|
ياسين البرتغال وآل ياسيننا اليوم: التَّارِيخُ كنزٌ دفينٌ ثمينٌ لا يُقَدَّرُ بثمنٍ، فيه من جواهرِ الفوائدِ ولآلي العظاتِ ما تُغْنِي الإنسانَ والدولَ حكاما وحكومات وشعوبا وأمما عن كل فقرٍ ونزاعٍ وتَفَرُقٍ ووهنٍ وانحطاط. دروسٌ وعِبَرٌ لتصحيحِ المسارِ ومراجعةِ الخطأ وصنعِ حياةٍ مثاليةٍ تزخرُ بالعدلِ والخير والسلام والقوةِ. ومما قرأتُ وتدبرتُ أنقلُ لكم مختصرا وبتصرف، مما جاء في كتابِ (المغالطات وأثرها على الأمة) للكاتب المؤرخ الشيخِ السوري محمود شاكر شاكر، عن مدينة عدنَ حين احتلها البرتغاليون. يقول: “عندما احتل البرتغالُ عَدَنَ في1513م، هاجر كثيرون منها لاجئين إلى مناطقَ مجاورةٍ، بينما عاش البقيةُ في عدنَ تحت سيطرةِ الاحتلالِ. وقام الأهالي بمقاومةِ المحتل، وبرغم عشوائيتها ولكنَّها بَثِّتِ الرعبَ والقلقَ فيهم. ليردَ المحتلُ بمزيدٍ من التنكيل ضد الأهالي، وأمام هذا المدِ الشعبي غَيَّرَ المحتلُ استراتيجيتَه، عَبْر مد قنواتٍ سريةٍ بينه وبين بعض الزعماءِ المحليين (السلاطين) في المناطقِ المجاورةِ لعدن وإغرائهم بالمال ودعمهم بالسلاحِ، ولكن هذا لم يجعلْ أحدا منهم يتجرأ على الاعتراف بالمحتلِ كسلطةٍ شرعيةٍ لعدن.
وطوال 15 عاما لم يستفدِ المحتلُ منهم شيئا، فقد كانوا يخشون على مراكزِهم من غضبِ رعاياهم. وأمامَ فشلِ الزعماء تحولَ المحتلُ إلى خطة بديلةٍ، تتطلبُ شخصا مغمورا لا يخشى خسارةَ شيء، ويستطيع التحركَ بين الناس بحرية وخُفيةٍ. فتم التوافقُ على تجنيد أحدِ الذين خرجوا من عدن. وبعد دراسةٍ مركزةٍ وقع الاختيارُ على شابٍ لم يبلغ الثلاثين عاما، يُدعى(عبد الرؤوف أفندي). واستدعاه سلطانُ المنطقةِ تلك، فعرضَ عليه تكوينَ جماعةٍ مسلحةٍ، تحملُ في ظاهرِها مقاومةَ المحتل وفي باطنها تكون متعاونةً معه، وتعهد له السلطانُ بتأمين الإمكانيات اللازمةِ، متعهدا بانضمام أعوانه واتباعِه إلى المقاومة، وتم وعدُه بمستقبلٍ تكونُ له فيه سلطةٌ وقوة ومنح مادية جزيلةٌ، وكلُ ما يجعله شخصيةً قياديةً مرموقةً لدى العدنيين. وافق عبدُالرؤوف على كل شيء، وبدأ التنفيذُ مدعيا النسب الحسيني، لتحل جماعتُهُ محلَ جماعةِ مفتي عدن، ونادى ياسينُ بضرورةِ تحرير عَدَنَ، فانقادت له الحشودُ، وقام البرتغاليون بدعمه سرا بالمال وبعضِ السلاح ليظهرَ أمامَ الأهالي مقاوما قوميا وأطلقوا عليه اسما حركيا(ياسين).
وبعد عدة عملياتٍ متفقٍ عليها مع الاحتلال، شاعَ ذِكرُهُ وأصبحَ الكلُ يلقبه بالزعيم، بدأت اللعبةُ تتوسع، بتأسيس كيانٍ، شعارُهُ تحريرُ عدن وتكوين فصائلَ قتاليةٍ تتبعه، فانخرط فيها كثيرٌ من مهاجري عدن، وبدأت تدخلُ إلى الأرض المحتلةِ وتقومُ ببعض العمليات الناجحة، فارتفع سهمُ اتباعه، وفَرَضَه المُخَطِطُ كزعيمٍ ملهم ومخلصٍ، يجسدُ الأملُ عند المُهَجرين بيوم العودةِ، وعند المقيمين بالخلاص من قبضة المستعمرِ. أخذ ياسينُ ينادي، لا مهادنةَ ولا مساومةَ مع المغتصبين، ولزيادة حبكةِ الاقناع فقد شن العدو حملةً إعلاميةً ضد جماعةِ ياسينَ، متهما إياهم بالتدميرِ والإرهابِ. فتدفقت أموالُ التبرعاتِ عليه والدعمُ من كل جهةٍ. ولزيادة التوترِ شن المحتلُ هجوما على مُخيمات اللاجئين في الحواشب، وقاموا بمذابحَ منكرةٍ، لتبدأ مرحلةٌ جديدةٌ من مخطط الصراعِ. انتفض المقيمون في عدن، مما أدى إلى لفتِ نظرِ الرأي العامِ، فضغطت دولٌ أوروبيةٌ ممن لها مصالحُ مشتركةٌ مع البرتغاليين على السلاطين، وطلبت منهم وأدَ حالةِ التوتر في عدن. فعقدوا في تعزَ اجتماعا، وقرروا الاعترافَ بسلطة البرتغال، وأن يتولى أمرَ ذلك الاعترافِ الزعيمُ العدني، الذي أعلنَ استعدادَهُ لحضور المؤتمرِ الذي دعت إليه دولُ أوروبا، مؤكدا على حقِ العدنيين في الحريةِ، متحديا البرتغال على الحضور، وهي قد أبدت اعتراضَها تقويةً لموقفِ ياسين وإبرازه الداعي القوي. وفي هذه الأثناء تم إجبارُ سلطانِ مدينة لحج على التخلى عن عدن، ومنحُ أهلِها حق تقرير مصيرهم بأنفسِهم، وهكذا أصبحت عدنُ وحدها بين البرتغال العدو الجلي، وبين العدو الخفي الذي تظنه سندَها.
وهنا حان دورُ ياسين، فبعد الاجتماعِ، خرج الزعيمُ معلنا عن حكومةٍ شرعية خاصة لأهل عدن، سريعا ما اعترفَ السلاطينُ بها كحكومة فاعلةٍ، ثم أعلن اعترافَهُ بالبرتغال كسلطةٍ أخرى في عدن، وتم عقدُ اتفاقٍ بين السلطتين، فأصبح لعَدَن حكومتان، حكومةٌ وهميةٌ لأهل عدن بقيادة ياسين، لها أجزاءٌ من عدن، تشرفُ على الميناء القديمِ في صيرةَ، والثانية للمحتلين، ولهم الجزءُ الأكبرُ، يشمل التواهي وخليجه حيث الميناء الجديد. وبعد زوالِ الغشاوة عن العيون، وبين عضِ أناملِ الأسفِ وشدِ شَعَرِ الندمِ، وقف أهلُ عدنَ يُفَكِرون بآثارِ وأبعاد الدورِ الوطني الوهمي الذي لعبه ياسينُ عليهم، ويحَلِلُون ألاعيبَهُ وتمثيلَهُ و...و...، وكيف خدعهم ياسين فأوصلَهم بدعمٍ حماسي منهم إلى ما يرفضونه قطعيا من الحلول والتسوياتِ، يحدثون أنفسهم، وثقنا به وأسلمناه قيادتنا، قائلا نرفضُ التفريطَ في شبرٍ من أرضنا، ثم خدعنا، فقال نوافقُ.. باع قضيتَنا، أرضَنا، وباعَنا... هل نحتاجُ بعد كلامِ الشيخ محمود شاكر إلى شرحٍ أو تعليق، أو تحليلٍ أو مقارنة، أليس ما حدث قبل أكثر من 500 عامٍ هو ما يحدث في قرننا هذا؟، بالرتم نفسِه والنمط والآلياتِ والشخصياتِ، وبالسيناريو ذاتِه بنصوص التلون على الشعوبِ واستغفالهم، لتكونَ دماؤهم حطبا لتدفئةِ قصور قادة الوهم، وأجسادُهم حريرا لكراسي مراكزهم. يتغيرُ الزمانُ والمكانُ وطاقمُ القصةِ، ولكن تبقى حبكةُ المخططِ راسخةً لا تغييرَ فيها. ساستُنا اليومَ دون تمييزٍ هُمْ ياسين الأمس، والزعماءُ المتعاونون مع العدو هم حكوماتُ وكياناتُ اليوم، والشعبُ المخلصُ المُستَغفَلُ هو شعوبُ اليوم، دون اختلافٍ كبيرٍ يُذْكَرُ. وهناك الكثيرُ من العِبَرِ التي يستطيع القارئُ مطابقتها تماما مع أحداثٍ كثيرةٍ جرت في عموم وطننا، ومواقفَ من مكوناتنا السياسيةِ عامةً ومن دولٍ حليفةٍ وأممٍ متحدةٍ.. وبينهم وطنٌ يُدمَّرُ ويَخسَرُ، وشعبٌ يُفنى ويتحسَرُ... وكلُ قيدٍ-يوما- حتما سَيُكْسَرُ.
في الجمعة 24 فبراير-شباط 2023 06:47:34 م