بين العِزَّة والذِّلة... رؤية في الأبعاد والدَّلالات القُرآنية
بقلم/ نشوان المخلافي
نشر منذ: 13 سنة و 6 أشهر و يومين
السبت 25 يونيو-حزيران 2011 04:53 م

إن نظرة متأملة في نصوص القرآن الكريم التي تحدثت عن العزلة والذلة تقودنا إلى الإيمان بحقيقية المصدرية الإلهية لهذين المعنيين, فالعزة والذلة من الصفات المهمة والتي تنبئ عن كريم التوجه البشري نحو الفضائل, أو الانزلاق نحو مستنقع الرذائل.

إن العزة في أبسط معانيها الشرف والحصانة من أن ينال المرء بسوء كما يراها ابن عاشور, أو هي حالة مانعة للإنسان من أن يغلب كما يعبر عن ذلك الراغب الأصفهاني, بينما يقصد بالذلة القهر والخوف أو ما كان عن قهر, وخوف كما يشرح ذلك أهل اللغة.

ولما كانت هاتان الصفتان من الأهمية بمكان في تحديد السلوك البشري نحو المكارم أو المآثم فقد أبان القرآن الكريم تفاصيلهما في مواضع متعدد بالدعوة إلى العزة, وبالتحذير من الذلة وسلوك مسالك أهلها.

إن استقراءً بسيطاً لنصوص القرآن حول العزة ومواضعها كقوله تعالى: ﴿يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [المنافقون: 8], وكقوله تعالى: ﴿وَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ [يونس:65], وكقوله: ﴿مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ﴾ [فاطر:10], وقوله: ﴿سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ﴾ [الصافات:180].

هذا الاستقراء يقودنا إلى العديد من الدلالات الموضوعية والمقاصد القرآنية والتي منها: أن عزة المؤمن الحقيقة هي لله وفي الله, وأن مصدر العزة الأوحد هو الله الواحد الأحد فلا تطلب من أحد سواه, ومهما بلغ البشر في الدنيا مبالغهم فلا يمثلون مصدر اعتزاز, ولا منبع منعة أو قوة, ومنها أن عزة المؤمن تزيد في الدنيا ولها درجات الكمال في الآخرة, بينما عزة الكافر يعقبها ذل الانهزام, والقتل والأسر في الدنيا, وذل الخزي والعقاب في الآخرة, ومن الدلالات أن عزة المؤمن هي العزة الدائمة, وأن عزة أهل الدنيا عزة فانية تزول بقدر بعد الناس عن مصدر العزة سبحانه وتعالى, وهناك بعداً آخر يمكن استشرافه من الآيات وهو أن العزة الصحيحة حقيقة تستقر في القلب قبل أن يكون لها مظهر في دنيا الناس, فأهل العزة ثقتهم بالله لا نظير لها, ولا تعلق لهم بمصالح الدنيا من مال أو جاه أو منصب, ولا ارتباط بين مقتضى العزة لديهم وبين خوفهم من الخلق.

وإذا ما استقرأنا الجانب الآخر لنهي القرآن عن الاعتزاز بغير الله تعالى نجد تحذيراً صريحاً لهذه الصفة وبرهاناً على ذمها ونفيها عن المؤمنين بل وإلصاقها بالكفار والمنافقين, ومن تلك النصوص قول الله تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾ [البقرة:206], وقوله تعالى: ﴿يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [المنافقون:8], والأبعد من ذلك وصف الله لأهل السيئات بأنهم أهل الذلة: ﴿وَالَّذِينَ كَسَبُواْ السَّيِّئَاتِ جَزَاء سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَّا لَهُم مِّنَ اللّهِ مِنْ عَاصِمٍ﴾ [يونس:27], وكذلك ذم الذين اتخذوا العجل نداً لله تعالى فوصفهم بالذلة : ﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ﴾ [الأعراف:152], ولقد تضمنت الآيات السابقة العديد من الأبعاد والدلالات والمقاصد القرآنية والتي منها: أن الله يمقت صفة الاعتزاز بغيره, ولو كان غيره من أعظم أهل الدنيا, وأن صفة الذلة صفة تلازم أهل السيئات والمعاصي الذين جعلوا اعتزازهم بالفاني فركنوا إلى زخارف الدنيا وأسندوا عزتهم إلى غير محلها, ومن الدلالات أن الذلة من صفات المنافقين والكفار الذين انخدعوا بغير المنهج السوي في توجيه سلوكهم البشري فانخرطوا إلى الاعتزاز بمواليهم وحكامهم والقوة التي بحوزتهم متناسين مصدر العزة الأوحد الذي يعز من يشاء ويذل من يشاء, ومنها أن الله منح الذين يعتزون بغيره أوسمة العار والصغار في الدنيا فوصفهم بأوصاف مبكتة وهي عدم الفقه, والافتراء على الله, وكأن مسلك الاعتزاز بغير الله يفضي إلى تجريد المرء لعقلانيته وانخراطه في مزالق الفرية على الله تعالى.

إن نظرة واقعية في دلالات اللفظين (العزة والذلة) ترشدنا إلى أمرين: الأول مدى وثوق أقوام بنصر الله لهم, واعتزازهم به سبحانه حين خرجوا في مقارعة الظلم ونبذ الباطل, وطلب الحرية والعدل, حين ألصقوا اعتزازهم بمصدره الرباني فلم ترعبهم قوة الدبابات ولا أصوات الطائرات, ولا أفواه البنادق, ولا صناعة المؤامرات وفوضى الاستخبارات, فوقفوا كالجبال الراسيات عزة واعتلاء ومنعة واحتماء بحمى ربهم يسيرون ومن منبع الإيمان يشربون.

وأما الثاني: فهو الانهزامية والذلة التي لحقت بأهل الأهواء والمصالح فتخلوا عن قيم الإنسانية, وتوارت أنظارهم عن الحق والحقيقة فبرزوا في أعتى صور الوحشية, وأشنع المواقف البشرية, وساهموا في الطعن بالوطنية, وبدت سوءاتهم واضحة في الشر المحض نحو أوطانهم وأهليهم وذويهم, وتعرت مبادئهم من قيم الخير وحرصوا على جلب المصالح لأنفسهم اعتزازاً بالإثم, وحرصاً على العزة الفانية.

إن من أهم الآثار التي تصيب السلوك البشري نتيجة للخلط بين مفهومي العزة والذلة الانجرار نحو الخلط بين القيم والأهواء ومن ذلك تفشي ظاهرة التخفي والتستر على الجرائم التي ينتهجها أهل الذلة في الدنيا, والسير في قطار أمانيهم, والخلط بين الجريمة الممنهجة والمشهد التمثيلي في سبيل نصرة مفاهيم مصطنعة لا تمت بصلة إلى الحق ولا إلى العدل, كمفهوم الشرعية الدستورية أو الوطنية المطلقة, والتي لا تخدم سوى أمنيات العزة المزعومة التي تختلف مضموناً وشكلاً عن العزة الحقيقية.

ومن الآثار أيضاً الانقلاب القيمي لدى الناس فيصبح ركونهم إلى المحسوس أكثر من ركونهم إلى الثقة والإيمان المجرد, ويصبح ركونهم إلى القوى الدنيوية أكبر من ركونهم إلى الثقة بالنصر الرباني, ويصبح خوفهم على الوظيفة والمصلحة والمنصب على حساب القيم والأخلاق والولاء لله ثم للوطن, ويصبح الهلع يسيطر على أفئدتهم باتجاهات فئوية هدفها الحفاظ على المكانية والدونية الزائلة في سبيل الحرص على طريق دنيوي يفضي إلى الذلة بكل معانيها ومختلف أشكالها.

إن البون قد بدا شاسعاً بين المفهومين, وظهر بوضوح الفرق بين السلوكين, وهما مفترق طريقين علينا أن نحدد أيهما نختار في ظل التسارع المستمر في الزمن والأحداث, وفي ظل معطيات تحتم علينا أن نعلنها صريحة مدوية, إما عزة حقيقية, وإما ذلة مقيتة!!!