها لتطويع وتركيع الشعوب لعقود وعقود؟ ألم تعش الأنظمة لحقب على الجهل والأساطير؟ ألم يكن وعاظ السلاطين والمتلاعبون بعقول البشر دينياً أهم حلفائها؟ ماذا ترى الجنرالات العسكر الكبار بنياشينهم التي نالوها في الحروب الخاسرة، فاعلين بعدما كانوا، يتأبطون أذرع الشيوخ المشعوذين، بتقوى وورع ودروشة الكهنة البوذيين، في الصلوات ويخرون بخشوع بالمناسبات الدينية وبنفس الوقت يطاردون العلمانيين والتنويريين ويمنعون توظيفهم ودخولهم مؤسسات الدولة؟ لماذا لا نقول إن الأساطير والشخصيات الدينية أنهت المهمات القذرة الموكلة إليها وأن الثورة المعلوماتية والتكنولوجية والانفتاح أفقد الأنظمة أهم أسلحتها وهو التجهيل وامتلاك وسائل الإعلام، وصار هناك سلاح جماهيري حر يحطم أهم أسلحة الأنظمة وهو سلاح الجهل الذي استخدموه طويلاً لحماية عروشهم.

طبعاً البعض يعتبر سقوط الرموز الدينية، وذهاب بريقها، وأفول وهجها، اعتداءً على الدين وتهجماً عليه، لكن كثيرين يعتبرونها خطوة طال انتظارها للتحرر من ربقة الدجالين وتجار الدين، وبالمقام الأول، انقلاباً على الأنظمة التي تاجرت بالدين ورموزه واستخدمته كأداة سياسية لتثبيت أنظمتها وحكامها وضبط الشارع والمزاج العام عن طريق رجال الدين. ويرى أصحاب هذا الموقف أن الغرب لم يتطور إلا بعد أن تخلص من مؤسساته ورموزه الدينية. وعندما يقول بعض الإسلاميين إن العرب لم يتطوروا تاريخياً إلا بالدين، يرد عليهم خصومهم بالقول إن الصين التي باتت تنافس على عرش العالم في كل شيء غالبية سكانها بلا دين.

كاتب واعلامي سوري