الإرهاب في اليمن .. حصاد الأفق المسدود
بقلم/ غازي المفلحي
نشر منذ: 14 سنة و 9 أشهر و 26 يوماً
الخميس 07 يناير-كانون الثاني 2010 08:38 م

لم يكد الرئيس الأمريكي ينهي بلاغه الصحفي باتهام فرع القاعدة في اليمن بمحاولة تفجير طائرة أمريكية خلال رحلتها من أمستردام إلى ديترويت عشية عيد الميلاد حتى تناقلت وكالات الأنباء تقارير إخبارية عن توجه أمريكي لتعزيز التعاون العسكري والإستخباراتي مع اليمن لمنع تحوله إلى ملاذ آمن وحاضن للإرهاب والإرهابيين.

هل عجز الغربيون - محللين ودوائر استخبارات - عن الوصول إلى الحقيقة التي يفترض أنها واضحة وجليه وهي أن التطرف في اليمن ليس إلا المنتج الطبيعي لمشاعر الإحباط واليأس وانعدام الأمل التي تحاصر شرائح واسعة من الشعب اليمني .. وبالنتيجة فان اقتصار التعاون مع اليمن أو تركيز هذا التعاون في الحرب ضد الإرهاب على الجانب الأمني فقط ( الإٍستخباراتي والعسكري) لن يحقق المأمول منه في احتواء أو محاصرة هذه الظاهرة الخطرة.

تسويق الاعتقاد بان حل هذه المشكلة هو فقط حل أمني خاطئ وقاصر .. هو خاطئ لأنه يركز على معالجة النتيجة ويهمل الأسباب التي أدت إليها.. وقاصر لأنه يكتفي من الصورة برؤية قمة جبل الجليد لكنه يعجز عن رؤية جسم الجبل السابح تحت الماء.

بل أننا لا نجافي الحقيقة إذا قلنا بان التجربة قد أثبتت أن التمادي باستخدام القوة التي تنفذها أجهزة أمن محلية وغربية لم تؤد إلى تقليص الظاهرة بل على العكس من ذلك أدت إلى تمددها وزيادة انتشارها في بيئة تبدو جاهزة لاستقبال هذا النوع من مظاهر التمرد الجمعي المنظم الذي تغذيه مشاعر مكبوتة بالاضطهاد والقهر لا تجد صعوبة في إيجاد ما يسندها في واقع الممارسة من حجج و شواهد .

الثابت تاريخيا أن اليمن بحكم تركيبته السكانية المتنوعة مذهبيا وثقافيا ودينيا قد عرف ومارس ثقافة التسامح لفترة طويلة من الزمن وباستثناء القليل من التوثيقات المتواترة عن محاولات بعض الحكام في فترات متباعدة استغلال هذا التميز أو التمايز لفرض رؤيتهم وسطوتهم فان العلاقات التي حكمت التعامل الفردي والجماعي لهذه التجمعات السكانية قد قامت على قاعدة التسامح مع الآخر والاعتراف به .

ويكاد هذا القول لا يوّصف تاريخيا حالة المجتمع اليمني فحسب بل يوّصف حال معظم المجتمعات الإسلامية.. ويستطيع المطلعون على التراث الإسلامي وتاريخ المسلمين أن يؤكدوا هذه الحقيقة ، فالتاريخ الإسلامي كله لا يحمل لنا سوى نموذج وحيد وفريد لمجموعة منظمة عرفت باسم (الحشاشين) ظهرت إلى الوجود في 1092م في المنطقة المحاذية لبحر قزوين اتخذت من الاغتيال وسيلة لإرهاب الخصوم السياسيين تحت غطاء ديني لكنها سرعان ما اختفت بمثل السرعة التي ظهرت بها حيث لم تجد في المجتمع الإٍسلامي تربة صالح لنموها .

فإذا كان ذلك هو واقع الحال التاريخي فإن التساؤل الذي لابد أن يثب إلى الذهن هو مالذي يدفع إذن مجتمعا ينفر بحكم تكوينه من الغلو والتطرف لكي يتحول إلى مفرخ وحاضن للإرهاب ؟

والإجابة برأيي أيضا بسيطة وواضحة وهي أن الغلو والتطرف وما يستتبعة من عنف وإرهاب هو أمر طارئ مستحدث دخيل على المجتمع اليمني وليس سلوكا متأصلا فيه .

سببان برأيي يقفان وراء هذا التحول الدراماتيكي الذي طرأ على المجتمع اليمني :

أولا :التدهور المريع في مستوى المعيشة

حرب الخليج كانت البدء .. حيث يصدق القول أن (أم المعارك) البائسة كانت بالنسبة لليمنيين أم المصايب والكوارث .. وبدون الدخول في جدل عقيم حول خروج اليمنيين من دول الخليج إبان الأزمة أو إخراجهم ..فان النتيجة التي تمخضت عنها هي عودة مئات الآلاف من العمال اليمنيين وعائلاتهم إلى اليمن في وقت لم تكن اليمن فيه مهيأة لاستقبال هذه الأعداد الغفيرة حيث شكلوا ضغطا هائلا على البنية الأساسية الضعيفة أصلا ناهيك عن فقد اكبر مورد للدخل القومي في ذلك الوقت وهي تحويلات هؤلاء المغتربين .

وكانت النتيجة المباشرة لهذه الكارثة هي عجز موارد المجتمع الذاتية المحدود والشحيحة عن الوفاء باحتياجات الناس الأساسية المتزايدة من التعليم والصحة والعمل .. الخ.. فوصلت نسبة البطالة إلى 40 % أما النسبة المتبقية والمحسوبة على الفئة العاملة فقد انخفض دخلها الحقيقي إلى الحد الذي يكفي بالكاد لتوفير ضرورات الحياة ، وعجزت منظومة التعليم عن استيعاب الطلاب وأثر التكدس الكبير في الفصول الدراسية على مستوى الأداء التعليمي ومستوى التحصيل وزادت نسبة التسرب التي قدرتها مصادر موثوقة بما يزيد عن 50% في التعليم الأساسي لمراحل ما قبل الثانوية العامة .. أما الخدمات الصحية فقد لحق بها تدهور مروع .

فإذا أضفنا إلى ذلك أن معدل الخصوبة في اليمن هو واحد من أعلى المستويات في العالم و دخول اليمن في أكثر من أزمة حرب داخلية.. فسوف لن نحتاج إلى مزيد كي نتخيل حجم الانهيار الذي لحق بمستوى معيشة اليمنيين خلال العشرين السنة الماضية .

ثانيا: المماطلة والتسويف في بناء دولة سيادة القانون

عبر العصور و وبامتداد القارات هناك حقيقة سجلها علماء التاريخ والاجتماع ويعرفها كل دارس في واحد من هذين الحقلين (لا يسود السلم الاجتماعي في أي مجتمع إلا إذا شعر وتحقق أبناؤه أنهم سواسية أمام القانون .. فإذا

غاب القانون واختل ميزان العدل ظهرت الأزمات والقلاقل والثورات ).

ورغم أن اليمن اختبرت هذه الحقيقة مرات عديدة في تاريخها الحديث كما أن هدف بناء دولة سيادة القانون كان على الدوام في مقدمة أحلام الآباء المؤسسين للجمهورية الأولى عام 62 فإن السير باتجاه تحقيق هذا الهدف ظل على الدوام بطيئا ومعوقا ، وليس هناك من تفسير لهذا التعويق المتعمد لتثبيت هذه الركيزة الهامة من ركائز بناء الدولة وتحقيق السلم الاجتماعي سوى تدخل جهات متنفذه تعتبر نفسها فوق القانون وتمتلك من الإمكانيات والنفوذ ما يمكنها من تعطيله معتقدة – صوابا أو خطأ - أن مصالحها لا تتحقق إلا في غيابه.

غياب سيادة القانون يعني تخلي الدولة عن دورها الأساسي في رعاية مصالح المجتمع.. فيلجأ الناس في سعيهم لحماية أنفسهم ومصالحهم إلى بدائل يمنحونها الولاء بدلا عن الدولة.. والبدائل قد تكون عودة إلى الخلف بالتراجع إلى الولاء العشائري والقبلي أو قفزة إلى المجهول بالانضواء تحت ألوية تنظيمات وتجمعات ثائرة ومتمردة

هذان السببان أدى كل واحد منهما إلى نتائج ثانوية كان لها اكبر الأثر في إحداث هذا التغيير الذي نتحدث عنه:

-فانهيار مستوى المعيشة أدى في جانب منه إلى تقليص حجم الطبقة الوسطى وحول معظم هذه الطبقة إلى فقراء في حين أن وجودها ضروري في مفاهيم علم الاجتماع الحديث لضمان التوازن الاجتماعي.. وبالنسبة للمجتمعات المستقرة تشكل الطبقة الوسطى في المعتاد الشريحة الأكبر عددا والأوسع انتشارا يعلوها طبقة محدودة العدد واسعة الثراء في أعلى السلم الاجتماعي ، في مقابل طبقة محدودة أخرى من الفقراء في أدناه .. ويحدث الخلل عندما تضمحل الطبقة الوسطى بتحول جزء كبير منها إلى فقراء كما هو حال اليمن الآن .

-ومن جانب آخر أثر انهيار مستوى المعيشة على مستوى التعليم كما وكيفا.. فقد أدى عجز منظومة التعليم (مدارس ..مدرسين .. أدوات تعليم ..الخ)عن استيعاب الأعداد المتزايدة للطلاب بسبب شحة الإمكانيات إلى انخفاض مستوى التحصيل لهؤلاء الطلاب بحيث يتخرج الطالب من الثانوية العامة بما يكاد يعادل محو الأمية.. وهو أعلى مستوى متاح يمكن أن يحققه الطلاب في ظل ما تسمح به الظروف الاقتصادية السائدة .. أما التعليم الجامعي فلا تتاح فرصة إكماله إلا لنسبة تقل عن 20% من الذين يلتحقون في سلك التعليم .

-التدهور المعيشي أيضا دفع آلاف الأسر إلى إخراج أبناءهم أو إذا شئنا الدقة أطفالهم من المدارس مبكرا جدا ليدفعوا بهم إلى سوق العمل بغرض تحسين ظروف الأسر التي لم تعد قادرة وحدها على تلبية احتياجاتهم الضرورية .

هكذا تعاون الفقر والجهل وشحة إمكانيات المجتمع في خلق حالة عامة من اليأس والإحباط وانسداد الأفق وهو البيئة المثالية لنشر وترويج التطرف والإرهاب .

غياب سيادة القانون أدى بدوره إلى نتائج لا تقل خطورة عن سابقتها :

-الأولى هي تعمق وتجذر الفساد ليشمل معظم مواقع الوظيفة العامة .. أفقيا ورأسيا نخر الفساد في جميع الاتجاهات دون خوف من مساءلة أو حساب ، وقدم الكثير من النافذين نموذج الفساد الآمن من العقاب فسار على دربهم الكثيرون ، وبعد أن كان نهب المال العام أو الرشوة سلوكا ممقوتا لدى شرائح واسعة من المجتمع يستدعي الحياء والخجل أصبح أمرا مقبولا وربما ممجدا ، أما الطهارة ونظافة اليد فقد ارتبطت حتى في أذهان الجمهور بالهبالة والسذاجة .

-الثانية زيادة المظالم الاجتماعية ..فكم من الحقوق انتهبت وكم من الأرواح أزهقت عدوانا وظلما لأن أصحاب الحق عاجزون عن الدفاع عن حقوقهم ، في حين لا يوفر المتنفذون استخدام ما يقع تحت أيديهم من إمكانيات الدولة أو سلطتها للإستقواء بها إذا دعت الحاجة على من لا ظهر لهم ولا نفوذ.

ومثلما أدى انهيار مستوى المعيشة إلى خلق حالة عامة من اليأس والإحباط فان غياب تطبيق سيادة القانون قد قاد هو الآخر إلى خلق حالة عامة من السخط والغضب أسهمت بدروها في تهيئة التربة الصالحة لنمو ونشر وترويج التطرف والإرهاب .

(وفي ملاحظة عابرة في هذا السياق يمكن لنا أن نؤكد مطمئنين أن دعوات الانفصال التي تتبناها قطاعات واسعة من الجنوبيين يعود معظمها إلى سخط الناس بسبب غياب تطبيق مبدأ سيادة القانون وان هذه الدعوات سوف تنحسر حتما بمجرد إحساسهم بصدق التوجه لتطبيق هذا المبدأ).

عود على بدء

والخلاصة هي انه إذا كان حل مشكلة الإرهاب والتطرف في اليمن لا يمكن أن يكون امني وعسكري فقط فان الحل الناجع برأينا لا بد أن يكون برنامج مركب المهام ليس الأمني والعسكري إلا وجها واحدا من وجوهه المتعددة ..

-الوجه الأول هو توفر إرادة سياسية مصممة وعازمة على مواجهة الفساد وتطبيق مبدأ سيادة القانون إن تطبيق هذا المبدأ لن يساعد فقط في انضباط الجهاز الإداري المترهل .. بل .. سيسهم أيضا في تنفيس مشاعر السخط والغضب التي تعتبر احد أركان بيئة التطرف هذا من ناحية .. ومن ناحية أخرى سوف يعطي صورة مختلفة عن الدولة خارج اليمن ويشتت الصورة النمطية التي كرسها الحديث المستمر عن الدولة الفاشلة والضعيفة والفاسدة وهي خطوة ضرورية لإقناع المجتمع الدولي بان مساعداتهم الاقتصادية لن تضيع هباء وسوف تذهب لخدمة الأغراض المخصصة لها ، كما أنه يعزز الثقة في قدرة الدولة على استيعاب هذه المساعدات .  

-الوجه الثاني هي توفر رغبه صادقة لدى المجتمع الدولي لدعم اقتصادي مؤثر يستهدف استكمال مشروعات البنية الأساسية والتوسع في بناء مشروعات استثمارية وتنموية تسهم في الحد من البطالة المتفشية وتعمل على زيادة الناتج القومي والدخل القومي إلى الحد الذي يمكن المجتمع من تحقيق الاعتماد على إمكانياته الذاتية .

في هذا السياق وعلى المدى القصير فانه سيكون مفيدا لو أن دول الخليج العربية فتحت الباب ولو جزئيا لاستيعاب نسبة من العمالة اليمنية بحسب احتياجاتها بغرض مساعدة اليمن في التخفيف من نسبة البطالة الكبيرة التي وصلت إلى حد الأزمة ، كما أن التحويلات التي سيقوم بها هؤلاء العمال سوف تساعد في زيادة الدخل القومي المطلوب بشدة للتخفيف من حدة المشكلة . 

-الوجه الثالث هو اهتمام خاص بالتعليم يقوم على زيادة الميزانية المحلية المخصصة للتعليم وأيضا زيادة المساعدات الدولية المخصصة لهذا الجانب باعتبار أن نجاح التنمية وثيق الصلة بمستوى تعليم ووعي المجتمع وهذا يتطلب خطة تطوير تهدف إلى زيادة عدد المدارس لاستيعاب اكبر عدد ممكن من الطلاب ، وزيادة كفاءة جهاز التعليم وتطوير المنهج التعليمي ، وفتح الطريق أمام الطلاب لإكمال تحصيلهم العلمي الجامعي بما يخدم متطلبات التنمية .

ونختم بالقول أننا نعلم أن انتهاج هذه المقاربة في مواجهة هذه المشكلة هو خيار الطريق الصعب لكننا واثقين من نتيجته الإيجابية طالما انه يتجه إلى معالجة الأسباب والدوافع ولا يكتفي بمعالجة الأعراض والظواهر وهذه النتيجة ليست مجرد رؤية نظريه ولكنها قراءة واقعية لحقائق المجتمع اليمني البعيد كل البعد عن كل مظاهر الغلو والتطرف .