يحكي ان القائد المغولي الشهير "تيمورلنك" خلد للراحة في خيمة كبيرة اقيمت له بعدانتهائه من خوض معركة صعبة, وقد زينت الخيمة باعمدة من الذهب المرصعة بالجواهر, وعرضت في جوانبها اكداس من الفضة والاحجار الكريمة, ونفائس المشغولات النادرة, وجلس "تيمور لنك" وسط ابهة من الثروة والجاه مزداناً باغلى وازهى الثياب, والى تلك الخيمة استدعى شاعراً ليسمع منه مديحاً ومظاهر الثراء والمجد المحاط بها القائد المغولي العظيم..
سأل "تيمور لنك" الشاعر وهو يشير الى النفائس المكدسة في خيمته: لو عرضت للبيع فبكم تشتريني؟..
تمعن الشاعر في وجه القائد المغولي’ وفي أرجاء خيمته, وبتمهل اجاب: اشتريك بستة عشر ديناراً.. وبدهشة وغضب قال "تيمور لنك": ستةعشر ديناراً انها لاتساوي ثمن هذا الحزام الذي اشد به خصري.. رد الشاعر: انما قصدت ثمن الحزام, اما انت فلا تساوي شيئاً..
وعلى مر العصور ظل الحكام المحميون من رقابة شعوبهم ينفقون الاموال الطائلة ببذخ لاحدود له ليظهروا اقوياء ومهابين وبهذه المظاهر يقيسون مكانة الدول التي يتربعون على عروشها, ولايزال العديد من الحكام المعاصرين الذين حصنوا انفسهم من مساءلة شعوبهم ينفقون ثروات بلدانهم لكسب الولاءات, غير مكترثين بما يتركه ذلك من فقر وحرمان يحولان حياة غالبية مواطنيهم الى جحيم..
وبصورة ما, كانت الديمقراطية اختراعاً انسانيا عظيماً لم يجعل انتقال السلطة وتداولها سلساً وسلمياً فحسب, بل وخفض بشكل جذري التكلفة الباهظة, التي طالما ظل الحكام المستبدون سواءً كانوا ملوكاً او رؤساء يجبرون شعوبهم على دفعها, فالحاكم الديمقراطي رخيص جداً ليس لانه عفيف اليد, وانما لانه لايستطيع ان يتفرد بتصريف الثروة الوطنية لبلاده, او يستخدمها في متعة الشخصية, او في خدمة اهدافه السياسية من اجل البقاء في سدة السلطة الى مالا نهاية..
وبالمقارنة بين تكلفة ديكتاتور مكشوف سواءً كان ملكاً او رئيساً, وبين تكلفة مستبد يتظاهر بالديمقراطية فان تكلفة الاخير هي الاغلى والافدح, فالنوع الاول يستهلك جزءً كبيراً من الثورة الوطنية على متعة الشخصية وعلى امنه الشخصي والعائلي, وهو نفس الشيء الذي يفعله النوع الثاني, ولكن بزيادة اخرى تلتهم ماتبقى من الثورة الوطنية تنفق لشراء الولاءات ولتمويل اللعب السياسية الديمقراطية المستخدمة في انتاج الشرعية واعادة انتاج الشرعية التي يحكمون باسمها..
ولسوء حظ اليمن ان التطور السياسي فيها افضى بها لان تنتمي الى النوع الثاني (المستبد المتظاهر بالديمقراطية) الامر الذي يضع اوضاعها من الناحية الجوهرية في قائمة البلدان الخاضعة لانظمة حكم استبدادية, حيث تمارس فيها اعاقات قوية تحول دون تطور الديمقراطية الناشئة فيها, وفيها ايضاً تعمل آليات الاستبداد الراسخة على منع تحول الديمقراطية الى اداة للتغيير والاصلاح.. ولان اليمن بلد فقير وشحيح الموارد فان الاستبداد المتظاهر بالديمقراطية اتى على كامل الثورة الوطنية, وحال دون توظيفها في خدمة التنمية التي تعاني من ركود شبه كلي, وعندما يتساءل المرء عن المآل الذي تذهب اليه ثروات اليمن, فانه يجد جواباً واضحاً في شبكة المصالح غير المشروع لقوى الفساد المهيمنة في هذا البلد, ويعتمد عليها كأساس لتثبيت استقرار كرسي السلطة, أي ان الفساد القائم في اليمن لاينطلق من ضعف في التكوين الاخلاقي لممارسي الفساد, وانما يستند الى خدمة مصالح سياسية محددة, جعلت العلاقة بين احتكار السلطة من ناحية وتمكين قوى الفساد من ناحية ثانية وثيقة الى درجة لايمكن فك الارتباط بينهما..
هذا التحالف بين الاستبداد والفساد, كون مايمكن تسميته بالثقب الاسود الذي يحتل سماء اليمن, ويقوم بابتلاع ثرواتها وامتصاص قدرات ابنائها واحباط آمالهم, وسد منافذ التغيير والاصلاح التي تلوح امامهم بين اونة واخرى..
لابد ان يدرك اليمنيون ان استقرار الرئيس علي عبدالله على كرسي السلطة لمدة 28 سنة قد حرمهم من فرص التنمية التي اتاحتها الاكتشافات المتوالية لثروات النفط والغاز, وجعلتها التطورات العلمية والتحولات الاقليمية والدولية ممكنة, غير ان هذه الفرص قد اهدرت فعلاً, وحافظت اليمن على التخلف المهيمن عليها, على تدني موقعها في سلم التطور الانساني وبينما كان العالم يتطور من حولها, كانت مشاكلها تزداد تعقيداً واوشكت ان تخسر كل شيء بما في ذلك الزمن الذي يضيع منها..
لقد ذهبت بعض الاوساط السياسية الى تقدير الاموال المرصودة لتمويل الحملة الانتخابية للرئيس بحوالى ترليون ريال أي الف مليار من الريالات بمقابل خمسة وعشرين مليوناً اقر مجلس النواب صرفها لكل مرشح للرئاسة من الخمسة المتقدمين الذين زكاهم الاجتماع المشترك لمجلسي النواب والشورى, وعلاوة على هذا الفارق الخرافي بين المال المتاح لتمويل حملة الرئيس وحملات الاربعة المرشحين الاخرين, فان الأوساط التجارية المضغوط عليها من قوى الفساد الحاكمة قامت بجمع مليار ريال لصالح حملة الرئيس, وتعد بجمع مليار اخر..
وبغض النظرعن صحة الارقام المتداولة, الا ان الاخبار الاتية من بعض المناطق تتحدث عن اموال طائلة تنقل هذه الايام بالشاحنات بهدف شراء ولاءات الناخبين, ويمكن مقاربة حجم الاموال المرصودة لحملة الرئيس من خلال كمية الصور الخاصة بالرئيس التي صرحت بعض المصادر القيادية في الحزب الحاكم بانها اقرت طبعها, وتبلغ خمسمائة مليون صورة, أي مايساوي خمسة وعشرين صورة لكل مواطن يمني..
في ذات الوقت لايجوز اغفال مايكلفه توظيف جهاز الدولة بكامله لصالح حملة الرئيس, من موظفين كبار ومتوسطين وصغار, ومن امكانيات ووظائف ووسائل اعلام, وتجنيد كافة اجهزة الدولة بما في ذلك تحركاتها السياسية الخارجية والداخلية لخدمة الحملة نفسها..
على ان هذه الامكانيات والاموال الطائلة لم تقنعهم بان القوة التي يتصرفون بها تكفيهم لحملة معتبرة, اذ لايزال رهانهم الرئيسي معقوداً على التحكم بالعملية الانتخابية, وتكيف نتائجها, وهذا يمثل تكلفة سياسية ومعنوية واخلاقية اضافية.. ارأيتم كم هي تكلفة الرئيس باهضة؟.
في الثلاثاء 15 أغسطس-آب 2006 09:46:16 م