|
ترجل الفارس صاحب (فرسان الميدان).. غادرنا "علاو" باكرا تاركا جواده اليماني في بيداء الحياة وحيدا، يجر لجامه تائها، كما ترك الشاعر القديم مالك بن الريب جواده الأشقر يسيح بالفيافي (لم يترك له الموت ساقيا) وفارسا يضاهيه حنكة ومراس.
هكذا هي الحياة ميلاد فممات.. مهد ثم لحد، وبينهما تفاصيل حياة على مدار سنوات عجاف، وإن كان قليلها سمان.. وحياة فقيدنا "يحيى علاو" كانت مزيجا من النجاح والألم، عاشها مع الناس بحلوها ومرها راضيا دون أنين من حيف الزمن.
وبروح إنسانية محبة للحياة كد واجتهد ليرتقي برسالته خدمة لوطنه وشعبه بكل مكوناته وفئاته.. وتجربته الإعلامية زاخرة بالعطاء مزدانة بالألق، عزف فيها عن كل ممل ورتيب، وأبهر مشاهديه بالجديد والمفيد.
غيب الموت فارس (فرسان الميدان) نبأ كان على من سمعه كارثة، ومساء الاثنين الماضي كنا على موعد بالفاجعة.. خبر sms باغت سكون الناس كالصاعقة.. توالت الأنباء، وكثر الناعون، وتعددت المراثي والتعازي برحيله المر.
يمر الوقت وقلوب الناس تحترق عليه كأشجار السفانا حزنا وحسرة، وإن كانت حالته الصحية ميئوس منها، سيما وأن السرطان كان قد استشرى في كل أجزاء جسده الطاهر، لكن ممات الطيبين أمثاله يدخل الناس دوامات صمت، ويحيل المدن إلى خرائب.
"من أحبه الله أحبه الناس" حديث نبوي جسده آلاف اليمنيين في اليوم التالي لإعلان وفاته، رجل عظيم يجمع الناس على حبه بعد ما أثبت للجميع فروسيته وقدرته على الفعل الخلاق، لهذا توافد الناس إلى العاصمة صنعاء من كل فج للمشاركة في مراسم دفنه ردا للجميل.
بمشاركة شعبية واسعة شيع اليمن واحدا من خيرة فرسانه إلى مثواه الأخير في مقبرة (الأحمر) بعد الصلاة عليه في جامع (الصالح).. ساعات من الذهول والبكاء خيم على مشيعيه في موكب جنائزي لم تعرفه صنعاء من قبل لأسباب جديرة بالذكر منها صدق الشعور، وعفوية الحضور.
صغار وكبار، نساء ورجال شهدوا لحظاته الأخيرة، وفاء لروحه وتخليدا لمآثره تحمل محبيه وعثاء السفر، ومشقة التزاحم في ظهيرة صنعانية ملتهبة وسط ميدان السبعين على مقربة من رئاسة الجمهورية وفاء لفارس وفي صنع المستحيل لإسعاد وطنه، فقابلته السلطة بالنكران والجحود.
إطلالة بانورامية على جميع المشيعين الذين ضاق بهم الميدان الفسيح انتابني شعور بالعزة غمرني غيث الأمان، فتذكرت نتفة لدرويش تقول "على هذه الأرض ما يستحق الحياة"، وفلسفة "علاو" قائمة على ذلك لهذا كانت حياته وأعماله من الناس وإليهم، ومشواره الإعلامي حافل بالعطاء، تماهت أناه مع الآخر، وأشرق نوره على من سواه، آخر لحظات الوداع، تسمر الناس في المقبرة وبصوت حزين تضرع له الجموع بالدعاء، وذرفوا عليه الدموع.. وبين مهلل ومكبر ابتهلت الألسن بذكر ربها وارتجفت القلوب من خشيته، من شهد الجنازة سيحس بأسى العبارة، وعظمة رجل استثنائي نحت اسمه في الذهن الجماعي بأزهى نقش.
جنازة الفقيد "يحيى علاو" ما أروعها من جنازة.. حضر الشعب، وغابت الدولة، ونعم جنازة لم يتقدمها رموز السلطة، هنا لا خير لو تغيب الحاكمين، لقد أشرقت على "السبعين" شموس البسطاء والمساكين، حضور طاغ سد محل السلطة، وأعادت الاعتبار للفارس الإنسان "يحيى علاو" ولكل قيم الحب والسلام التي زرعها على الروابي وفي الفيافي، وقيعان البحار.
تفاصيل عديدة رافقت مراسم دفن المناضل الجسور والمثقف الفذ "علاو" الغريب فيها الحضور الكئيب لوزير الإعلام حسن اللوزي، حضور جلب عليه سخط بعض المشيعين على خلفية إيقاف الفقيد من العمل في قناة (اليمن) ومصادرة مستحقاته المالية بحجة عمل علاو في قناة "السعيدة".
قرارات مجحفة جعلت من الوزير عرضة للنقد الجماهيري الجارح، وهدفا سهلا لطيش المتدافعين في "السبعين". ولولا تدخل شرطة النجدة في الوقت المناسب، لتعرض للأسوأ، درسا محرجا لوزير الإعلام نتمنى منه قراءة أبعاده، ليعيد النظر في قرارات مشابهة أضرت بعشرات الموظفين في وسائل الإعلام الرسمية انتهت مراسم الدفن.. هدأت الجموع لتبدأ رحلة معاكسة تحت جحيم الشمس، وبخطى بطيئة غادروا الميدان في كل اتجاه مشكلين اختناقات مرورية في أكثر من شارع.
وخلال رحلة الإياب كانت الأحاديث تدور على مآثر الفقيد وإبداعاته، وبلهجات مختلفة كنا نسمع معلومات عن محطاته الإبداعية التي جسدها على الشاشة الفضية.
يا لهذا الوطن المنعوش.. ويا لها من حياة موحشة في بلد مسرطن.. ورغم تعاسة حظنا وبؤس حالنا تنهال علينا المصائب، ولطالما شعرنا بحيف القضاء، وهجمات القدر حين يخطف اللآلئ والدرر أمثال فقيدنا المحتضر.
إنه عام الحزن.. والمآتم! هذا العام ليس لرمضان هلال.. ستكون الليالي كئيبة بلا "فرسان الميدان"،ولا ميدان بلافارس، وداعا أيها الفارس الإنسان، واطمئن ليس فينا منك نسختان لكي يواصل ما بدأت في الميدان، لقد كفيت ووفيت! فرحمة الله تغشاك على الدوام......
sharabi53@gmail.com
في الخميس 24 يونيو-حزيران 2010 05:54:04 م